عيش حرية عدالة انتقالية: هل تفلت جرائم مبارك الاقتصادية من العقاب؟
تتضمن العدالة الانتقالية – وهي مفهوم منبثق عن المفهوم العام لحقوق الإنسان – تكوين لجان للبحث عن حقائق جرائم الأنظمة القمعية والتذكير الدائم بماضيها القبيح والعنيف حتى يصبح جزءًا من الوعي الجمعي للأمة من أجل الحصول على مستقبل أكثر رخاء وعدالة وأمان، وتتضمن كذلك مجموعة من التدابير القضائية والإصلاحية يتم اتخاذها بعد سقوط أي نظام ديكتاتوري.
ولكن يؤخذ على مفهوم العدالة الانتقالية، خاصة وأن مجال حقوق الإنسان يتركز اهتمامه على المعنى الضيق للحقوق المرتبط بسلامة البدن، تعريفه للانتهاك غالبا على أنه فقط الانتهاك الجسدي من قبل الدولة تجاه المواطن بحيث يكون الجاني والمجني عليه واضحان. وهو ما يعني أن نظم العدالة الانتقالية تفشل في كثير من الأحيان في إدراج الجرائم الاقتصادية، وعلى رأسها جرائم الفساد، تحت ولايتها، رغم أن تلك الجرائم تمثل الإطار الاجتماعي الذي تنمو وتترعرع فيه فلسفة الانتهاكات البدنية. إذ تشير كثير من الدراسات إلى وجود علاقة طردية بين الفساد والانتهاكات الجسدية. فلا قمع وتعذيب بدون فساد، ولا فساد بدون قمع وتعذيب.
ورغم ذلك، فقد أغفلت أنظمة العدالة الانتقالية المختلفة، منذ نشأة المفهوم بعد سقوط ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن الماضي، الجرائم الاقتصادية، حيث لم تتضمن لجان الحقائق المعنية بكشف النقاب عن جرائم النظام الساقط المشكلة في معظم البلدان أي إجراءات لكشف الجرائم الاقتصادية بمختلف أنواعها. فمن بين 34 لجنة حقيقة تم تشكيلها على مستوى العالم، ثلاث فقط أدرجوا الجرائم الاقتصادية وجرائم الفساد ضمن نطاق عملهم.
ويشير المحامي الفلبيني المتخصص في العدالة الانتقالية روبين كارانزا أن حتى محاكم حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لا تضع الجرائم الاقتصادية ضمن الجرائم التي تقع في دائرة اختصاصها، بالرغم من دور هذه الجرائم الإستراتيجي في تقوية أنظمة القمع والتعذيب، مضيفا أنه يبدو أن هناك افتراض ضمني أن طرفا آخر سيتولى المحاسبة على الجرائم الاقتصادية والمالية، ولكن في الواقع عادة ما تمر تلك الجرائم دون محاسبة.
وبالنسبة للحالة المصرية، فإن الثورة التي أسقطت الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك لم تطبق أي من معايير العدالة الانتقالية تاركة الأمر للقضاء العادي المنهك وغير المستقر، وهو الأمر الذي يعني ضعف العملية القضائية المفترض فيها محاسبة مبارك ونظامه، مما يضع هدف العدالة في خطر ويؤدي إلى احتمال إفلات الجميع من العقاب، وهو ما نرى بوادره في مصر الآن.
فبالنظر إلى مسألة استعادة الأصول المهربة، نجد أن مصر، مثلها مثل كثير من الدول النامية ضحية فساد الأنظمة السياسية، في وضع لا يمكنّها، في ضوء الإنهاك الذي تعاني منه مؤسساتها بعد التحول السياسي الجذري، من توفير الأدلة المادية أو استجماع الإرادة السياسية الضرورية للتعامل في هذا الملف مع الدول المتقدمة المهربة إليها الأموال.
وعادة لا تمتلك الدولة الضحية الخبرات التقنية اللازمة للتعامل مع ملفات الفساد واستعادة الأموال بعد سقوط نظامها السياسي. إذ يستميت النظام المخلوع للحيلولة دون تجميد ورد هذه الأموال بكل السبل المشروعة وغير المشروعة، فضلا عن عدم قدرة تلك الدول على دفع تكاليف التقاضي الدولي العالية.
من هنا تنبع أهمية إيجاد حل بديل للتعامل مع ملفات الفساد من خلال إدراجها ضمن منظومة حقوق الإنسان، مما قد يسهل من عملية التقاضي الدولي في مثل تلك القضايا. فإذا تضمنت المنظومة الحقوقية الدولية آليات لمتابعة وتقصي فساد الأنظمة الساقطة، وإذا أدى هذا إلى اعتراف دولي بفساد تلك النظم، ومن ثم بحق الدول في استعادة أموالها المنهوبة، فإن هذا سيرفع العبء والحرج من على كاهل دولا تعاني من اضطرابات مؤسسية سياسية واقتصادية تحول دون عملها بكفاءة على هذا الملف، وهذا تحديدا هو الحال في مصر ما بعد الثورة.
وفي هذا السياق، فإن بعض العاملين في مجال مكافحة الفساد يسعون الآن إلى توصيف الفساد الممنهج واسع النطاق كجريمة ضد الإنسانية، مثله مثل التعذيب والإبادة الجماعية، مما قد يعطي الجريمة الاقتصادية طابع دولي يمكّن المحاكم الدولية والإقليمية من التعامل معها بشكل أكثر فاعلية، ومما يعزز من فرص مكافحة الفساد في المستقبل.
ولكن قبل كل هذا يلزمنا في مصر إقرار منظومة عدالة انتقالية تتضمن تشكيل لجان حقائق، مما قد يمكّنا في المستقبل من إدماج المجتمع الدولي في عملية محاسبة نظام سياسي استبدادي واصل تدميره للمجتمع على مدى ثلاثين عاما.