الذين أخرجوا من ديارهم... عن بعض ما حدث في العامرية
[دارت وقائع هذه القصة في قرية شربات التابعة لقسم شرطة العامرية بمحافظة الاسكندرية يوم الجمعة الموافق 27 يناير 2011 وجميع الاحداث بناء على روايات شهود عيان وضحايا]
يقف أمام ورشته في الشارع الضيق، يحاول نبيل الشاب النحيف أن ينهى عمله على سيارة أحد زبائنه. يعلم أن هناك خطب ما سيحدث اليوم، بعد أن تم احتجاز شقيقه مراد أمس في قسم شرطة مركز العامرية بالإسكندرية، إثر شائعات سارت في قرية "شربات" التابعة للمركز عن تورط مراد في تصوير إحدى بنات مسلمي القرية وهي متعرية له.
يترجى نبيل من يسوع أن يحميه، يهمهم قائلا: "بس لو أخويا طلع غلطان أنا هأدّبه وياخد جزاته".
يسمع حركة كثيفة تأتي من خلفه وأصوات تتداخل وتتعالي، يلتفت فيجد مجموعة من الرجال يتجاوزون الخمسين رجلا يتقدمهم شخصاً يناديه من حوله "يا شيخ شعبان”.
اقتربوا من نبيل والتفوا حوله، وخاطبه الشيخ شعبان بصوت عال وحاسم : "البيت ده يفضى فورا، وبيت أبوك وبيت أخوك يفضوا فورا". وتتعالي أصوات من الواقفين تسب نبيل ودينه، وتتوعده.
يدرك نبيل ضعف موقفه وأنه وعائلته معرضين لخطر لا يعرف مداه. فوالده العجوز العاجز والمقعد على كرسي متحرك ووالدته المسنة، وولديه الصغار وزوجته وأخته وابنها الذين في ضيافته، كانوا هم شغله الشاغل.
يخفق قلبه لا يعلم كيف ستكون اللحظات القادمة، يدخل بيته يخشى أن تكون تلك هي المرة الأخيرة التي ستخطو فيها قدمه داخل بيته.
لم تمر لحظات حتى تعالت الأصوات فعاد لباب بيته فوجد الأعداد قد تضاعفت لتصبح بالآلاف، وبدأوا في رمي البيت بالحجارة.
يغلق الباب وينظر من أحد فتحاته فيرى مجموعة منهم تحمل حجر كبير ويدفعوا به إلى باب محل الأقمشة الخاص بشقيقه مراد، يهتفون وهم يتدافعوا إلى داخل المحل بعد أن كسروا بابه: "الله اكبر .. لا إله إلا الله .. المسيحي عدو الله".
يحمل بعضهم أثواب قماش على أكتافهم خارجين من المحل وهم يكّبرون. ويحمل آخرون ماكينة خياطة وهم يهللون بالنصرة. يسرقون ما تطوله أيديهم وهم يرددون هتافات تحقّر من المسيحية وتعلي من شأن الإسلام.
مجموعة أخرى تدخل محل مستلزمات الكمبيوتر الخاص بالشقيق الأصغر وليد. السارقون يهتفون: "إسلامية إسلامية". وتستمر وتنتقل عمليات النهب والسلب والتخريب لورشة نبيل تحت شعارات دينية.
كان نبيل ينظر من خلف باب بيته وهو يرتعد، ودقات قلبه تزداد. بجواره زوج أخته غير القادر على الوقوف على قدميه وقد اصفر وجهه. يطلب منه نبيل الصعود للدور الثاني فيصعد السلم مرتعدا زاحفا. يسمع نبيل صوت من الخارج يخاطب الناس فينظر من فتحة الباب فيجد شابا في الثلاثينات من عمره يقول في الناس: "يا جماعه إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا .. وحرام عليكم اللي بتعملوه ده". فيرد عليه أفراد من الجموع: "أنت شكلك مسيحي شوفوه كده داقق صليب ولا إيه".
مع دخول الظلام تنقطع الكهرباء عن القرية كليا. يسمع نبيل طلقات نار في الخارج، ويدرك أنه وفي أي لحظة سيقتحم المسلمون بيته، فيصعد إلى الدور الثاني يجد الخوف في كل مكان، أبوه ذو السبعين عاما يبكي بكاء الأطفال، وهو جالس على كرسيه المتحرك، وأمه المسنة لا تكف عن البكاء والخوف والفزع ظاهرين على ملامحها.
يقوم نبيل بالاتصال بالشرطة والجيش والمطافئ، مرة بعد أخرى. يسمع منهم تطمينات ووعودا بأنهم قادمون له سيحمونه. ويعود ويتصل لا يجد سوى كلام ووعود. "نحن في الطريق إليك"، ولا أحد يحضر.
يحمل نبيل أبناءه الصغار ويصعد بهم إلى الدور الثالث حيث تربي أمه الطيور، يصطحب أطفاله إلى غرفة ، فينكمشون في أحد زواياها وأجسادهم ترتعش. يمسك كل منهم بجسد الآخر، وفيض من الدموع ينهمر ويبلل أجسادهم.
ينظرون إلي أبيهم وهو يحضر لوحا من الصاج الكبير ويخاطبهم باكيا وهو يغطيهم به: "ما تطلعوش أي صوت يا عيال، ما تخافوش مش هايحصلكم حاجة".
ينظر من الشباك يشاهد ألسنة اللهب تتصاعد من بيت جاره أبو سليمان ابسخريون، وعمليات السلب والنهب في محالات أبو سليمان تحت غطاء من التكبير والتهليل. يعود نبيل يحمل والده العاجز ويخبئه في غرفة أخرى ويغطي عليه بقطع خشب وأمه تصعد السلم والهتافات لا تتوقف وصوت إطلاق النيران خارج المنزل ورائحة دخان حريق تتصاعد من بيت جارها. تدخل حيث تربي طيورها، تجلس وسطهم في زاوية الحجرة تشعر بفزع وخوف لم تجربه من قبل في دارها، يغطيها ابنها بقطع أثاث قديمة، تدعو ربها من أجل الحماية والإنقاذ.
ينزل نبيل وهو يفكر: ماذا سيحدث؟ سيقتلوننا أم ماذا هم بنا فاعلون؟.
يحمل بعض قطع غيار السيارات التي في منزله وأي شيء ثقيل يجده أمامه ويضعه خلف الباب، يسمع الوعيد من الخارج، ومطالبات بإخراجهم خارج البلد وأخرى تطالب بقتلهم. يضع ظهره على الباب معتقدا أن لديه القوة التي تجعله يقاوم تلك الحشود، يسمع أحدهم يقول "احرقوا بيت المسيحيين باللي فيه".
لم يكن نبيل يتخيل تكون أخر أيامه أن يحرق في داره هو وعائلته، على يد مصريين من أهل بلده.
قرر أنه لن يمانع في الهروب، سيستسلم، وسيقبل بـ"الخروج الآمن" له ولأبنائه.
تعالي صوت في الخارج أدرك نبيل أنه صوت جاره، الذي صرخ في الناس "أنتم خربتم البيت خلاص عايزين إيه تاني؟ لو ولعتوا في البيت ده بيتي هيتحرق معاه، وفي ستات وعيال جوه وراجل عاجز".
يقوم الجار ومعه ثلاثة من الجيران بمخاطبة نبيل: "افتح إحنا جيرانك ما تخافشي". يحاولون إقناعه بأنه لا حل سوى ترك القرية حتى لا تسوء الأمور أكثر من ذلك. يسمح لهم نبيل بالدخول وتبدأ مناقشات اتفاقيات الخروج. ولعدم إحساس نبيل الأمان ولخوفه أن يكون هناك مخطط آخر لاستهداف أهله وهم في السيارات عبر حرقها أو إطلاق نيران عليها، هداه تفكيره إلى أن يكون الخروج في ميكروباص كبير وأن يركب مع أهله اثنين من كبار القرية، حتى يوفر من خلالهم الحماية لعائلته.
يحضر الميكروباص أمام المنزل، الوالد العاجز لم يكن يتخيل أن يأتي اليوم ويحمله شباب من القرية ينزلونه من على سلم بيته الضيق يخرجونه من داره مرتعشا باكيا لا يعلم أي ذنب فعل، وأي مصير مجهول ينتظره وينتظر أبنائه.
يحمل نبيل أطفاله ويضعهم في الميكروباص، ويتلفت فلا يجد سيارة الزبون التي كان يعمل عليها صباحاً.
تنظر الأم النظرة الأخيرة لبيتها وتبكي وهي تسمع الحشود تهتف "ارحل ارحل .. بره بره .. لا إله إلا الله .. المسيحي عدو الله". وآخر يشد كيسها بما فيه من نقود وذهب من يدها.