أزمة اليمين في مصر: من مبارك إلى الإخوان
قد يكون من المبكر القطع بتوجه الإخوان الاقتصادي، وموقفهم النهائي من قضايا العدالة الاجتماعية والنمو والتوزيع ودور الدولة في الاقتصاد إذ أن البرلمان الذي حظيت فيه الجماعة بأكثرية نسبية كان قصير العمر كما أن الرئيس المنتخب محمد مرسي لم يقض أكثر من شهر فحسب في المنصب الجديد. بيد أنه بالإمكان الحديث عن الميول العامة والتصورات الحاضرة لدى جماعة الإخوان فيما يتعلق بالسياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية من واقع برنامج حزب الحرية والعدالة التابع للجماعة ومشروع النهضة والبرنامج الانتخابي للرئيس مرسي. ولا شك فإن هذه الوثائق مضافاً إليها ما صدر من قرارات وقوانين ومشروعات قوانين عن البرلمان المنحل ومن الرئيس حديث الانتخاب تكشف لنا بشكل مبدئي ومبكر عن طبيعة الانحيازات الاجتماعية والسياسية التي تراهن عليها قيادات الإخوان في الوقت الحالي، كما تكشف عن التصورات الأولى للتحالف الاجتماعي المنتظر إنشاؤه في سنوات حكم الإخوان القادمة.
واستناداً لما سبق فإن التصورات الإخوانية الاقتصادية والاجتماعية تبدو محافظة بمعنى عدم قيامها على تغييرات جذرية لا في علاقات الملكية (غلبة القطاع الخاص ومد دوره الإنتاجي والتوزيعي) ولا في علاقة الدولة بالسوق ولا كذلك في علاقة مصر بالاقتصاد العالمي ممثلاً في التجارة وانتقالات رؤوس الأموال والالتزام بمشروطية المؤسسات المالية العالمية كالصندوق والبنك الدوليين وهيئة المعونة الأمريكية. وقد عبر خطاب القيادات الإخوانية عن رغبة في استمرار السياسات الاقتصادية على ما كانت عليه قبل الثورة مع التشديد على مكافحة الفساد والمحسوبية، وهو ما يعني استمرار الخط النيوليبرالي العام الذي سلكته الحكومات المصرية المتعاقبة منذ تبني برنامج الإصلاح الهيكلي في مطلع التسعينيات. ويطرح المقال تساؤلاً استشرافياً حول إمكانية إبقاء النخبة الإخوانية الجديدة على نموذج النمو النيوليبرالي ما بعد الثورة. وما هي العوائق التي قد تحول دون هذا الاستمرار مع انفتاح المجال السياسي، وانهيار النظام القمعي، والتمكين الانتخابي لشرائح عريضة من المصريين حديثي التسيس في خضم إلحاح القضايا الاجتماعية والاقتصادية؟
خيار الإخوان: النيوليبرالية كخيار عملي لا أيديولوجي
يحلو لبعض المحللين والمتابعين لمواقف الإخوان الاقتصادية القول بأن للجماعة مواقف تميل لليمين الاقتصادي المحافظ بمعنى الانحياز للمستثمرين ورجال الأعمال، وخاصة رأس المال الكبير والأجنبي، ومساواة التنمية الاقتصادية بمعدلات نمو مرتفعة دون النظر بشكل جدي لآليات التوزيع بجانب عدم النظر بعين العطف على مطالب الحريات النقابية وحقوق العمال. وكلها ملامح تشي بأن للإخوان أيديولوجية رأسمالية على غرار الحزب الجمهوري الأمريكي على حد قول زينب أبو المجد. وقد أرجع البعض هذا التوجه لطبيعة الجماعة المحافظة، والتي لا تتبنى تصورا واضحا عن حقوق المهمشين الاقتصادية والاجتماعية بقدر ما تملك برنامجاً هوياتياً يخص علاقة الإسلام بالمجال العام والدولة. وأبرز هؤلاء المحللون دور رجال الأعمال داخل جماعة الإخوان المسلمين، وخصوا بالذكر أناساً كخيرت الشاطر وحسن مالك باعتبارهما من رجال رأس المال الكبار الذين كونوا ثروات طائلة من خلال الانخراط في أنشطة التجارة والاستيراد من ناحية، والدخول في شراكة مع رؤوس الأموال الأجنبية وخاصة الخليجية من ناحية أخرى مما يخلق لهم مصالح خاصة لاستمرار ذات التحولات النيوليبرالية بل وزيادة اندماج الاقتصاد المصري في تقسيم العمل الدولي. وإذا مدت هذه التحليلات على استقامتها يصبح الإخوان في واقع الحال ورثة مشروع جمال مبارك مع كونهم أكثر قدرة منه على إنجاز المشروع بحكم تمتعهم بتنظيم حزبي قوي يضمن لهم الأغلبية الشرعية عبر الانتخاب واستنادهم للشرعية السياسية/الدينية.
فهل الإخوان تنظيم يميني محافظ بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي؟ هل هم النسخة المصرية من حزب المحافظين البريطاني أو الحزب الجمهوري الأمريكي؟ في تصوري أن الإجابة هي بالنفي. فمحافظة الإخوان المسلمين ليست أيديولوجية بقدر ما هي نابعة من حسابات عملية تتعلق بالأساس بمصالح الجماعة وبطبيعة المرحلة من حيث انتقال السلطة والصراعات المرتبطة بها منذ سقوط مبارك.
أولها تتعلق بوضع مصر كدولة ذات غالبية فقيرة في العالم النامي. فما من إمكانية لظهور حزب لرجال الأعمال يتبنى الأيديولوجية النيوليبرالية صراحة قولاً وعملاً ويحظى بأغلبية شعبية. فالأحزاب المحافظة بالمعنى الاقتصادي تقوم على تفكيك مؤسسات دولة الرفاه – وهو ما يغيب أصلاً عن الحالة المصرية وعن أغلب الدول النامية-. وتعتمد في هذا على تأييد واسع من الطبقات الوسطى –والتي لا تشكل الأغلبية إلا في بلدان الشمال الرأسمالية- في مقابل الطبقات العاملة. وفي هذه المجتمعات تحظى أيديولوجية السوق الحر بكثير من المصداقية باعتبارها أفضل سبل تخصيص الموارد الاقتصادية بكفاءة، وباعتبار أن الحرية الاقتصادية شرط أساسي للحرية السياسية.
ومثل هذه التصورات لا سبيل لقبولها شعبياً في بلد غالبية سكانه من الفقراء في الريف والمدن من ناحية، ويرتبط تقليدياً برباط أبوي مع حكامه من ناحية أخرى قوامه اضطلاع الدولة بتوفير سلع وخدمات أساسية تفي بالإعاشة (من عينة الخبز والزيت والكيروسين والسولار) من ناحية أخرى. ويضاف إلى هذا أن حزب الإخوان المسلمين قد وصل للسلطة في أعقاب انهيار نظام مستبد طبق سياسات نيوليبرالية على استحياء لعدة سنوات (2004-2008)، ومع محدودية الإصلاحات هذه فقد أدت إلى تفجير موجة عاتية من الاحتجاجات الجماهيرية التي انتهت بالإطاحة به، ولا تزال الاضرابات والاعتصامات والتظاهرات العمالية مشتعلة في ظل انهيار الدولة الأمنية على نحو يضع قيودا سياسية جمة على تصور نيوليبرالي واسع، وإلا عد من باب الانتحار السياسي لتنظيم يعتمد على نتائج الانتخابات في المقام الأول لتأمين موقعه في السلطة.
مأزق التبرير السياسي للنيوليبرالية
ليس بوسع حزب يسعى للهيمنة على المجال السياسي الجديد في مصر أن يعلن صراحة عن اتباعه أيديولوجية اقتصادية محافظة أو نيوليبرالية. وإنما سيتم دوما تبرير استمرار الإجراءات والسياسات النيوليبرالية ليس بذاتها وإنما بأثرها على الخير العام أي الحديث عن ضرورة استمرار عمل القطاع الخاص وجذب الاستثمارات الأجنبية بما يحقق معدلات للنمو وخلق فرص عمل ومن ثم تحسين مستويات المعيشة ورفع الدخول للغالبية من المصريين خاصة الطبقات الوسطى التقليدية في الريف والمدن، والتي لا تزال تملك خيالاً ناصرياً للغاية للعدالة الاجتماعية من حيث ملكية الدولة لوسائل الإنتاج (القطاع العام)، والتزام الدولة بتقديم خدمات عامة مجانية من قبيل العلاج والتعليم مع وضع حد أقصى وأدنى للأجور وهلم جرا.
ومن هنا فإن حزب الأغلبية الإخواني ببرلمانه المنحل ورئيسه المنتخب قد ورث في حقيقة الحال الحزب الوطني لا بشبكاته وفساده ومحاسيبه، ولا بتفككه وترهله واعتماده الكلي على الأجهزة الأمنية، وإنما بأزمته في إنتاج خطاب يبرر التحول الرأسمالي، وبالتالي تفكيك مكتسبات الطبقات الوسطى والعمالية من العهد الناصري، دون أن يفقده هيمنته السياسية. وهذه المفارقة الرئيسية هي التي قد تفسر كم التناقضات التي يحويها الموقف الإخواني المبدئي من مسائل الاقتصاد والعدالة الاجتماعية. والتي تتجلى في برنامجه الحزبي وفي مشروع النهضة وفي العمل البرلماني الإخواني. وهي تناقضات لا تشبه سوى مواقف الحزب الوطني في جمعها لمكونات متضاربة للسياسات والقرارات تتأرجح من الالتزام بالتحرير الاقتصادي والخصخصة وحفز دور القطاع الخاص وجذب الاستثمارات الأجنبية وغيرها من ملامح الأحزاب اليمينية إلى بذل الوعود ووضع البرامج وتخصيص الموارد فعلياً لبرامج وسياسات توزيعية تقترب كثيرا من تصورات دولة الرفاه الخاصة بيسار الوسط مما يزيد من نطاق التناقضات الحاكمة للسياسات العامة.
2.1-الوعود التوزيعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية
بجانب تأكيد البرامج الإخوانية المختلفة على اقتصاد السوق الحر، وعلى استمرار العمل في إطار القطاع الخاص، وتبني نموذج تنموي يعلي من قيم النمو من خلال التصدير وجذب استثمارات أجنبية فإن ثمة ملامح توزيعية واضحة في البرامج نفسها تتمثل في التزامات على الدولة في مواجهة شرائح اجتماعية متعددة. فعلى سبيل المثال نجد في برنامج حزب الإخوان حديثاً عن إنشاء صندوق قومي لمنح إعانة بطالة للمتعطلين وتيسير إجراءات الحصول عليها، وذلك عن طريق تشريع قانون. وهو ملمح يدل وضعه في برنامج الحزب عن وعود توزيعية لفئة عريضة من الشباب العاطل الذي تصل نسبته لقوة العمل إلى ما بين 10 و20%. وبغض النظر عن جدية الطرح من عدمه –خاصة وأنه لم تتم مناقشة أي قانون بهذا الخصوص بعد- فإن ذكر الحزب لهذا الأمر في برنامجه يعني استهدافه لشرائح من الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا خاصة في المدن بترتيبات تقترب به كثيراً من أطروحات أحزاب اليسار ويسار الوسط، وهو ما يعني أن قيادات الإخوان المسلمين لا تتبنى تصوراً نيوليبرالياً أو يمينياً محافظاً متسقاً من الاقتصاد ودور الدولة فيه ولا فيه قصر المواطنة على الحقوق السياسية دون الاقتصادية والاجتماعية.
وينطبق الأمر ذاته على بند "تحسين أوضاع العمال والفلاحين" من حيث التعهد بوضع حد أدنى للأجر يضمن حياة كريمة للأسرة المصرية مع "إقرار زيادة سنوية تكفي لمواجهة التضخم". وهو إجراء تماماً كإعانة البطالة لم تقره أي حكومة يوماً في تاريخ البلاد الحديث –بما في ذلك في العصر الناصري-. وهو إجراء يدفع بالحزب، على مستوى البرنامج على الأقل، إلى حكومة أحزاب يسار الوسط التي تراهن على الطبقة الوسطى من العاملين بأجر في القطاع الرسمي، والذين من المنتظر أن يستفيدوا من وضع حد أدنى للأجور علاوة على موظفي الحكومة. وينسحب الأمر نفسه على رفع الحد الأدنى للمعاشات وإقرار زيادات سنوية تكفي لمواجهة ارتفاع الأسعار. ويذهب البرنامج إلى الحديث عن توسيع مظلة التأمينات لتشمل كل المصريين، وهو اتجاه يتمشى مع وضع حد أدنى للأجور وربطه بالتضخم. وكلها ملامح لحزب عمالي وليست لحزب لرجال الأعمال. وهو ما صدر به قرار جمهوري بالفعل رفع المعاشات لكل من العاملين المدنيين والعسكريين بالدولة.
وتتكامل تصورات الرفاه هذه في جانب من برنامج حزب الحرية والعدالة بالتأكيد على "كفالة الدولة للتأمين الصحي كاملاً ودون أدنى أعباء" و"مد مظلة التأمين الطبي لتغطي كافة طبقات الشعب وفيها يدفع الفرد مايستطيع ويحصل على مايحتاج" .وهو بالطبع طرح طموح للغاية، وإن كان ينقصه جدول زمني وبرنامج وخطة يقتضي تطبيقها سنوات طويلة. ويقر البرنامج تصوراً للرعاية الصحية يقوم على زيادة المخصصات المالية للصحة بشكل تدريجي حتى تصل للمعدلات العالمية، وزيادة دخول الفرق الطبية.والمثير للانتباه أن التزام حزب الجماعة بالتأمين الصحي الشامل لم يقف عند ذكره في البرنامج فحسب بل امتد إلى أعمال مجلسي الشعب والشورى كذلك. فنجد أن رئيس لجنة الصحة بمجلس الشورى د. عبد الغفار صالحين النائب السابق عن حزب الحرية والعدالة يصرح بأن "جميع المصريين تحت مظلة التأمين الصحي خلال خمس سنوات فقط". ونجده وقد أفاض بالقول أن الحزب يسعى لوضع "نظام متكامل ما بين 4 إلى 8 سنوات"، وأنه يسعى لتوسيع العلاج على نفقة الدولة ليشتمل على أمراض أخرى بعد قصره على أربعة أمراض فقط. . .ويتعهد كذلك بحل "أزمة الريف الصحية" من خلال إعادة توزيع الموارد المادية والبشرية. ويخلص د.عبد الغفار إلى القول بـ""طبعا تحتاج {الخطة} إلى ميزانية كبيرة، ولكننا لسنا أقل من الدول الإفريقية الأضعف منا اقتصادياً ومواردها أقل...فسنعمل على إعادة توزيع ميزانية الصحة والتعليم، التي هي عصب نهضة الأمم ولا يمكن أن يستمر نفس التوزيع الذي يعظم من ميزانية الأمن على حساب الصحة والتعليم".
ونلمس الاضطراب ذاته في تصورات العلاقة الرابطة بين الدولة ودورها التدخلي في الاقتصاد ونظام السوق الحر فثمة ذكر واضح لدور الدولة في مواجهة الغلاء والقضاء على الفقر والبطالة وتقديم الخدمات العامة الأساسية من مرافق وتعليم ورعاية صحية ونقل ومواصلات. ويتناول البرنامج كذلك بالحديث مطولاً عن دور الدولة التنظيمي في ضبط علاقات السوق من خلال تفعيل قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار. وهو ما تمت مناقشته بالفعل في البرلمان والدفع باتجاهه بتخفيض الغرامات المفروضة على المبلغ عن الممارسة الاحتكارية، بل ويذهب البرنامج إلى الحديث عن "المراقبة الصارمة للأسواق لتحديد مدى الالتزام بالحدود المتفق عليها للسعر" وهو ما يوحي بفرض الدولة لنوع ما من التسعير الجبري، ربما للسلع والخدمات الأساسية.
2.2-الاقتصاد القومي في مواجهة الاقتصاد الرأسمالي
وأما الملمح الثاني للتناقض فيتمثل في تقديم تبريرات قومية لعمل الاقتصاد الرأسمالي. فالقطاع الخاص سواء أكان وطنياً أو أجنبياً لا يبرر على أرضية كفاءة استخدام الموارد أو تفوق نموذج السوق على ما عداه ولا يبرر بالطبع من زاوية حقوق الملكية الراسخة –لغياب مثل هذا التقليد في البلدان غير الرأسمالية بما فيها مصر-، وإنما يبرره العائد الذي يمكن أن يحققه من خلال رفع الدخول وتوليد فرص العمل وتحسين القدرة على الاستهلاك للغالبية من السكان، وخاصة الطبقات المتوسطة في المدن. وعمل الاقتصاد الخاص في إطار أهداف عامة يحمل منطقين متضاربين تمام التضارب بين إطلاق آليات السوق بمقتضى العولمة المتجاوزة للدولة القومية، وبين منطق إخضاع الاقتصاد للأهداف القومية التي تضعها الدولة. ومن هنا تبرز المشكلات فيما يتعلق بالمسلمات الخاصة باستمرار العلاقة بين مصر والعالم وباستمرار الإطار الرأسمالي ودور الدولة كما هو.
وللقارئ المدقق فإن برنامج الحزب ومشروع النهضة يتأرجحان بين مدخلين متضاربين لإدارة الاقتصاد الأول منهما قومي تدخلي "ناصري الهوى" يرى أن وحدة التفاعل الاقتصادي هو "الدولة". ويرى أن تخصيص الموارد يجب أن يخضع لأهداف تضعها الدولة سواء أكانت قومية "كالاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية كالقمح والسكر والزيت واللحوم والقطن" كما يرد في برنامج الحزب، والذي يذهب إلى "ترشيد سياسة الخصخصة وضبطها وفق سياسة واضحة، وخصوصاً بالنسبة للصناعات الإستراتيجية" في تجل واضح للإعلاء من منطق الاقتصاد القومي على اقتصاد السوق. ويتجلى ملمح ناصري آخر بالحديث عن "تشجيع الإنتاج المحلي وترشيد عمليات الاستيراد". وهو تصور يقترب من البرامج السابقة على الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، والتي كانت تعلي من شأن التنمية في مصر بالاعتماد على السوق المحلية ومن خلال التصنيع الذي يحل محل الواردات بديلا عن الاندماج في الاقتصاد العالمي. وحتى لو لم تترجم هذه الأهداف إلى برامج أو سياسات على أرض الواقع بحكم الالتزام الفعلي بآليات السوق وانفتاح الاقتصاد المصري على العالم إلا أن حضورها على مستوى الخطاب دليل وحده على قدر من الازدواجية من حيث الحاجة لسوق تبريرات تتناسب وتصورات قواعدهم المستهدفة.
ويحضرنا هنا بالطبع القول بأن ترتيبات الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية والحدود الدنيا والقصوى للدخل هي أقرب لترتيبات الدولة الأبوية منها إلى دولة الرفاه، حيث إن التصور الأساسي هو قيام الدولة بتوفير هذه الخدمات دون الحاجة لإطلاق حرية تمثيل المصالح الاجتماعية المختلفة في صورة نقابات واتحادات وجمعيات كما هو الحال في دولة الرفاه، والتي تتداخل فيها الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية جميعا باعتبارها مؤسسة للمواطنة. بيد أن حضور مثل هذه التعهدات في البرنامج وفي الخطاب وفي العمل البرلماني الإخواني دليل كاف كذلك على طبيعة ما يتوقعه جزء من القواعد التي صوتت للحرية والعدالة. وهو كما سبق الذكر مخيال ناصري عن العدالة الاجتماعية لم يتغير كثيرا رغم الاضمحلال الشديد الذي أصاب ترتيبات الناصرية منذ هزيمة 1967، وما تلاها من تغيرات كبيرة في السياسات العامة الداخلية وكذا الخارجية. وبما إن الجزء الأكبر من الطبقات الوسطى ذات الحظ من التعليم والتأهيل لم تكسب كثيرا من اندماج مصر في الاقتصاد العالمي منذ الانفتاح في السبعينيات ومروراً بتبني التحول الهيكلي في مطلع التسعينيات ثم إصلاحات نظيف النيوليبرالية منذ 2004. ومع تدهور نصيب هذه الطبقات من الدخل القومي، وتراجع مع تحصل عليه فعلياً من خدمات الدولة العامة من صحة وتعليم ومواصلات أخذت قواعد النظام المستبد للسادات ثم لمبارك في التآكل رويداً رويداً حتى أفضت لمشاهد انتخابية بالغة الدلالة على عزلة النظام المتصاعدة منذ 2000 ومرورا بـ2005 وختاما بـ2010 التي أفضت لانتفاضة يناير 2011.
3-أين تكمن جذور الإشكال؟ الأبوية في مواجهة النيوليبرالية
كانت رؤية السادات ومن بعده مبارك من وراء التحرير الاقتصادي والخصخصة والسماح بحرية حركة رأس المال هو زيادة الموارد المتاحة للنظام نتاجاً لأزمته المالية المستحكمة منذ منتصف السبعينيات. فإذا نظرنا لعهد مبارك (1981-2011) وجدنا أن التصور الغالب على النظام الحاكم كان إتخاذ الإجراءات اللازمة لإنشاء اقتصاد سوق تنافسي قادر على توليد نمو اقتصادي مرتفع وخلق فرص عمل بما يعود على قواعد اجتماعية بالنفع تعوض النظام ما خسره من شرعية مع تردي القواعد الموروثة من العهد الناصري. بيد أن نظام مبارك وبعد عقدين من التحول الاقتصادي عجز عن التسويق لشرعيته على أسس غير ناصرية إذ ظل الأصل هو الحفاظ على ما تبقى من الدولة الأبوية ولو كان اسمياً بتعليم ورعاية صحية ومواصلات مجانية وفاتورة دعم للسلع الأساسية تنوء بها خزانة الدولة. وبرز هذا التناقض الشديد في سياسات حكومة نظيف نفسها (2004-2011)، والتي تعد ضمن الأكثر نيوليبرالية في مجالات كالخصخصة وتحرير التجارة واجتذاب رؤوس الأموال، ومع ذلك فإنها سجلت معدلات مرتفعة للعجز في الموازنة وفي نسبة الدين العام للناتج المحلي. وهي مؤشرات تدل على تضخم فاتورة الإنفاق العام باستمرار نتيجة لزيادة الدعم والأجور في محاولة لاحتواء الاحتجاج الاجتماعي الذي انتشر منذ 2005.
فلم فشل مبارك ومن قبله السادات في استخدام اقتصاد حر لدعم الشرعية الأبوية للدولة؟ تكمن الإجابة باختصار في عجز النظام عن إنشاء مؤسسات قادرة على إقامة نظام اقتصاد سوق حر تنافسي. وذلك لأن إنشاء مثل هذه المؤسسات كان يصطدم في مجمله وفي كثير من جوانبه مع ديناميات عمل النظام السياسي وشبكاته القائمة على المحسوبية والنفوذ والعلاقات غير الرسمية والباب الخلفي المفتوح بين السلطة والثروة. فانتهى التحول الاقتصادي في مصر إلى إنتاج نمط من رأسمالية المحاسيب المشوبة بالفساد وعدم المنافسة، والتي عجزت عن خرق ذات النمط السائد من الاعتماد على بيع المواد الخام وتقاسم الريع على أساس الولاءات السياسية. ولم تسهم هذه الصيغة في توليد معدلات نمو حقيقية تشترك فيها قواعد واسعة من السكان. ومن ناحية أخرى فشل النظام السابق في تطوير قواعده الضريبية بحيث ترتبط موارد الدولة بالاقتصاد النامي. ويرجع الفشل الضريبي هذا لظروف سياسية قبل أن تكون إدارية أو فنية مفادها عجز النظام -في ظل غياب أي ظهير شعبي حقيقي له- عن تحصيل الضرائب من الشرائح ذات الثراء النسبي، والتي كانت لتواجه هذه المحاولات بمقاومة ناجعة كونها الفئات الأكثر تعليما وقدرة على التنظيم في مواجهة الدولة. والضرائب كما يعرف الكثيرون تعتمد على تحالف اجتماعي لفئات مستفيدة من عائدها وفي الوقت نفسه قادرة على تأييد سياسات الدولة في تحصيل الضرائب من الأغنياء. وهو بالطبع ما كان غائبا في ظل انسداد شرايين الحياة السياسية وعجز الحزب الوطني عن أداء وظائف كونه حزبا سياسيا تعبويا كما كان مخططا لأسلافه في العهد الناصري. وكانت الخلاصة هي العجز عن صيانة أصول الدولة الأبوية، ومن ثم انحلال عرى التحالف الاجتماعي الذي نشأ في نهاية الخمسينيات كأساس للدولة الحديثة في مصر.
ومن ثم يمكن القول إن التحدي الذي فشل فيه نظام مبارك كان كيفية إطلاق آليات السوق الحر من ناحية، واستخدام عوائدها من أجل صيانة شرعية سياسية ذات طابع توزيعي أبوي من ناحية أخرى. ولا أرى أن هذا التناقض كان منحصرا في نظام مبارك بحكم كونه نظاماً مستبداً بقدر ما إنه تناقض يطال اليمين ويمين الوسط في البلدان النامية ذات الميراث الأبوي مثل مصر. ولا أعتقد أن إطلاق الحريات السياسية سيخفف من هذه التناقضات بل سيذكيها ويزيدها حدة لأن الضغوط التي ستضعها المنافسة السياسية عبر الانتخابات على صانعي القرار ستكون شديدة الوطأة، وإذا أضفنا إليها إطلاق الحريات الاحتجاجية في الإضراب والاعتصام والتظاهر وغيرها فإن وضع متقلدي السلطة يكون أشد سوءاً من عهد مبارك. ولنا في الحالة التركية أسوة. فبعد الإصلاحات النيوليبرالية التي اتخذها النظام العسكري المستبد في مطلع الثمانينيات (1980-1983) مع تعليق الآليات الديمقراطية، وفي ظل تصاعد للقمع السياسي، أعيدت الانتخابات الحرة في 1983 بصورة جزئية وفي 1987 بصورة كاملة. ومع عودة الانتخابات بدأت حكومة تورجوت أوزال المنتخبة في الحياد عن خط السياسات النيوليبرالية في شقها المالي فاتسع العجز في الموازنة وزاد الإنفاق الحكومي وارتفاع الدين العام. وكان ذلك كله لحاجة أوزال لإرضاء الجمهور الواسع خاصة في المدن من الشرائح الوسطى من خلال برامج دعم للإسكان وزيادات في الأجور والمعاشات للعاملين في الدولة. وكانت إستراتيجية أوزال بسيطة وهي الإقبال على مزيد من التحرير الاقتصادي لزيادة الصادرات وجذب رؤوس الأموال الأجنبية وتوليد نمو مرتفع يولد موارد كفيلة لصيانة شبكات التوزيع لأن مصدر الشرعية لدى الغالبية من الأتراك ظل أبوياً استناداً للميراث الكمالي منذ الثلاثينيات. وحالة الهند في التسعينيات لا تختلف كثيراً كذلك في ظل حكم حزب المؤتمر.
وفي ظل غياب أي بديل قمعي واقعي في المدى المتوسط بمصر فإن النخبة الإخوانية الجديدة ستجد نفسها مضطرة للجمع بين نقيضي السياسات الشعبوية الاقتصادية القائمة على التوزيع لصالح الفئات المتضررة من التحرير الاقتصادي من ناحية، مع الإبقاء على الأطر لاقتصاد سوق حر من ناحية أخرى أي وضعية شبيهة بتركيا في الثمانينيات والتسعينيات. ولكن قدرة الإخوان على إدارة هذا التناقض دون خسائر سياسية واقتصادية باهظة، خاصة في ظل تفجر الوضع الاجتماعي في السنوات القليلة الماضية سترتهن بإيجاد علاج ما لأزمة مالية الدولة بحيث تستطيع دولة الإخوان الجديدة من الوفاء بتعهدات صيانة أبوية الدولة دون مزيد من الانهيارات الاجتماعية في صورة إضرابات واعتصامات وتظاهرات كما كان الحال في السنوات الخمس الأخيرة. خاصة وأن ثمة مؤشرات تفيد بأن وتيرة الإضرابات والاعتصامات العمالية قد تضاعفت بعد الثورة في ظل غياب القمع الأمني. وعلى الرغم من أن الأنشطة الاحتجاجية العمالية تفتقر لأي تنظيم نقابي مستقل وكبير قادر على تطوير سياسات عامة أو الضغط على صانع القرار لتبني اتجاه ما فإن استمرارها على هذا النحو المتسارع يعيق مجهودات التعافي الاقتصادي واجتذاب الاستثمارات المحلية والأجنبية كما تمثل ضغطاً شديداً على الخزانة العامة، وهو ما ظهر بالفعل في القرارات الجمهورية الأخيرة التي اتخذها الدكتور مرسي بزيادة المعاشات ورفع البدلات والحوافز علاوة على الاستجابة لغالب مطالب العمال المعتصمين بما يعنيه هذا من زيادة الأعباء على مالية الدولة.
ولكن علاج أزمة ماليات الدولة مسألة ثورية في حد ذاتها من حيث أبعادها الاجتماعية، وتنطوي على إتخاذ تحيزات اجتماعية واضحة لفئات اجتماعية في مواجهة فئات أخرى. وهو ما يبدو أن الإخوان يتجنبونه في التوقيت الحالي حتى لا يوسعوا من نطاق صراعاتهم السياسية من ناحية، ولغياب أية رؤية واضحة عن الإخوان كحزب أغلبية وليس كجماعة فحسب من ناحية أخرى. فما يبدو واضحاً من تحركات القيادات الإخوانية أن الأولوية معطاة للتوصل لاتفاق ما مع العسكر والمصالح القديمة المرتبطة بهم يصوغ الملامح الرئيسية لنظام ما بعد مبارك فيما تغيب رؤية متكاملة عن إدارة الأزمة الاجتماعية في مصر، والتي كانت هي المصدر الرئيسي للحركة الاحتجاجية العارمة التي قضت على نظام مبارك الأمني، وفتحت المجال السياسي في المقام الأول. ولعل في استمرار الحراك الاحتجاجي ما يتناقض بالكامل مع الخيارات القليلة المتاحة للقيادات الإخوانية لإحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية في ضوء التزامهم باتفاقات وتعهدات مع العسكر والمصالح القديمة للأجهزة الأمنية والأوليجاركية الاقتصادية، وهو ما ظهر في تسريبات الدستور وفي تشكيل الحكومة الجديدة وتوزيع الحقائب الوزارية بها. والغالب أن النظام السياسي الجديد الجاري تخليقه ستسند إليه مهمة التوفيق بين المصالح القديمة والجديدة، وسيكون غير قادر على الاستجابة للضغوط الاجتماعية التي لا تزال تتعاظم عليه وإن ظلت غير منظمة، وغير مسيسة بعد، وخاضعة للمنطق الأبوي حتى الآن. بيد أنه ما من ضامن أن المجال السياسي الذي انفتح، ولن يكون بمقدور أحد غلقه بسهولة أو مصادرته لصالح القمع الأمني مرة أخرى إلا بتكلفة باخظة- ما من ضامن أن هذا المجال لن يشهد طرحاً للقضايا الاقتصادية والاجتماعية في المستقبل. وقد يكون هذا الطرح شعبوياً على اليمين أو على اليسار، وهو ما تجلى بالفعل في صعود حازم صلاح أبو إسماعيل قبيل استبعاده من الانتخابات الرئاسية، ثم النتائج المبهرة التي حققها حمدين صباحي في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية. والأول ممثل للشعبوية اليمينية فيما الآخر لتلك اليسارية. وبالتالي فإن صياغة نظام سياسي معزول عن إدارة المطالب الاقتصادية والاجتماعية هو بناء قلاع من رمال في متناول موج البحر.
* نشرت في جدلية في 8 أغسطس 2012.