مشكلات الحوكمة في قانون الاستثمار الجديد
هل يعنى المزيد من المال المزيد من التنمية؟ قضية جوهرية تحيا مصر تفاصيلها منذ عقود، متمثلة في نظرة الدولة للاستثمار والمستثمر، وعلاقتها به.
فى إطار الاقتناع بنظرية أهمية إحداث التراكم الرأسمالي قدمت مصر منهجًا للتعامل مع الاستثمار المحلى والأجنبي قائم على جذب الاستثمار وخاصةً الأجنبي، سواء بالعمالة الرخيصة أو بالطاقة الرخيصة وتيسير إجراءات تخصيص الأراضي أو بالإعفاءات والحوافز الضريبية.
وظل القانون رقم 8 لسنة 1997 يعمل في إطار منهجية منح الحوافز الضريبية والجمركية للمستثمرين، بل ونصت المادة(3)منه عند صدوره على أنه "لا تخل أحكام هذا القانون بأية مزايا أو إعفاءات ضريبية أو غيرها من ضمانات وحوافز أفضل مقررة بتشريعات أخرى أو اتفاقيات"، أي فتح المجال لتعدد التشريعات المانحة للامتيازات من ناحية وأقر بهذا المنطق كجاذب للاستثمار ثانيًا، وعددت مواده الحوافز الممنوحة للمستثمرين في صورة إعفاءات، بل وجاءت التعديلات التالية على القانون لتزيد من هذه التعديلات لعل من أبرز الأمثلة على ذلك تعديل المادة (20)من القانون رقم 8 لسنة 1997 بالقانون رقم 13 لسنة 2002 بمد فترة الإعفاء لخمس سنوات.
إلى أن جاء قانون الضريبة على الدخل رقم 91 لسنة 2005 ليتبنى فلسفة مختلفة، وهى فلسفة الحد من الإعفاءات المتعلقة بالضريبة على الدخل في مقابل تخفيض الضريبة على أرباح الشركات بشكل عام لما لا يتعدى20%؛ ونصت المادة الثالثة من قانون الضريبة العامة على الدخل على ما يلي: "تلغى المواد أرقام (16، 17، 18، 19،21، 22، 23 مكرر، 24، 25، 26) من قانون ضمانات وحوافز الاستثمار بالقانون 8 لسنة 1997من قانون ضمانات وحوافز الاستثمار الصادر بالقانون رقم 8 لسنة 1997".
إلا أن الميل نحو منح الامتيازات ظل مستمرًا، في صورة تخصيص أراضٍ مجانية من خلال التعديلات التى تمت بالقانون رقم 30 لسنة 2005، والذي منح سلطة تخصيص الأراضي وبالمجان لرئيس مجلس الوزراء؛ وتعديلات قانون المناقصات والمزايدات بالقانون رقم 191 لسنة 2008 والذي قصَر من فترة مراجعة التكلفة التي قيمت وفقها التعاقدات، قواعد الأمر المباشر، بالإضافة إلى حزمة من القوانين الخاصة التي أعطت سلطة تخصيص الأراضي بالأمر المباشر للدولة مثل قانون إنشاء المجتمعات العمرانية الجديدة.
وبقيت الملاذات الضريبية ومشكلات التهرب الضريبي موجودة، ثم تشابكت التعديلات المختلفة في خلق شبكة من المستفيدين من التشريعات الاقتصادية، التى جاء هدفها المعلن هو التبسيط والإصلاح؛ وهو الهدف الذي لا يمكن الخلاف حوله.
كان من المفترض أن يتغير الفكر الحكومي مع بروز قضية مهمة، وهي أن الأداء غير المسبوق على مستوى الاقتصاد الكلي وتكون شبكات المستثمرين، لم يصاحبه إحساس لدى المواطن العادي بثمار هذا الأداء؛ وبالفعل تناولت مجموعة من التقارير الدولية المشكلات المتعددة التي صاحبت نموذج الدفع بالاستثمار في الفترة السابقة لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، التي أرجعت عدم قدرة الاستثمار على تحقيق دوره في خلق فرص العمل ومكافحة الفقر إلى قيام الاقتصاد على توفير مجموعة من عوامل الحفز، والتي تميز بها الأقرب للسلطة، وعدم وجود نظم عادلة وشفافة لإدارة الاستثمار والأسواق.
ويواجه مشروع قانون تطوير منظومة الاستثمار الجديدـ والذي يهدف إلى تأسيس الرؤية الاقتصادية للتحالف الحاكم الحاليـ العديد من المشكلات الخاصة بالحوكمة، مثل التناقض الواضح في مشروع القانون إقراره لمبدأ المساواة بين المستثمرين؛ حيث تنص المادة 10 على أن الدولة تكفل المساواة بين المستثمر الأجنبي والمحلي، وتنص المادة 11 أيضًا على أن الدولة تكفل المساواة بين المستثمرين الأجانب والذي يعتبر في حد ذاته شيء إيجابي؛ حيث يستخدم هذا النص لقطع الطريق على تخصيص المزايا بالأمر المباشر التي عانى منها الاقتصاد المصري طويلا لما تحمله تلك الممارسة من تفضيل لبعض المستثمرين القريبين من السلطة أو الساسة المستثمرين، لكن تأتي المادة 12 لتفرغ تلك المادتان من مضمونهما تمامًا فتنص على إجازة استثناء للعديد من الجهات الحكومية في "أن تفاضل في معاملتها ما بين المستثمرين تنفيذًا لنص في قانون أو مراعاة لمتطلبات الاقتصاد أو الأمن القومى وذلك بعد موافقة مجلس الوزراء".
وتتعارض أيضًا المادتان 23 و26 مع المواد التي تكفل المساواة بين المستثمرين إذ تعطي مجلس الوزراء سلطة تقديرية لمنح المستثمرين حوافز وإعفاءات ضريبية إضافية، وتخصيص الأراضي المملوكة للدولة دون مقابل. وهذه السلطة التقديرية تفتح الباب على مصراعيه للمحاباة وجعل التقرب من الحكومة هو السبيل للحصول على تلك المزايا الاقتصادية، وهو أيضًا ما يشكل تعارضًا صارخًا مع المواد 10 و11 التي تكفل المساواة بين جميع المستثمرين.
من مشكلات الحوكمة الرئيسية الأخرى التي يأتي بها مشروع قانون تطوير منظومة الاستثمار، هي تحصين وحماية المستثمر ضد المحاسبة القضائية، ويعمل القانون على طمأنة المستثمر بأن يد العدالة بعيدة عنه فى حال ارتكاب مخالفات عن طريق العديد من المبادئ، على رأسها: إجراءات تحصين العقود المبرمة بين الحكومة والمستثمر عن طريق السماح فقط بطرفي العقد بالطعن عليه كما كان الحال بالقانون رقم 32 لسنة 2014 الخاص بتنظيم بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة الصادر عن رئيس الجمهورية السابق عدلي منصور، وهو المبدأ الذي تم نسخه في المادة 14 من مشروع القانون التي تنص على: "الأحقية لأطراف التعاقد دون غيرهم، الطعن ببطلان العقود التي يكون أحد أطرافها الدولة أو أحد أجهزتها من وزارات، ومصالح، وأجهزة لها موازنات خاصة، ووحدات الإدارة المحلية، والهيئات، والمؤسسات العامة، والشركات التي تمتلكها الدولة أو تسهم فيها، أو الطعن بإلغاء القرارات أو الإجراءات التي أبرمت هذه العقود استنادًا لها".
والمبدأ الثاني هو ما ورد في المادة 15 بعدم جواز رفع دعوى أو اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق في جرائم المال العام المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني التي ترتكب من المستثمر بصفته أو بشخصه إلا بعد موافقة مجلس إدارة الهيئة العامة للاستثمار، وهو من منظور الحوكمة والفصل بين السلطات يعتبر تعديًا سافرًا من السلطة التنفيذية ممثلة في الهيئة العامة للاستثمار على السلطة القضائية، وتعديًا على مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. والمبدأ التشريعي الثالث الذي يؤدي إلى حماية المستثمر من المحاسبة القضائية، هو آليات فض المنازعات المستقلة عن القضاء المصري، والتي تمنح درجة جديدة من الحصانة والحماية ضد المحاسبة القضائية ضد مخالفات المستثمرين. وتنتزع هذه السياسات التحصينية من استقلال القضاء وسيادة القانون، وخصوصًا في ظل التعريف الواسع للمستثمر في مشروع قانون الاستثمار، "أي شخص طبيعي أو اعتباري يستثمر داخل جمهورية مصر العربية".
وبذلك كله يحتفظ مقترح مشروع تطوير منظومة الاستثمار المعروض وفق النسخة الأخيرة التي تم تداولها في الصحف، بنفس البنية التحفيزية والحمائية للمستثمر، وكأن المستثمر كيان مستقل عن منظومة التنمية في الدولة، وعن استراتيجيتها التي لا تنفصل فيها الحريات والقضاء المستقل عن النموذج المتبع في الإدارة الاقتصادية وإدارة أصول الدولة وعلاقتها بالقطاع الخاص.
وإن حمل مشروع القانون مميزات عدة، منها: تبسيط بعض الإجراءات وتخفيف العبء البيروقراطي عن المستثمر، إلا أنه لم يقض على تعدد التشريعات الحاكمة للاستثمار وتخصيص الأصول، كما أنه في مادته رقم 69 حمى الهيئات المنوط بها تنشيط الاستثمار والتعامل مع المستثمرين من جميع القوانين المتعلقة بإدارة الهيئات المرتبطة بالدولة، بتوضيحه أنه للهيئات في سبيل إنجاز مهامها الاستعانة بأفضل الكفاءات والخبرات المحلية والعالمية دون التقيد بالحدود المنصوص عليها في أي تشريع بشأن المعاملة المالية للعاملين والمديرين والخبراء الاستشاريين كالحد الأقصى للأجور الذي يسري على كل أجهزة الدولة الأخرى.
لا تزال الفلسفة التي تحكم قوانين الاستثمار في مصر تنظر فقط للمستثمر والحكومة باعتبارهما أصحاب المصلحة الوحيدين في الشئون المتعلقة بالاستثمار، متجاهلة العمال والنقابات والمجتمع المدني والمجتمع ككل، فعضوية الهيئات تتشكل من رجال الأعمال والمسئولين الحكوميين، والقوانين تناقش فقط في اتحادات المستثمرين، في حين أن الاستثمار جزء من منظومة التنمية في الدولة، لا يمكن أن يعامل بشكل منفصل عنها.
تم نشر هذا المقال عبر موقع مدى مصر بتاريخ 13 مارس 2015