أيها البرلمانيون انتبهوا
«أربع فرخات ودجاجة.. ما حدش فاهم حاجة»، هكذا صاح يسرى إدريس، أحد المواطنين، على أبواب مجلس النواب، مطالبا للمرة الثانية بالدخول لحضور الجلسات، فيما منعه الأمن فى المرتين. الكل تعامل مع الأمر على أن الرجل «خف عقله» فأراد حضور الجلسات مع نواب الشعب. بينما ابتعد العقلاء من المواطنين عن مجرد المرور على الرصيف بجانب أسوار المجلس العالية مشددة الحراسة. فى مصر، لا أحد ــ مهما بلغ علمه أو همه ــ يدخل إلى البرلمان بدون تصريح أمنى مسبق.
فى عالم آخرٍ موازٍ، فى ميدان فسيح بمدينة برلين، يقع مجلس الشعب الألمانى، البوندستاج. يقبع النواب فى قاعتهم فى الدور الأرضى، بينما يشاهدهم من هب ودب من أبناء الشعب من علِ، عبر السقف الزجاجى للقاعة، كناية عن الشفافية وعلو مقام الشعب على ممثليه، وعن دور الشعب اللازم فى الرقابة على أداء ممثليه. يقف أكثر من دليل ليشرحوا الهدف من تصميم المبنى لمئات المواطنين والسياح وطلبة المدارس الذين جاءوا فى رحلات للتعرف على هذا المبنى الذى شهد حقبا مثيرة من التاريخ الألمانى. منذ توحيد ألمانيا، زار المبنى ما يزيد على 39 مليون زائر وسائح. الجلسات عمومية ويمكن لأى أحد الاستماع والفرجة عليها من داخل البرلمان.
وكأن ذلك لا يكفى، فإن أول ما تجده حين تتصفح موقع البرلمان الألمانى، هو الوعد بغداء رائع فى المطعم على سطح المبنى مع إطلالة ساحرة على كل المبانى الحكومية ــ نعم ــ أى مواطن أو سائح أجنبى ــ يستطيع أن يقضى وقتا رائعا فوق رؤوس النواب. وإذا أردت المزيد عن العلاقة بين الشعب ونوابه، فعليك أن تذهب فى يوم مشمس، لترى المدخل الرئيسى للمبنى المطل على حديقة واسعة وارفة، وقد جلس على عتباته المطلة على الشارع مباشرة (سلالم أشبه بسلالم نقابة الصحفيين) وافترش حديقته مجموعات من الشباب والأسر. هؤلاء يغنون وأولئك يأكلون ويشربون، أو يعرضون لافتات بمطالبهم.
***
المقارنة قد تجعل المهمة تبدو صعبة. مهمة الانفتاح على الشعب، كى لا يظل البرلمان المصرى ساحة مغلقة على الأعضاء الخبراء. ساحة منفصلة عن حياة المواطنين. هى صعبة ولكنها ليست مستحيلة، بل تبدأ كأى مشوار طويل بخطوات قليلة. وقد تشمل القائمة بث الجلسات العامة، وعقد جلسات استماع للمواطنين، ودعوة أكبر عدد ممكن من الأحزاب والمواطنين المهتمين والمعنيين والخبراء الدوليين والمحليين إلى جلسات الاستماع العامة (ما يستلزم تعديلا فى اللائحة الحالية) وإلى جلسات فى اللجان المتخصصة للاشتراك فى إبداء الرأى وفى صنع السياسات العامة وتحديد الأولويات للحكومة ومراقبة تنفيذ الخطط الحكومية.
وفى هذا الإطار، أقترح قائمة بأربع مهام عاجلة للبرلمان. كلها تتعلق بإدارة أموال الشعب. ليس أفضل من مد الجسور بين الشعب والنواب من تأكيد البرلمان على دوره الرقابى والتشريعى الخاص بكيفية تحديد الأولويات الاجتماعية والاقتصادية، وإلزام الحكومة بتحسين الخدمات العامة المقدمة إلى الشعب. هى مهام عاجلة لأن لها موعدها الثابت من كل عام. منها ما مضى عليه شهر.
أولا: عين على عام مضى
على النواب أن يصروا على مناقشة مفصلة للحساب الختامى عن العام المالى السابق. كانت الحكومة قد انتهت من إعداده فى شهر ديسمبر وانتهى الجهاز المركزى للمحاسبات من مراجعته وتدقيق ما جاء فيه ورفع تقريره إلى رئيس الجمهورية فى غيبة البرلمان. على النواب أن يعَلموا ويُعلِموا الشعب فى جلسات علنية كيف أنفقت الحكومة الأموال التى جمعتها كضرائب أو تلك التى اقترضتها من مدخرات المصريين خلال العام الماضى. المناقشة الجادة للحساب الختامى أساسية بغرض التعلم المشترك. إذ لم يحدث من قبل أن تعدت شكل المسرحية. فى حين أن رصد الإخفاقات ــ كبرت أو صغرت ــ مهم كى لا تتكرر. على قدر ما سيبذل الأعضاء الجهد فى إخراج مشهد جاد وراقٍ، سنجد السور الأسمنتى العالى وقد لان وشف.
ثانيا: عين على ما يحدث حاليا
فى شهر ديسمبر من كل عام، على الحكومة أن تصدر بيان مراجعة نصف العام، الذى يشمل تقرير الحكومة عن نصف عام مالى مضى، وأى متغيرات كبرى محلية أو عالمية من شأنها التأثير على ما تبقى من العام (مزيد من الانخفاض فى أسعار النفط العالمية من شأنه تخفيض قيمة المخصصات التى قررتها الحكومة لدعم الطاقة، مما يعطى براحا ماليا، وكيف تنتوى الحكومة استخدام هذا البراح)، هناك أيضا انخفاض فى أسعار القمح العالمية، كما أن هناك فى المقابل انخفاضا فى قيمة الجنيه مقابل الدولار).
لم تنشر الحكومة حتى الآن هذا التقرير، لا على الرأى العام ولا على موقعها، ولا أحسب أن النواب قد حصلوا على نسخة منه. وهى مهمة عاجلة لأنها أداة فعالة للرقابة البرلمانية على أداء الحكومة، حتى لا يفاجأ الشعب فى نهاية العام بزيادة عجز الموازنة بدون تحقيق الأهداف المعلنة.
من حق البرلمان أن يلزم الحكومة بنشره وأن يناقش ويبت فى هذا التقرير. وعليه أن يستخدم هذا الحق من أجل تخفيض السور بينه وبين الشعب.
ثالثا: نسخة معدلة من مفاتيح الأمن والاستقرار
سريعا ما سيتبين النواب أن أهم إخفاق اجتماعى للحكومة خلال أعوام ما بعد الثورة تمثل فى عدم قدرتها على رفع الإنفاق العام على الصحة والتعليم والبحث العلمى كى تلبى الدستور. وذلك على الرغم من الزيادة فى الإنفاق العام وزيادة عجز الموازنة عن المستهدف. أى أن الحكومة دبرت الموارد اللازمة، ولكنها وجهتها لأغراض أخرى، بدون استئذان الشعب. ومن هنا وجب عليهم الضغط على الحكومة كى تلتزم بالحد الأدنى لمتطلبات مجتمع عادل ومستقر. فمن غير المبرر أن يستمر الإنفاق العام على الصحة والتعليم فى مصر أقل كثيرا منه فى تونس وفى الأردن، بل ومن الأدنى على مستوى العالم، ثم نتباكى على افتقاد الاستقرار الاجتماعى.
رابعا: الإعداد للغد يبدأ اليوم
يلزم الدستور الحكومة بأن تعرض على البرلمان والرأى العام مشروع الموازنة العامة فى أبريل من كل عام، حتى تتسنى فترة ثلاثة شهور للحوار المجتمعى والنقاش حول هذا المشروع الذى يقترح من ناحية مصادر التمويل من ضرائب وقروض، ومن الناحية الأخرى أوجه الإنفاق على الخدمات العامة والاستثمارات الحكومية. لم تلتزم أى حكومة ولا مرة بهذا النص منذ إقراره لأول مرة فى 2007.
لذا على البرلمان أن يطالب الحكومة بالتزام الموعد، ويحاسبها إذا ما لم تستجب. كما يحق لأعضاء البرلمان أن يدعو للنقاش مجموعات موسعة من النقابات والخبراء المستقلين ومن منظمات المجتمع المدنى والأحزاب، كى تتسع الرؤية. وإذا أردنا الأفضل، فليخاطب البرلمان الحكومة برغبة المهتمين من الأعضاء منذ الآن بالاشتراك فى عملية الإعداد الجارية. انخراط دوائر أوسع من الشعب فى عملية الإعداد من شأنه أن يساعد فى الانتقال بنا إلى مرحلة هدم الأسوار، عبر تنامى الثقة المتبادل بين الشعب ومؤسسات الدولة.
حتى لا تظل مناقشة الموازنة العامة من قبيل «أربع فرخات ودجاجة، ما حدش فاهم حاجة».. خذوا الحكمة من فم يسرى. غيروا هذه الصورة. فالموازنة العامة هى شأن الفقراء كما هى شأن الخبراء.
كتبت المقال سلمى حسين صحفية وباحثة أولى بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية وصحفية متخصصة في الاقتصاد منذ 17 عاما. شغلت منصب رئيسة قسم الاقتصاد باﻷهرام إبدو. حاصلة على الماجستير في السياسات العامة (بالجامعة الأمريكية). شاركت في تأسيس عدة إصدارات مثل جريدة البديل المستقلة وموقع أهرام أو لاين باللغة اﻹنجليزية والذي عملت فيه كرئيسة قسم الاقتصاد ونائب مدير تحرير. صدر لها في 2014 كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة».
تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 27 يناير 2016