تعديلات لجنة العشرة على دستور 2012 – رؤية نقدية
نقاش حول الدستور هو مجموعة من المقالات والتعليقات يكتبها بالأساس باحثون من المبادرة المصرية، ومن اصدقائها، ويشتبكون مع عملية تعديل الدستور، والمرحلة الانتقالية بشكل عام، من منطلقات مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية، وتنشر عبر وسائط الكترونية عدة.
الدساتير ليست كتبًا منزّلة، وإنما هي وثائق دنيوية تعبر – بهذه الدرجة من المباشَرة أو تلك – عن موازين قوى سياسية واجتماعية سائدة في لحظة ما، ثم تصوغها في شكل مجرد عام، فتتحول إلى قواعد حاكمة – بهذا القدر أو ذاك – للعبة الحكم والسياسة بأوسع معانيهما.
الدساتير المصرية ليس استثناءً من هذا. فسواء تعلق الأمر بدستور 2012 الذي وُضع أثناء حكم جماعة الإخوان المسلمين، أو بمسودة التعديلات الدستورية التي وضعتها لجنة الخبراء العشرة في صيف 2013 بعد إقصاء محمد مرسي وجماعته عن مواقع السلطة، أو بما ننتظره من تعديلات أو تغييرات أخرى ستجريها لجنة الخمسين التي من المتوقع أن تنتهي من أعمالها في مطلع شتاء العام ذاته، فإن تشريح النص الدستوري الماثل يتطلب إدراك طبائع وحدود وقيود الصراع الدائر على السلطة، وبين أهلها وطالبيها، في هذه المرحلة المضطربة الممتدة من فبراير 2011 وحتى اليوم.
أربع ملاحظات
وبما أننا لسنا في معرض التحليل التفصيلي لمسار العملية الصراعية المذكورة، وإنما مهمتنا فقط رصد نتائجها كما هي ظاهرة في المسودة الحالية المقدمة من لجنة العشرة، فإن حسبنا هنا أن نؤكد على أربع ملاحظات رئيسية تتعلق بمضمون دساتير ما بعد الخامس والعشرين من يناير:
الأولى هي أنه برغم ثورة الخامس والعشرين من يناير وما كانت تفترضه من تغييرات جذرية في قواعد لعبة السلطة والثروة، فإن خيوط الاستمرارية بين دستور 1971 الدائم والوثائق الدستورية بعد 11 فبراير 2011 لا تخفى على أحد. فسواء قيل هذا علنا، كما فعل المجلس العسكري في بداية عهد حكمه في 2011، أو فُهم ضمنا، أو حتى قيل ضده كما هو الحال الآن، فإن المبدأ الذي عمل (ويعمل) على أساسه كتّاب دساتير ما بعد الثورة هو "تعديل" دستور 1971 وليس "صياغة" وثيقة جديدة منطلقة من منظور بديل قائم على تحويل آمال ومطالب الثورة إلى نص مؤسِس حاكم. وهو أمر بالقطع يعكس استمرارية واضحة للقوى المتنفذة من عهد مبارك إلى عهود ما بعد الثورة.
الثانية هي أن التغييرات الأكثر بروزًا في مضامين الدساتير بين مرحلة ما قبل ومرحلة ما بعد الخامس والعشرين من يناير تعلقت بأمرين لا ثالثة لهما: نظام الحكم، وما يرتبط بذلك من محاصصة بين مؤسسات الدولة المتنفذة. وفي الأمرين، الظاهر أن ما خلفّته الثورة من أثر لم يتعد على المستوى الدستوري، والسياسي طبعًا، الانتقال من نظام ديكتاتوري أصيل برتوش ديمقراطية كاذبة، إلى نظام سلطوي/ أوليجاركي[1] يعتمد نوعًا من الديمقراطية التمثيلية مفصّل خصيصًا لتوزيع أنصبة السلطة بين مؤسسات الدولة القديمة، خاصة القمعية والأمنية منها، ودوائر المال والأعمال، وبعض القوى السياسية المتصالحة مع أو الممثلة لهذا أو ذاك. وهكذا يبدو أن انفتاح المجال السياسي بعد الثورة لم يتخط، في محصلته النهائية، إعطاء هامش أوسع للاستقلال والمناورة لأجهزة الدولة (القوات المسلحة، الأجهزة الأمنية، القضاء)، وخلق ديمقراطية تمثيلية محكومة بقيود سلطوية لا تسمح بخروج نواتج العملية الديمقراطية عن حدود الأوليجاركية على النمط الروسي-البوتيني.
الثالثة هي أن الضجيج الكبير حول هوية الدولة، الضجيج الذي يعكس الصراع الإسلامي-العلماني الممتد، لم يتعد في أثره الدستوري تغييرات، في ظننا، غير جوهرية بين هذه المحطة وتلك من محطات الصراع في عمر ثورة يناير. فبين النص في دستور 2012 على تعريب العلوم وتفصيل معنى الشريعة الإسلامية في المادة 219 الشهيرة، ثم حذف هاتين المادتين وتعديل مواد أخرى في مسودة لجنة العشرة، لم يحدث في ظننا تحول حاسم في مسألة هوية الدولة، رغم تقديرنا أن المادة 219 كانت تحمل أخطارًا سلطوية لا شك فيها. ومرد هذا الوضع – الضجيج الكبير الذي لا يصاحبه تغيير جوهري – أن القوى الإسلامية، حتى في أكثر لحظاتها قوة وعنفوانًا، لم تتمكن من السيطرة على مفاصل الدولة، أو على الأقل تحييدها، بحيث تفرض مشروعها الكامل الهادف إلى إعادة تدوير الدولة السلطوية في صورة رجعية ترتدي رداءً دينيًا كاذبًا.
الرابعة هي أن أبواب الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية في دساتير ما بعد الخامس والعشرين من يناير هي، كما هو متوقع، أكثر مناطق الدساتير ثباتًا وعدم تأثر بطوفان الثورة. ففيما عدا تعديلات ضرورية لمواكبة التغييرات في نظام الحكم – مثلًا التغييرات المتعلقة بحق تأسيس الأحزاب – وفيما عدا الرطان الكاذب الذي لا تصاحبه ضمانات، ظلت التحسينات في الحريات الأساسية اللصيقة بالإنسان بما هو إنسان، وفي الحريات السياسية المرتبطة بالاستحقاق الديمقراطي، وفي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لسكان الدولة، غير جوهرية ومخادعة. وهذا أمر، بلا شك، يعكس رؤية القوى المتنفذة المتصارعة على الحكم لمعنى ديمقراطية ما بعد ثورة يناير: ترتيب سلطوي لتداول السلطة بين قوى مسيطرة محددة ومحدودة، وليست إطلاقًا ثوريًا للحرية، أو تغييرًا في هياكل السلطة والدولة، أو تعديلًا جذريًا في توزيع الثروة والدخل.
تشريح مسودة لجنة العشرة
في ضوء ما تقدم، ولتنزيله على مسودة لجنة العشرة، سأورد هنا بعض الانتقادات الأساسية على المسودة المذكورة موزعة بين خمس محاور رئيسية: نظام الحكم، المحاصصة بين مؤسسات الدولة المنتفذة، هوية الدولة، الحريات المدنية، الحريات السياسية.
أولًا: نظام الحكم
لم يتغير الشيء الكثير في فلسفة نظام الحكم بين دستور 2012 ومسودة لجنة العشرة الخاضعة للمناقشة في لجنة الخمسين هذه الأيام. ربما كان التغيير الوحيد ذو الشأن هو حذف إلزام رئيس الجمهورية بالاستقالة حال عدم التصويت بالموافقة في استفتاء شعبي على دعوة الرئيس إلى حل البرلمان. وهو التغيير الذي يؤكد ميل صائع النص الدستوري بشكل متزايد إلى اتباع نظام يميل إلى النظم الرئاسية، بما تمنحه تلك النظم من سلطات واسعة، ولكن مقيدة، لرأس الدولة والسلطة التنفيذية.
ففي ظاهره، يراعي دستور لجنة العشرة التوازن، و"الردع المتبادل"، بين رئيس الجمهورية ومجلس الشعب. فمجلس الشعب يقر القوانين، لكن للرئيس حق الاعتراض عليها، وإن اعترض لا تقر إلا بأغلبية الثلثين. والرئيس يعقد المعاهدات، ويعلن حالتي الطوارئ والحرب، لكن لابد له من الحصول على موافقة مجلس الشعب. والرئيس يختار رئيس الوزراء، لكن لابد من موافقة مجلس الشعب، ولو رفض المجلس فإن على الرئيس اختيار مرشح آخر للمنصب من الحزب الحائز على الأكثرية، فلو رفضه البرلمان فإن على المجلس النيابي ذاته أن يختار مرشحًا آخر، فإن لم يحز هذا الأخير على الثقة حل الرئيس مجلس الشعب.
لكن وراء هذا التوازن الظاهري هناك أمران مفصليان يكشفان أن دور الرئيس في منظومة الحكم له الأولوية ودور الحسم. الأمر الأول هو حق الرئيس في حل مجلس الشعب من خلال الدعوة إلى استفتاء شعبي لم يقيد الدستور حق الرئيس في الدعوة إليه، وإنما فتح الباب لاستخدامه هذا الحق بلا ضوابط بقوله إن الرئيس يمكنه أن يدعو إليه "عند الضرورة". والأمر الثاني هو حق الرئيس في الدعوة إلى استفتاءات شعبية "في المسائل المهمة التي تتصل بالمصالح العليا للبلاد".
والمدلول العملي لهذين الحقين المضمونين دستوريًا لرئيس الجمهورية هو قدرته على قطع الطريق على العملية السياسية "الطبيعية"، ومن ثم على وضعية التوازن المفترضة، إذا نشأت ظروف جعلته يستشعر الخطر من استمرار تلك العملية على منوالها المعهود. وهو الأمر الذي يعني أنه، في نهاية المطاف، قادر على حسم أي خلاف سياسي بينه وبين السلطة التشريعية عن طريق الإنهاء – المؤقت – للمسار الطبيعي لنظام الحكم بغرض إعادة ترتيب أوراق اللعبة السياسية من جديد.
من الصحيح طبعًا أن حق الرئيس في هذين الأمرين مقيد بـ"استفتاء الشعب". لكن حتى بغض النظر عن حقيقة أن الوظيفة السياسية للاستفتاءات في تاريخ النظم والشعوب المتأخرة والنامية، والتي تعاني من أوضاع مضطربة، كانت غالبًا تعزيز السلطوية بهذا القدر أو ذاك، بغض النظر عن هذه الحقيقة، فإن اللافت أن حق استفتاء الشعب من أجل قطع الطريق على العملية السياسية "الطبيعية" ينفرد به الرئيس وحده دون غيره، ولا يمتد ليشمل المجلس النيابي الذي قد يرى هو أيضًا أن هناك ما يستدعي إقالة الرئيس أو حسم الأمور الخلافية من خلال أداة الاستفتاء الشعبي.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن هذا النظام الرئاسي المختلط قد يعتبر في كثير من جوانبه مناسبًا لنظم الحكم الأوليجاركية ذات الوجه الديمقراطي التمثيلي. ذلك أنه يحقق هدفين رئيسيين: التوازن التنافسي بين القوى ذات الشعبية المتصارعة فيما بينها على حصص الحكم والنفوذ، وهو توازن مطلوب لإنهاك كل تلك الأطراف، لكن مع وجود يد قوية لمركز للسلطة قادر على الحسم في لحظات الاضطراب الكبرى.
لا يعني هذا بأية حال أن هذا هو النموذج الوحيد للتعبير عن الأوليجاركية. لكنه على الأقل نموذج مناسب في الحالة المصرية التي تتطلب، بعد الثورة، إشراك القوى ذات الشعبية بحذر وبقدر منضبط في عملية الحكم من خلال برلمان له سلطات واسعة نسبيًا، وهو الأمر الذي أصبح أقل خطورة بعد تقليم أظافر جماعة الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية بعامة، لكن مع وجود رئيس للجمهورية قوي وقادر على الحسم ومرتبط بروابط قوية بالدولة القديمة ومؤسساتها الأكثر نفوذًا.
ثانيا: المحاصصة
كان من نتائج انهيار ديكتاتورية مبارك تحت وطأة ضربات ثورة الخامس والعشرين من يناير أن نُزع الغطاء المحكم الذي صهر مؤسسات الدولة في قبضة قوية منعت التنازع والمحاصصة بين مختلف مؤسسات الدولة وتيارات القوى المتنفذة.
وقد انعكس هذا التطور بالقطع في الوثائق الدستورية التي تلت 11 فبراير 2011، بالذات فيما يتعلق بالقوات المسلحة التي حاز مجلسها الأعلى ومجلس الدفاع الوطني (ذو الأغلبية العسكرية) في ظلها سلطات واسعة فيما يخص شؤون الجيش والدفاع والأمن القومي. حيث نص دستور 2012 على سبيل المثال على أن وزير الدفاع ينبغي أن يعين من بين ضباط القوات المسلحة، وأن مجلس الدفاع الوطني يختص بمناقشة موازنة القوات المسلحة، ويجب أن يؤخذ رأيه في القوانين المتعلقة بها.
أما مسودة لجنة العشرة، فلم تفعل إلا تعزيز قبضة المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني على ما يختص بشؤون القوات المسلحة والدفاع والأمن القومي. فقد أضافت المسودة المذكورة شرط موافقة القوات المسلحة على الشخص المعين في منصب وزير الدفاع. كذلك زادت أغلبية مجلس الدفاع الوطني العسكرية إلى ثمانية أشخاص من بين أربعة عشر شخصًا، هم كل أعضاء المجلس، وذلك بعد إلغاء مجلس الشورى الذي كان رئيسه عضوًا به.
هذا فيما يتعلق بالقوات المسلحة. أما فيما يتعلق بالقضاء، فقد أعطت مسودة لجنة العشرة سلطات أوسع للهيئات القضائية. حيث نصت، على خلاف دستور 2012، على أن موازنات الهيئات القضائية "تدرج في الموازنة العامة للدولة رقمًا واحدًا"، وعلى أن مشروعات القوانين المنظمة لشؤونها لابد أن تقر بأغلبية خاصة لا تقل عن "ثلثي أعضاء مجلس الشعب". هذا طبعا بالإضافة إلى إلغاء تحديد عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا بعشرة أشخاص، وهو التحديد الذي كان الرئيس المعزول وجماعة الإخوان المسلمين قد حرصا عليه في دستور 2012 على خلفية نزاعهما مع تلك المحكمة ومع الهيئات القضائية بوجه عام.
وفيما قد يرى البعض أن هذا قد يمثل تعزيزًا لاستقلال القضاء، إلا أن الأمر في حقيقته على خلاف ذلك. حيث أن النص الدستوري الحالي يتجاوز حدود استقلالية القضاء إلى التغوّل على السلطة التشريعية وحقها في مراقبة ميزانية الهيئات القضائية وكذلك حقها، الطبيعي، في إقرار القوانين التي تتعلق بتنظيم أوضاع مؤسسات الدولة، حتى تلك التي من المفترض أنها مستقلة، بدون أي شروط خاصة أو أغلبيات أكثر من البسيطة.
ومن المهم هنا الالتفات إلى أن المحاصصة، المتمثلة في تقليص سلطة الشعب ومجلسه المنتخب في التشريع والرقابة فيما يخص بعض مؤسسات الدولة لمصلحة نفوذ ذاتي أكبر لتلك المؤسسات، لا تعبر فقط عن وضع الاستقلالية والتنافس بين مراكز القوة في أجهزة الدولة، وإنما تعكس كذلك نزوع تلك الأجهزة للهيمنة على الحكم في الإطار الأوليجاركي السابقة الإشارة إليه. فبالذات فيما يتعلق بالقوات المسلحة، فإن يدها الثقيلة في مجلس الدفاع الوطني المناطة به دستوريًا أدوار غير محددة – النظر في الشؤون الخاصة بتأمين البلاد وسلامتها – تفتح الباب لتأويلات خطرة لمعنى "تأمين البلاد وسلامتها"، مما قد يصل إلى التدخل في العملية السياسية، ولو بطرق غير مباشرة.
هوية الدولة
يعد إلغاء المادة 219 في دستور 2012، المعرّفة لمبادئ الشريعة الإسلامية بأنها "تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة"، بمثابة الانتصار الأكبر من وجهة نظر ما يطلق عليه "القوى المدنية" بعد إسقاط حكم محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين. لكن الحقيقة أنه يتوجب علينا القول إن هذا انتصار غير جوهري البتة، وذلك برغم إدراكنا لخطورة التخصيص المتضمن في عبارة "مذاهب أهل السنة والجماعة". وهو كذلك لأن المادة الثانية من الدساتير المصرية في نسخها المتتالية، المادة التي تعتبر "الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع"، كانت وحدها كافية لفرض رؤية إسلامية ما على عملية التشريع، ومن ثم على مجمل نظام الدولة، لكن ذلك لم يحدث ليس لأن الأداة الدستورية كانت غير كافية، ولكن لأن التوازن السياسي لم يتح لأي من القوى الإسلامية فرض رؤيتها باستخدام هذا النص الدستوري، من وقت إقراره في ظل حكم الرئيس الأسبق أنور السادات وحتى الآن.
لكن على أي حال، فإن مسودة لجنة العشرة قامت ببعض التغييرات الأخرى التي حدّت من بعض الملامح الإسلامية في دستور 2012. ولعل أهم تلك التعديلات هي حذف الالتزام بأخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر في الشؤون التي تتعلق بالشريعة الإسلامية، وهي المادة التي كان بمقدورها، إذا توفرت الظروف، أن تفتح الباب لتحويل هيئة كبار العلماء بالأزهر إلى "مجلس صيانة دستور" مصري، يمكنه أن يتجاوز البرلمان وينقض قراراته إذا ما تعلق الأمر بأي مخالفة، مفترضة، للشريعة الإسلامية.
ولعله من الطريف ملاحظة أن الصيغة المذكورة المتعلقة بدور الأزهر، الخاصة بدستور 2012، كانت تعتمد هي الأخرى أسلوب المحاصصة في توزيع الأدوار بين مؤسسات الدولة المختلفة. فإذا كانت القوات المسلحة يؤخذ رأيها في القوانين المتعلقة بها، والأمر كذلك فيما يتعلق بالقضاء، فلا أقل من أن يؤخذ رأي المؤسسة السنية الأرفع في مصر فيما يتعلق بالشؤون التي تتعلق بالشريعة الإسلامية!
الحريات المدنية
في المجمل، لم تحدث مسودة لجنة العشرة تغييرات أساسية في مواد الحريات المدنية، وهي الحريات اللصيقة بالإنسان حتى لو لم يمارس حقوقه السياسية المنصوص عليها دستوريًا. وإن كان لنا من تقييم عمومي، فيمكننا القول أن أغلب التعديلات، المحدودة، في هذا المجال أتت للانتقاص من الحقوق والضمانات، المحدودة أصلًا، التي نص عليها دستور 2012.
فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بجريمة التعذيب، التي يمكننا اعتبار أن تفشيها كان أحد أهم أسباب اندلاع ثورة يناير، فإن المسودة الحالية حذفت كون الحجز في أماكن غير لائقة أو التعذيب والمعاملة غير الإنسانية في أماكن الاحتجاز "جريمة يعاقب مرتكبها وفقًا للقانون"، واكتفت بالنص على "التزام الدولة بتوفير أماكن لائقة إنسانيًا وصحيًا". كذلك ففي المادة المتعلقة بحق الحصول على المعلومات والبيانات، تم حذف حق "التظلم من رفض إعطائها [المعلومات]، وما قد يترتب على هذا الحق من مساءلة". وعلاوة على ذلك، فقد حذفت المسودة الحالية الضمان المتعلق بحق "المضرور في إقامة الدعوة الجنائية عنها بالطريق المباشر" في حالة الاعتداء على الحقوق والحريات الواردة في الدستور. وهي أمور كلها تشير إلى توجه صائغ النص الدستوري ناحية تخفيف أو إلغاء معظم الضمانات التي تكفل للمواطن محاسبة السلطة على تجاوزها الحقوق المنصوص عليها دستوريًا.
والملاحظ كذلك أنه فيما يتعلق بحقوق تم تقييدها في دستور 2012 وأثيرت بشأنها زوابع كثيرة من بعض القوى الديمقراطية والثورية، فإن مسودة لجنة العشرة سارت على طريق سابقها، أو لم تحسّن الأوضاع بشأنها كثيرًا. فما زالت المحاكمات العسكرية للمدنيين منصوصًا عليها دستوريًا، ولم يُضف على النص الذي يتعلق بها إلا تقييد محدود يؤكد أن التهديد الواقع على القوات المسلحة من جانب المدنيين ينبغي أن يكون "تهديدًا مباشرًا". وما زالت الديانات المعترف لمعتنقيها بحق ممارسة الشعائر هي "الديانات السماوية"، وفقًا للقراءة السنية على مذهب أهل الجماعة لماهية تلك الديانات، وهو ما يستبعد بطبيعة الحال البهائيين من دائرة هذا الحق.
وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن آفة دساتير ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير المطاطة والمليئة بالرطان حول الحريات دون ضمانات حقيقية، هي إحالة كثير من الأمور إلى القانون لتنظيمها، وهو ما يؤدي غالبًا إلى إفراغ الحق من مضمونه، ومثال ذلك الأشهر الحبس الاحتياطي، وكذلك تقييد الحق بضرورات الأمن القومي، غير المفهومة، مثلما هو الحال فيما يتعلق بحرية الإعلام وحرية تداول المعلومات.
الحقوق السياسية
لعل من أهم التغييرات التي استحدثتها مسودة لجنة العشرة في النصوص المتعلقة بالحقوق السياسية هي النص صراحة على منع قيام الأحزاب "على أساس ديني". وبينما قد يرى كثير من أنصار الدولة المدنية في هذا الاستحداث كسبًا للديمقراطية وحقوق المواطنة، إلا أن الأمر، على الأقل، أكثر التباسًا من هذا. يرجع هذا جزئيًا إلى غموض عبارة "أحزاب على أساس ديني". فهل هي تعني الأحزاب ذات المرجعية الدينية العامة، أي الأحزاب التي تستلهم بشكل عام القيم المتضمنة في إرث ديني معين؟ أم تعني الأحزاب التي تطالب بتطبيق شرائع دين معين كنظام عام للدولة؟ أم تعني الأحزاب التي تقصر عضويتها على المنتمين لعقيدة دينية معينة؟ أم ماذا؟
يزيد الالتباس، والتعقيد، إذا ما تذكرنا أن الواقع السياسي المصري يفرض خريطة سياسية تحوز القوى الإسلامية فيها مساحة كبيرة لا يمكن تجاهلها، وهو ما يعني بالضرورة أن حظر الأحزاب على أساس ديني سيؤدي إلى إقصاء طيف واسع ومؤثر، بل وربما أغلبي، من القوى إلى خارج المجال السياسي الشرعي، مما سيؤدي بالضرورة إلى اتساع نطاق العمل السري ونشاط الإرهاب الفردي كرد فعل على الإقصاء.
هذا ما يدعونا إلى القول إن هذه الإضافة وهذا التقييد لا يمثلان بالضرورة خطوة للأمام تجاه الاستقرار السياسي وتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية. فربما كان من الأوفق أن يؤكد صائغ النص الدستوري على حظر قيام الأحزاب التي تدعو إلى عدم المساواة بأي شكل بين المواطنين على أساس الدين والمعتقد. هنا كان الحظر سيمتد ليشمل ليس الأحزاب التي تعتمد مرجعية دينية عامة، وإنما فقط تلك التي تترجم هذه المرجعية إلى دعوات ومطالبات بالتمييز بين المواطنين على أساس من عقائدهم، أو إلى إسباغ صبغة دينية على الدولة بحيث تصبح شريعة معتقد ما هي الحاكم للنظام مع استبعاد باقي المعتقدات.
لكن لعله من المناسب أن نضيف هنا أنه من الطريف والمدهش أن الدستور الذي يقضي بعدم جواز إنشاء الأحزاب على أساس ديني، يؤسس في الوقت نفسه، في مادته الثانية، لسلطوية هوياتية تفرض على المشرّع الالتزام بمبادئ شريعة دينية معينة في صياغة كل قوانين الدولة.
هذه مسألة. المسألة الأخرى هي أن واحدًا من الأمور الملفتة في مسودة لجنة العشرة النص، في باب المواد الانتقالية، على أن انتخابات مجلس الشعب والمجالس المحلية التالية لتاريخ العمل بالدستور ستكون بالنظام الفردي، وذلك رغم أنه من المعروف أن معظم القوى السياسية والفاعلين المستقلين كانت لديهم تحفظات واضحة على هذا النظام حينما نوقش الأمر قبيل انتخابات مجلس الشعب السابق المنحل.
والحقيقة أنه ليس هناك من تفسير لهذا الإصرار من جانب صائغ النص الدستوري على إقرار النظام الفردي، إلا أن هذا النظام يسّهل من إضعاف القوى السياسية، خاصة الصغيرة منها، بينما يميل لصالح تعظيم قوة أصحاب المال السياسي من رجال أعمال وأصحاب مصالح خاصة، وهو الأمر الذي يعزز من القراءة القائلة أن النظام السياسي، وفق مسودة لجنة العشرة، مصمم لإعادة تدوير جماعات النفوذ الفلولية، وذلك بغرض بناء تحالف أوليجاركي بين قوى الدولة القديمة وطبقة سياسيي ورجال أعمال ما قبل الثورة.
خاتمة
ليس هناك شك في أن هذا "الهزال الدستوري" يجد أسبابه في الانتكاسات المتكررة التي واجهتها ثورة الخامس والعشرين من يناير. فطالما ظلت تحالفات الدولة القديمة ورجال نظام مبارك وحيتان المال والأعمال متحكمين، إلى حد كبير، في مضمون وإيقاع العملية السياسية في عالم ما بعد الثورة، لن يكون ممكنًا اجتراح تغييرات كبيرة، ناهيك عن جوهرية، في الرؤية الدستورية.
هذا الوضع الصعب لا ينبغي أن يمنعنا عن دق أجراس الخطر حول طبيعة الدستور المتوقع صدوره، ولا أن يلهينا عن خوض المعارك الفكرية والعملية لإحداث بعض التغييرات وتحقيق بعض المكتسبات هنا أو هناك. لكن إن كان هناك شيء علينا أن نشدد عليه في هذا السياق، فهو أن تحقيق انتصارات مهمة في معركة الدستور يرتبط، إيجابًا وسلبًا، بتحقيق نجاحات مهمة في تغيير توازنات القوى على الأرض، وهو أمر دونه كثير من الوقت والجهد والتطورات الذاتية والموضوعية. ولعل هذا ما يحدو بنا إلى اعتبار أن واحدًا من أهم الانتصارات التي ينبغي على الحركات الحقوقية والقوى الديمقراطية السعي إليها حاليًا هو الإقرار بأن الوثيقة الدستورية المزمع إصدارها في القريب هي بمثابة دستور مؤقت للبلاد ستتم مراجعته في مرحلة لاحقة وفق قواعد واضحة وآليات محددة.
[1] الأوليجاركية هي حكم القلة، وهو نظام الحكم الذي تسيطر على السلطة فيه طغم مالية بالتحالف مع نخب عسكرية ودولتية مختلفة الأنواع.