المرأة القانونية: العنف الجنسي بقيادة دولة القانون
وافق مجلس الوزراء في الأيام الماضية على مشروع بتعديل قانون العقوبات وإدراج جريمة التحرش بشكل صريح فيه. وبرغم وجود بعض النواقص في المشروع المقترح (كحصر تعريف التحرش على الملاحقة والتتبع، مع أن الكثير من التحرش اللفظي والجسدي لا يتطلب ذلك) إلا أن النص الجديد هو انتصار ليس ببسيط. ولكن المشكلة أنه حتى إذا تم تجريم التحرش بشكل واضح وصريح، فهي تبقى جريمة يشجع عليها المجتمع والدولة والقانون!
إن القانون والمحاكم يشجعون على التحرش، ليس بشكل مباشر بالطبع ولكن عن طريق تأسيس صورة معينة للمرأة هي ذاتها تلك الصورة التي يستخدمها جزء كبير من المجتمع لتبرير العنف الجنسي أو لوم ضحاياه، فللقانون فكرة واضحة عن المرأة، عن دورها، عن لباسها، و قيمة جسدها، بل إن للقانون تقييم محدد لأجزاء جسدها المختلفة، يترتب عليه خلق صورة معينة للمرأة تجعلها أكثر عرضة للتحرش.
بعد حادثة التحرش الجماعي في جامعة القاهرة اضطُر مقدم البرامج تامر أمين ورئيس الجامعة جابر نصار إلى تقديم اعتذار عن ردود أفعالهم الأولية التي انطوت (بدرجات مختلفة) على تبرير الواقعة بسبب ملابس الفتاة. ولكن إذا قرأنا ما حكمت به المحكمة الدستورية حين أفتت بأن المرأة "يتعين أن يكون مظهرها منبئاً عن عفافها (...) ويكون نائيا بها عن الابتذال، فلا يقتحمها رجال استمالتهم إليها بمظاهر جسدها، مما يقودها إلى الإثم انحرافاً، وينال من قدرها ومكانتها" (المحكمة الدستورية، القضية رقم 8 لسنة 17 قضائية) نجد أن القانون (والدستور) والمحاكم لديهم أيضاً فكرة محددة عن صورة المرأة تجعل في انحرافها عن تلك الصورة مبرراً للتحرش.
مثال آخر على ظلم القانون للمرأة هو المادة المجرمة للاغتصاب (المادة ٢٦٧ من قانون العقوبات) والتي يبدو وكأنها تكرس فكرة محددة للأسباب التي يجب من أجلها حماية المرأة من الاغتصاب. فالمادة لا تعتبر إجبار الرجل للمرأة على ممارسة الجنس اغتصابا إلا إذا كان هناك اتصال جنسي" كامل" بين الأعضاء التناسلية للذكر والأنثى، أي إن القيام بما اصطلح على تسميته بكشف العذرية، أو الاغتصاب باستخدام أي شيء آخر غير العضو التناسلي، أو الاغتصاب في أي مكان آخر غير العضو التناسلي للمرأة لا يعد اغتصاباً بمفهوم القانون. والملاحظ أن الشغل الشاغل لمادة الاغتصاب ليس (على الأقل بشكل حصري) ملكية المرأة لجسدها بالكامل، فالمادة تثمّن جسد المرأة فتعطي أجزاء معينة منه قيمة أكبر من أجزاء أخرى وتوفر لتلك الأجزاء حماية أكبر.
بل وربما يكون الأصح أن نقول أن تركيز مادة الاغتصاب ليس على جسد المرأة من الأصل، وهو ما يجعلها غير معنية على سبيل المثال بكشف العذرية فلا تعتبره اغتصاب، فتلك المادة تبدو أحياناً غير معنية بالعنف الجنسي و لكن بنتائج معينة تترتب على المواقعة الجنسية مثل اختلاط النسب وغيره.
وإذا كان القانون يستعدي صورة معينة عن المرأة تجعلها أكثر سيطرة على جسدها، فإن أدوات الضغط التي يتم عادة تغيير القانون بها، وهي تحديداً المجتمع والدولة ليست بأفضل حالاً. فإذا كان مفهومنا عن الجريمة هو أنها السلوك الذي يرفضه غالبية المجتمع ويطالب بمعاقبة من ينتهجه، فإن التحرش لا يستوفي هذه الشروط.
التحرش ليس من الأفعال التي يتربى الرجال المصريين على الإحساس بفداحتها، مثل السرقة أو القتل. والتحرش أيضاً ليس مجرد فعل مقبول أو مسكوت عليه باعتباره نتاجاً لظروف معينة (مثل رشوة الموظف العام أو إلقاء القمامة في الشارع) ولكنه من الأفعال التي يتم التشجيع عليها بأشكال مختلفة. فالتحرش بالنسبة للكثير من المراهقين هو أحد بوابات العبور إلى عالم الرجولة والحصول على صك "الصياعة" من أصدقاء السوء، وبالنسبة لآخرين هو استعراض للقوة أو عقاب للمرأة التي لا تلتزم بالشروط التي حددها لها المجتمع للتواجد في أي مكان عام، وربما يكون المقطع الذي تم تداوله على الإنترنت والذي يظهر أطفالاً يبررون تحرشهم كاشفاً عن عبثية محاولة البحث عن سبب للتحرش.
إذن، فنحن كمجتمع (أو على الأقل رجال هذا المجتمع ) نشجع على فعل ما، في نفس الوقت الذي نعتبره فيه جريمة. تؤكد لنا الإحصائيات أن غالبية النساء في مصر (٩٩,٣٪ طبقاً لدراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومنظمات أخرى) يتعرضن لنوع من أنواع التحرش، وهو ما يوضح أن التحرش أصبح هو القاعدة الآن. وإذا اتفقنا على أن المسئول عن التحرش بمعظم نساء مصر ليس حفنة من المتحرشين النشطين، ولكنهم في الأغلب معظم رجال مصر، يصبح تجريم هذا الفعل محيراً.
أما إذا حاولنا تناول تجريم التحرش على أنه خطوة من الدولة "المتحضرة" التي تحاول أن تكبح جماح الشعب المتحرش، فإن ذلك أغرب. فاستخدام الدولة من خلال مؤسساتها الأمنية للعنف الجنسي بشكل مباشر هو أمر كثر الحديث عنه، ولازالت قضية الصحفيات التي تم التعدي عليهن جنسياً بإشراف رجال الشرطة ومشاركتهم المباشرة أمام نقابة الصحفيين وضريح سعد زغلول خلال مظاهرات حركة كفاية في عام ٢٠٠٥ حاضرة في الذهن. بل ولم تزل الدولة ترفض تماماً القيام بأي خطوات للاستدلال على الفاعلين ومعاقبتهم أو تعويض الصحفيات، بالرغم من صدور حكم بذلك من اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب منذ أكثر من سنة.
مثال آخر هو واقعة كشوف العذرية في مارس ٢٠٠١ القصة كما يلي: يدخلون الفتيات عنوة إلى غرفة أو ممر أو ساحة، يسبونهن بأبشع الألفاظ ثم يجبرونهن على التجرد من ملابسهن – ليسوا كلهم رجالا، بل تساعدهم على ذلك امرأة. الغرض ليس جنسيا فقط، الغرض عقابي وتنكيلي. يكشفون على عذريتهن بغير رضاهم مدعين أنهم يفعلون ذلك لحماية أنفسهم من مزاعم الاغتصاب. يكررون نفس الإجراء (الروتين الممل الرتيب) مع ١٧ امرأة. ينتهكون جسدهن حتى لا تخرج إحداهن فتدعّي أنهم انتهكوا جسدها.
هذا هو التبرير الرسمي، أن الرجال الذين كانوا يحملون السلاح وجميع مفاتيح الزنازين كانوا في الحقيقة يحمون أنفسهم. يجب علينا بعد كل ذلك ألا نكتفي بعدم لومهم، بل أن نشعر بالتعاطف معهم. فهم كانوا يحمون أنفسهم من أن تخرج إحدى الفتيات فتدعي أنهم اغتصبوها. أهذه فعلاً أفضل حجة توصلوا إليها؟
هذا المنطق العبثي لم يتم تقديمه لجمهورهم الذي لا ينتظر منهم تبريراً أصلاً، ولكنه تبرير قدموه لمن لا يقف في صفهم. ألم يكن باستطاعتهم التوصل إلى تبرير أكثر وجاهة أم أنهم لا يكترثون؟ أم أنهم قدموا تبريراً واهياً بشكل مقصود للتأكيد على أنهم غير نادمين؟
تستجمع إحداهن الشجاعة فتفضحهم وتذهب إلى النيابة العسكرية، التي هي جزء من المؤسسة العسكرية المشكو في حقها وفي نفس الوقت جهة التحقيق الحصرية في أي جرائم يرتكبها أفراد تلك المؤسسة. ثم يذهب الأمر إلى المحكمة العسكرية فيبرئ القاضي المتهم الوحيد ويبني قناعته جزئيا على "تراخي" المجني عليها في الإبلاغ لأنها أبلغت عن الواقعة بعد حدوثها بمائة يوم، "في حين كان في مكنتها إبلاغ جهات التحقيق التي مثلت أمامها حال إجراء محاكمتها." (حكم المحكمة العسكرية العليا الصادر في ١١ مارس ٢٠١٢ قضية ٩١٨ لعام ٢٠١١). كان القاضي ينتظر من المجني عليها أن تشتكي السجانين والحراسة وأطباء السجن داخل السجن الحربي نفسه.
يبرئ القاضي الطبيب المتهم في قضية كشف العذرية فينعى البعض العدالة الغائبة. السؤال هنا، ماذا إن حضرت العدالة؟ ماذا إن قام القاضي بإدانة الطبيب المتهم في قضية كشوف العذرية؟ واقعة تم فيها انتهاك أجساد ما لا يقل عن ١٧ امرأة، واقعة أثارت حفيظة جزء كبير من المواطنين، وكانت فعلاً صادمة بالنسبة للكثيرين الذين اعتادوا سماع قائمة ثابتة من أساليب التعذيب لم يكن كشف العذرية هذا من بينها، كما اعتادوا على نوع معين من الضحايا لم يكن هؤلاء الفتيات من بينهم .لا أدري تحديداً إذا فجعتنا الواقعة أم تحديها لأنماط البشاعة التي ألفناها؟ لكن الأكيد أنها واقعة ضخمة تطلبت خروج أعلى مسئولي الدولة بعد حدوثها ليعلنوا أنها إجراء روتيني (أي أنهم على علم بها، إن لم يكونوا قد أصدروا أمرا بها).
هل تعلم أنه لو حضرت العدالة الغائبة في تلك القضية، وأنزل القاضي أقصى عقوبة على المتهم كان سيحكم "بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو غرامة لا تتجاوز ثلاثمائة جنيها مصريا؟" فالطبيب المتهم في قضية كشوف العذرية تم اتهامه بمخالفة المادة ٢٧٨ من قانون العقوبات والتي تجرّم "كل من فعل علانية فعلا فاضحا مخلا بالحياء"، وهي بالمناسبة نفس المادة التي قد تُستَخدَم في معاقبة حبّيبة الكورنيش إذا ما قررت السلطات أنهم خرجوا عن نطاق "الحياء" المقبول للدولة. جريمة انتهك الجانى خلالها جسد امرأة (أو ١٧) وفعل بجسدها ما لا تريده هي، لا يتعامل معها على أنها جريمة بحق المرأة نفسها، بل جريمة في حق حياء المجتمع.
هل تعلم أيضا أنه حتى إذا تمت إدانة الطبيب بالجريمة التي كان من الواجب أن تتهمه النيابة العسكرية بها، وهي جريمة هتك العرض (المادة ٢٦٨)، بدلاً من جريمة الفعل الفاضح، فإن القاضي وقتها كان سيكون عنده السلطة أن يخفف العقوبة (التي حددها القانون بـ"السجن المشدد") باستخدام ما يسمى بمادة الرأفة (المادة ١٧)، وهي المادة التي تكشف دراسة غير منشورة للمحامي طاهر أبو النصر عن كثرة استخدامها في قضايا هتك العرض بدون إعطاء مبررات.
الدولة في الحقيقة لا تريد المرأة التي تتجاسر وترفع صوتها ضد الحكومة في الشارع – فهذا السلوك لا يتناسب مع نموذج المرأة الذي تريده الدولة، وربما يكون التعبير الأكثر فجاجة عن هذا هو ما نقلته الصحفية شهيرة أمين عن اللواء إسماعيل عتمان عضو المجلس العسكري آنذاك الذي برر كشوف العذرية قائلاُ "يا مدام شهيرة البنات دول ولا بناتك ولا بناتي دول بنات بيباتوا في الخيام في التحرير وعادي نعمل الإجراء ده عشان ميطلعوش يقولوا إن احنا اغتصبنا حد منهم... والفريق سامى عنان أكد على كده"، وهو ما جاء في شهادة شهيرة أمين في جلسة المحكمة العسكرية في قضية كشوف العذرية،( ٢٦ فبراير ٢٠١٢)
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا، فالدولة كان يمكنها أن تحتكر استخدام العنف الجنسي، فتستخدمه لأغراض سياسية وعقابية بدون أن تسمح لغيرها بذلك، كان يمكنها أن تحمي النساء بشكل عام من التحرش والعنف الجنسي وترفع تلك الحماية عن النساء اللواتي يخرجن عن "الخط المرسوم". ولكن الدولة لا تبدو مهتمة حتى باحتكار العنف الجنسي.
برغم قتامة الصورة في بعض الأحيان إلا أن التعديل المنتظر للقانون بإضافة مادة التحرش والتعديلات الأخرى التي تسعى العديد من الجهات إلى طرحها للمناقشة هي خطوات إيجابية جداً وضرورية للعديد من الأسباب. القوانين المتعلقة بجسد المرأة ليست قوانين "طبيعية" أو حيادية بل هي تنحاز بشكل واضح إلى رؤية معينة عن المرأة ودورها في المجتمع. تتخذ القوانين (والأحكام القضائية سواء كنتيجة لانحيازات القانون أو انحيازات شخصية أو اجتماعية، إلخ) صفا في الصراع حول نموذج المرأة المرضي عنه، بما في ذلك حقها في جسدها. والأخطر أنه بسبب عباءة الحيادية التي تسبغ على تلك القوانين –عكس معظم أطراف الصراع الأخرى- فإن انحيازها يكون غير واضحاً في الكثير من الأحيان. القوانين والأحكام تلعب دوراً هاما ليس فقط في إثبات صحة رؤية معينة، بل في تكريسها وتطبيعها، واعتبار كل ما يخالفها لا مجرد رؤية مختلفة أو خاطئة، ولكن رؤية غير قانونية أو غير شرعية أو غير طبيعية.
تم النشر بمدي مصر بتاريخ 13 مايو 2014