أوقفوا مهزلة التصالح مع الفاسدين*
ذاعت أنباء عن قرب تصالح حسنى مبارك فى قضية هدايا الأهرام مع تعهده برد عشرين مليونا مقابل إغلاق ملف القضية، وتزامن هذا مع إعلانات الحكومة المتكررة عن التصالح مع رجال أعمال من النظام السابق نظير دفع مبالغ مالية وإنهاء إجراءات المحاكمة، وعن قرب التصالح مع مجموعة من الوزراء السابقين الهاربين والمسجونين فى جرائم اعتداء على المال العام. ويتماشى هذا مع ما سبق وأعلنه الدكتور محمد سليم العوا، مستشار الرئيس لشئون العدالة الانتقالية عن إمكانية التصالح مع رموز النظام السابق من باب المصالحة الوطنية وحفظ استقرار الاقتصاد.
ومعلوم أن عددا كبيرا من رموز النظام السابق، من المستثمرين ورجال الأعمال، وشركائهم بإمكانهم التصالح فى جرائم الاعتداء على المال العام طبقا للمرسوم بقانون رقم ٤ لسنة ٢٠١٢، والذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة إبان إدارته لشئون البلاد قبيل أيام من انعقاد البرلمان فى يناير الماضى. وينص المرسوم بقانون على جواز تصالح المستثمرين المتهمين والمدانين بتهم تتعلق بالاعتداء على المال العام ما لم يصدر بحقهم حكم قضائى بات، وهو ما يعنى أن المجال مفتوح أمام أناس كعلاء وجمال مبارك وأحمد عز وإبراهيم كامل وغيرهم ممن لم يشغلوا مناصب رسمية فى الدولة. وطبقا لهذا المرسوم فإن التصالح ممكن قانونا حتى ولو كانت القضية محل تحقيق بل حتى ولو صدر بها حكم غير نهائى. ويجرى التصالح فى هذه القضايا مقابل إما رد الأصول المستولى عليها إلى الدولة، وإما الاتفاق على تعويض نقدى يتم تحديده طبقا للأسعار وقت التعاقد وليس وقت التصالح! وهو ما يعنى أن الجانى يحقق الكسب من جريمته مرتين، مرة بالاستيلاء على المال العام وتسوية وضعه وتأمين حيازته له بالتصالح، ومرة أخرى بدفع مقابل ضئيل بالأسعار وقت التعاقد دون احتساب للتضخم أو المكاسب التى قد يكون الجانى قد حققها لسنوات بالفعل!
وقد نص المرسوم بقانون رقم ٤ لسنة ٢٠١٢ على إسناد مهمة التصالح هذه للجنة مشكلة من رئاسة الوزراء تم بالفعل تشكيلها فى عهد حكومة الجنزورى، وأسندت رئاستها للسيد رئيس الهيئة العامة للاستثمار. وتتكون اللجنة بالأساس من جهات تنفيذية كالهيئة العامة للاستثمار ووزارة المالية وغيرهما، دون حضور على الإطلاق لهيئات رقابية كالجهاز المركزى أو الرقابة الإدارية أو الرقابة المالية. ومعروف بالطبع أن مصلحة الهيئة العامة للاستثمار هو إنجاز التصالح للإبقاء على المستثمرين حتى ولو كانوا مدانين أو فى طريقهم للإدانة بجرائم اعتداء على المال العام. وقد سبق واشتكى أعضاء لجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب السابق من عدم شفافية اتفاقات التصالح التى تجريها الهيئة، وعدم وضوح معايير تقييم التعويضات النقدية التى يتم التحصل عليها مما يفوت على الخزانة تحقيق أكبر مكسب من التصالح. ومع غياب أية رقابة سواء برلمانية أو قضائية فإننا لا نعلم على وجه اليقين عدد القضايا التى تم التصالح فيها بالفعل، ولا محتوى التصالح، ولا قيمة التعويضات النقدية أو المعايير التى تم توظيفها لتحديد التعويض إذ إن هذا كله يجرى فى سرية وتكتم كاملين بمعرفة الهيئة العامة للاستثمار.
إن مرسوما كهذا لم يتم سنه إلا لسلب القضاء من اختصاصه فى محاكمة الفساد والمفسدين، ولم يكن الغرض منه منذ البداية سوى الحفاظ على مصالح المستثمرين المدانين فى جرائم اعتداء على المال العام عن طريق التوصل لتصالحات سرية وغير شفافة وغير عادلة تضمن إعادة إنتاج شبكات الفساد الممتدة التى عاشت زمنا طويلا قبل الثورة تقتات على الأصول المملوكة للدولة سواء أكانت أراضى أو شركات معروضة للبيع بغرض الخصخصة. والمرسوم بالطبع إهدار لدولة الحق والقانون وحفاظ على المصالح القديمة فى وقت من المفترض أن تكون الثورة قد أطاحت فيه بهذه المصالح، خاصة بعد ظهور سلطة جديدة منتخبة.
سيدى الرئيس إن التصالح مع المفسدين لن يحقق مكاسب للاقتصاد المصرى المنهك، وإنما سيؤدى لإعادة إنتاج ذات الشبكات من المحسوبية والفساد، ونفس نموذج التنمية الفاشل الذى أودى بمبارك ونظامه من قبل لأنه ببساطة يستبعد أغلب المصريين، ويقيم نظاما اقتصاديا هشا قائما على تزاوج محرم بين المال والسلطة. لقد كان حريا بأول برلمان ينتخب بعد الثورة أن يلغى المرسوم رقم ٤ إلغاء، ولكنه وبكل أسف لم يقدم على هذه الخطوة بحثا عن أنصاف الحلول. ولكن ها نحن ذا فى اللحظة المناسبة، فليقم مجلس الشورى بإلغاء المرسوم المشبوه، وليلغ كذلك جميع القرارات التى صدرت بالتصالح، وليترك الأمر للقانون والقضاء، وليكشف الأمر أمام الجمهور علانية وبشفافية كاملة لأن إعادة إنتاج المصالح القديمة بفسادها وإعوجاجها لن يكون أبدا بعد ثورة زلزلت أركان الاستبداد وقوضت أصوله.
*نقلا عن جريدة الشروق 15 يناير 2013