وكيل المفتش الاعظم
يُكبَلون المهرطق من قدميه ويديه، ويُجرونه في شوارع المدينة، في طريقهم لمكان المحاكمة، فيبصق عليه المحتشدين على جانبي الطريق وهم يقذفونه بما تحمله أيديهم من حجارة. يحاول بعضهم النيل منه والجموع التي تستقبل وجهه عند الميدان تجأر بغضبها مطالبة بإعدامه على رؤوس الأشهاد، وحرق جسده وتقطيع أوصاله.
عند المحاكمة، يقف هذا المهرطق قبالة المفتش الاعظم كبير الرهبان الذي يجرى تحقيقًا معه. ينظر السيد وكيل النائب العام الى شاشة الاب توب ويتصفح صفة الفيس بوك الخاصة بالمتهم ويسأله: إلى أي دين تنتمي؟. يرتفع صوت الجماهير الغضبى إنه مهرطق منكر للتثليث، ويزعقون: إلا المسيح. فيرد المتهم المسحول وقد وضع كفه فوق جرح لايزال يشعر بألمه ويقول: هذا أمر خاص لا دخل لكم به. ينفعل الراهب القائم بالتفتيش عن حقيقة إيمان المتهم، والمنتشي بهتافات الجماهير، فيشير لذبانية التعذيب بالبدء بجلد الرجل، وغمس رأسه في برميل من ماء وسخ.
ينظر وكيل النيابة إلى الأوراق أمامه، وبينما هو يقلب فيها سال المتهم: يعني مش هتقولي دينك ايه؟، طيب أيه الدين المكتوب عندك في البطاقة؟ فيقول المتهم بصوت هين: المسيحية.
يدور دورة كاملة حول المتهم ليعاود سؤاله: هل تؤمن حقًا بوجود الله؟ تسحب رأس المتهم من البرميل، فيختطف نفساً عميقاً يستعيد به الحياة، ويبين وجهه الذي كسته زرقة الاختناق، ويعم الصمت الأرجاء، حيث يمكنك سماع خفق القلوب، الجميع اذان صاغية ينتظرون الرد، حيث كان كسابقه: هذا أمر خاص بيني وبين ربي. ويضيف وهو يشير للدستور الذي على مكتب وكيل النائب العام: وهذا الكتاب الذي بيني وبينك قد كفل لي الحصانة من مثل هذه الاسئلة.
ينفعل المفتش الأعظم ويخرج عن وقاره الكهنوتي آمراً السياف بالاستعداد.
يرتعش المتهم عندما يتذكر لحظة مرت الشفرة الحادة على رقبته وصوت الضابط الذي حرض الاشقياء من المسجونين على الاعتداء عليه. لم يزل خادم الرب حاملاً سوطه، يلهب به ظهر المهرطق، والمفتش يهتف فيه: هل ستعود إلى حظيرة الرب؟ هل ستقر بتوبتك عن المعصية، أم ستظل في زمرة المارقين الضالين؟
يُقلب وكيل النائب العام تلة من الكتب التي ضبطت في منزل المتهم. يرسم بها كومة أمامه متخيلًا إياها وقد جُمعت في خلفية الميدان، حيث يعد المتهم لمعانقة حبل المشنقة، فتضرم فيها النيران، وترتفع منها ألسنة الدخان. يقطع خياله همس المتهم: لقد درست في كلية الآداب الأديان المقارنة، وطالعت بشغف الفلسفة الإسلامية وغصت في مراجع الفكر الشرقي القديم، وأعلم ما أقول.
يصرخ الحبر المفتش وهو ينظر بطرف عينه للجماهير المملؤة بالغضب: أليس هذا ما جنيناه من تركنا للكتب ولدعاة العلم؟
يتصفح وكيل النيابة صفحات أحد الكتب ويدفع بكرسيه الى الخلف ويسال المتهم وهو: هل تشكك في الكتب السماوية؟ لماذا ترفض قطع يد السارق؟ لماذا ترفض أحكام الزنا؟
تستغيث والدة المتهم بسيادة النائب العام وهي تهتف: لقد شرع المسجونين في قتل ابني آلبير صابر عياد في الحبس بتحريض من الضابط. لا تلقى كلماتها التعاطف الذي تصورته ويحيلها النائب العام إلى وكيل من وكلائه، يتبين أنه هو ذاته الذي يحقق مع نجلها. يسألها: ما هي ديانة نجلك؟ ترد متجاهلة سؤاله: هل قبضت على من حاول ذبح ابني؟ يسألها بحدة: هل يقوم المتهم بأداء الشعائر الدينية؟ تجيب باصرار: أرغب في رؤية ولدي، والاطمئنان عليه.
يثبتون الحجر الثقيل على صدره تحت آشعة الشمس الحارقة وهم يسألونه:هل عدت إلى رشدك، لما لا تؤمن بما آمن به آبائنا وأجدادنا؟
قررت النيابة إحالة المتهم إلى المحاكمة العاجلة محبوساً، في حين صرفت المحرض على ذبح المتهم من سرايا النيابة.
يتأكد المفتش الأعظم من درجة حرارة الخشب الموقد، وحدة السيف. يزعق صاحب سلطة الاتهام موجها كلامه للحشد الجماهيري الموتور والغاضب: هذا الرجل انحرف عن الدين الرسمي للبلاد. هذه الرجل لا يؤمن بربٍ هو الرحيم الغفور. ربٌ وسعت رحمته كل شيء. تهتف الجماهير: إلقوه إلى النار، إلا الرب يسوع. ويقف الرجل أمام النيران الهائلة مبتسماً ناظراً إلى السماء.
ينهي وكيل النائب العام مرافعته المطولة امام محكمة جنح المرج عن عقوبة من ينكر الله مطالباً بتطبيق أقصى العقوبة على آلبير، بينما يجلس في قاعة المحكمة طالب في كلية الحقوق يهمهم متعجباً بعضا مما قالته المحكمة الدستورية العليا في أحد أحكامها من أن "حرية العقيدة التي كفلها الدستور تعني ألا يُحمل الشخص على القبول بعقيدة لا يؤمن بها، أو التنصل من عقيدة دخل فيها أو الإعلان عنها، ولا يجوز أن تيسر الدولة - سراً أو علانية - الانضمام إلى عقيدة ترعاها، إرهاقا لآخرين من الدخول في سواها، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقاباً لمن يلوذون بعقيدة لا تصطفيها."