الحق في الغذاء من النظرية إلى التطبيق
إن المادة 79 التي تضمنها الدستور المصري الجديد تنص على أن :"لكل مواطن الحق في غذاء صحي وكافٍ، وماء نظيف، وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة. كما تكفل السيادة الغذائية بشكل مستدام، وتضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي الزراعي وأصناف النباتات المحلية للحفاظ على حقوق الأجيال."
وهي المرة الأولى التي يحظى بها الحق في الغذاء بمادة دستورية مستقلة بعدما كان هذا الحق المهم يدرج بشكل عابر وسط حقوق أخرى كثيرة، كما أن النص على السيادة الغذائية يجعل من مصر الدولة العربية الأولى التي يشتمل دستورها على هذا الحق. وتعتبر هذه المادة خطوة مهمة من حيث وضعها في إطار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تلتزم بها الدولة، وإذا أضفنا إلى ذلك المادة الدستورية التي تلزم الدولة بالاتفاقات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها مصر والقوانين التي تكفل الحق في الحصول على المعلومات، يصبح لدينا إطار دستوري يصلح لأن يكون نقطة انطلاق للعمل الجاد في سبيل تفعيل هذا الحق والعمل على تحقيق الأهداف المرجوة منه من القضاء على الجوع وسوء التغذية على أسس من العدالة والاستدامة بما يحقق الكرامة الإنسانية للمواطن واستقلال القرار للوطن.
وكانت مجموعة عمل السيادة الغذائية والمكونة من الخبراء والمواطنين المهتمين بالقضية بالتعاون مع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قد تقدموا للجنة الخمسين بمشروع لإدراج مادتي الحق في الغذاء والسيادة الغذائية في الدستور، ونظمت جلسة استماع أمام لجنة الحقوق والحريات لهذا الغرض حضرها نيابة عن المجموعة هالة بركات وريم سعد وياسمين أحمد.
والمادة 79 – على أهميتها - مثلها مثل كل المواد الدستورية لن تؤتي نتائج ملموسة دون العمل على تفعيلها من خلال سياسات وتشريعات تنظم هذا الحق وتفسر الإجراءات العملية الواجب اتباعها حتى يتحول إلى واقع ملموس. ونعرض فيما يلي بعض الخطوط العريضة للأمور التي يجب وضعها في الحسبان بهدف تسهيل تحويل النص الدستوري إلى مطالب بسياسات وتشريعات محددة، وذلك استنادًا إلى الخبرات الدولية وتجارب الدول الأخرى في هذا المجال. و لقد حدث تقدم هائل في الموضوع مع نشوء الحركة العالمية للحق في الغذاء ومنذ انعقاد مؤتمر القمة العالمي للأغذية عام 1996، مما يسمح بتحديد أفضل الممارسات الناشئة وتجديد دور الفاعلين الرئيسيين من الحكومات والبرلمانات والمحاكم والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية.
نحتاج أولًا أن ندرك أن "الحق في الغذاء" له علاقة بوسائل الإنتاج والتوزيع أكثر من مستويات الإنتاج الغذائي وحده. فإذا كان الحق في الغذاء يهدف إلى الوصول الدائم والآمن إلى نظم غذائية كافية،تنتج بطريقة مستدامة ومقبولة ثقافياًّ، فإن هذا يمكن أن يتحقق من خلال المزج بين: 1. الإنتاج الذاتي.2. أنشطة مولدة للدخل.3. الحماية الاجتماعية.
كما نحتاج أن نعي أن الحق في الغذاء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحق في الصحة وبشكل أعم "بالاستخدام الأمثل للموارد".
فالتحرر من الجوع حق أساسي لكل إنسان ويهدف هذا الحق إلى القضاء على الجوع وسوء التغذية ﻷنه: حق قائم بذاته معترف به في القانون الدولي وفي مجموعة من الدساتير المحلية، ويفرض على الدول التزامات باحترام وحماية وإعمال الحق في الغذاء الكافي.
كما يؤدي إلى احترام الحق في الحصول على الغذاء، وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحقوق صغار منتجي الغذاء الرئيسيين مثل الصيادين والمزارعين والرعاة في الوصول إلى الموارد (البحرية والأراضي والكلأ).
ذلك بالإضافه إلى الالتزام بحماية الأفراد من الانتهاكات من قبل أطراف ثالثة - الأفراد أو الجماعات أو غيرها من مؤسسات القطاع الخاص - من خلال إنشاء إطار تنظيمي ملائم. وهذا يغطي حق استرجاع السكان الأصليين الذين طردوا من أراضيهم عندما تعطي الحكومة الأرض إلى شركة لإنشاء المزارع.
و أخيرًا الالتزام بالوفاء بمعني أنه يجب على الدول الانخراط بفاعلية في الأنشطة المقصود منها تعزيز وصول الناس إلى والاستفادة من، الموارد والوسائل التي تكفل معيشتهم، بما في ذلك الأمن الغذائي. و مفهوم الإعمال التدريجي لهذا الالتزام لا يلغي الالتزام الأساسي للدولة لتضمن لكل فرد يخضع لولايتها القضائية الحصول على الحد الأدنى من الغذاء الأساسي ويكون كافياً ومغذياًّ بصورة مناسبة وآمنة وضمان حمايتهم من الجوع.
كما يجب الانتقال من المخططات القائمة على الإحسان إلى الاستحقاقات القانونية ويتطلب هذا التغيير إعادة تعريف السياسات الرامية إلى القضاء على الجوع وسوء التغذية لترتكز على الحق في الغذاء كاستحقاق قانوني، في حين كانت تقليدياًّ ينظر إليها على أنها الصدقات الطوعية من الدول. و يحتاج هذا التوجه إلى خطط توفير المنافع، وضمان الحصول على الغذاء و تعزيز التنمية الزراعية والريفية والحماية الاجتماعية الوطنية، بحيث تؤدي هذه الإجراءات إلى تحويل العلاقة بين السلطات المسؤولة عن تقديم المنافع والمستفيدين إلى علاقة بين جهات مسؤولة وأصحاب حقوق بالإضافة إلى إعلام المستفيدين بحقوقهم وآليات المطالبات والأحكام التي تكفل الشفافية والمساءلة في تنفيذ البرامج.
كما يجب إشراك المواطنين كمراقبين، مما يعني تدخل المواطنين بشكل مباشر في إعمال الحق في الغذاء عن طريق جمعيات حماية المستهلك ومكافحة الغلاء وتضمن هذه الفكرة عمليات التدقيق الاجتماعي والمساءلة، وقد ثبت أنها مفيدة بشكل خاص للفقراء والأميين، لأنهم الأقرب للأحداث وكذلك لأنها تعتمد على التعامل كمجتمع وليس كأفراد، فيتم تنظيم جلسات استماع علنية منتظمة على مختلف المستويات في الأماكن العامة، و إلزام المسؤولين بتوفير المبررات وحماية المطالبين من ترهيبهم. وقد أثبتت "لجان اليقظة الموازية" التي أنشئت في سنة 1992 من قبل النساء، من الأحياء ذات الدخل المنخفض في مومباي لمراقبة المحلات التجارية، نجاحًا كبيرًا في مهمتها لفرض السعر العادل.
والجدير بالذكر هنا أن القوانين التي تكفل الحق في المعلومات تسهم أيضًا في تحسين المساءلة.
كما توصي اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدول الأطراف في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالعمل من أجل اعتماد إستراتيجية وطنية لضمان الغذاء والتغذية الآمنة للجميع، استنادًا إلى مبادئ حقوق الإنسان، وصياغة سياسات وما يقابلها من مقاييس لتحقيقها.
و لهذه الإستراتيجيات ثلاث وظائف رئيسية هي:
أولًا: تحديد التدابير الواجب اعتمادها، وتقسيم المسؤوليات بين الإدارات المختلفة، وفرض الأطر الزمنية.
ثانياً: تحديد نهج حكومي متكامل يتم على أساسه التنسيق بين مختلف السياسات في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والعمل والحماية الاجتماعية، والزراعة والتنمية الريفية.
ثالثاً: وضع إستراتيجيات متعددة السنوات تجعل من الممكن الجمع بين النهج قصيرة الأجل، التي تعطي الأولوية للحصول على الغذاء وأخرى طويلة الأجل تهدف إلى إزالة الأسباب الهيكلية للجوع وهذا مهم بشكل خاص بالنسبة إلى البلدان ذات الدخل المنخفض، فقد أدت سنوات من نقص الاستثمارات في الزراعة إلى زيادة اعتماد هذه البلدان على الواردات الغذائية والمعونات الغذائية، مما خلق حلقة مفرغة تؤدي إلى تقليل الإنتاج المحلي، وهذا بدوره يزيد من التبعية، وضعف القدرة التنافسية في سياق الاقتصاد العالمي وتقلب الأسعار في الأسواق الدولية.
كما يجب إقرار قوانين أطر تفرض على الحكومات أهدافًا تتعلق بإعمال الحق في الغذاء، وتحدد المسؤوليات لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمختلف فروع الحكومة وتنسيق عملها، ولكن هذه القوانين إجرائية، فهي تهدف إلى إنشاء المؤسسات وتحديد العملية، دون تحكم مسبق في النتيجة، كما تترك تصميم الإستراتيجيات المتعلقة بالحق في الغذاء إلى الجهات المعنية.
والجدير بالذكر أن توفير مثل هذه الأطر أمر ضروري لجذب المستثمرين والسماح للقطاع الخاص للتكيف مع ما يستتبع هذه الإستراتيجيات. ومهم أيضًا للبرامج الحكومية لسد الفجوة بين التوجهات قصيرة الأجل والأهداف الأطول أجلًا.
لذا يجب أن يوجد الحق الوطني في قوانين الأطر الغذائية جنباً إلى جنب مع الإستراتيجيات الوطنية القائمة على الحقوق والتي تسعى إلى تنسيق الجهود في قطاعات متعددة، وتحسين المساءلة، وتمكين مشاركة المجتمع المدني والمتضررين من الجوع وسوء التغذية في صنع القرار ورصد النتائج، وفي الوقت نفسه يتم إعادة تعريف نظم الحماية الاجتماعية من الناحية الحقوقية، والابتعاد عن مفهوم المنافع الاجتماعية كهبات خيرية. كما تلعب المحاكم وغيرها من أشكال آليات التظلم، مثل عمليات التدقيق الاجتماعي، دورًا أساسياًّ في إحداث هذا التغيير.
وإذا ما نظرنا إلى تجارب الدول الأخرى, نجد أن هناك تقدمًا ملحوظًا تحقق على مدى العقد الماضي في أمريكا اللاتينية و بعض دول إفريقيا و شرق آسيا نتيجة لتضافر جهود المجتمع المدني والحركات الاجتماعية والبرلمانيين والمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، لوضع قانون للأمن الغذائي والتغذية أو إنشاء مجلس الأمن الغذائي الوطني والتغذية، أو إنشاء وكالة وطنية للأمن الغذائي.