"الحرف يقتل أحياناً!"
المادة الثالثة من الدستور ومعضلة زواج المسيحيين
تٌسوّق القيادات الدينية المسيحية والإسلامية للتعديلات الدستورية المستفتى عليها في يناير 2014 باعتبارها داعماً قوياً لحقوق وحريات الأقليات الدينية، وأنه نص صراحةً ودون مواربة في مادته الثالثة على أن يطبق المسيحيون شرائعهم الدينية في أحوالهم الشخصية واختيار قياداتهم الدينية، وهى مادة وضعتها اللجنة التأسيسية لدستور 2012 فيما اعتبره الكثير من المراقبين رشوة مستترة للكنيسة والأقباط في مقابل تمرير جملة المواد المقيدة للحريات بصفة عامة والدينية على وجه الخصوص، وذلك قبل أن تنسحب الكنيسة من اللجنة تحت ضغط النخبة المسيحية العلمانية التي تزايد دورها خلال المرحلة الانتقالية للكنيسة ما بين وفاة البابا شنودة الثالث وانتخاب البابا تواضرس الثاني.
ومنذ إقرار دستور 2012 جرت في النهر مياه كثيرة، وكان الحضور القبطي بارزاً في المظاهرات الاحتجاجية في 30 يونيو الماضي وما تلاها، والتي انتهت بعزل محمد مرسي والإعلان عن لجنة جديدة لتعديل الدستور، وكان من أخطاء تشكيلها أن اختصرت تمثيل الأقباط في ممثلي الكنائس المصرية باستثناء اختيار الدكتور مجدي يعقوب ضمن الشخصيات العامة.
وبينما خضعت معظم مواد الدستور للتعديل والتغيير ظلت هذه المادة كما هي. تنص المادة على أن " مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية." وبالرغم من قصر المادة وقلة عدد كلماتها مقارنة بمعظم مواد الدستور لكنها سترسم حدوداً لطبيعة علاقة المواطنين المسيحيين بالدولة فيما يتعلق بحقوقهم الدينية، وكذا لعلاقتهم بالكنيسة، وعلاقة الكنيسة بالدولة.
ففي خضم الجدل الدائر داخل لجنة تعديل الدستور- 2013- حول الصياغة النهائية، ما بين وضع عبارة " غير المسلمين " أو " المسيحيين واليهود"، وحسم القرار تجاه الثانية بعد رفض الأزهر بحجة منع الاعتراف بغير الديانات الثلاثة الإبراهيمية، تناسى أعضاء اللجنة مشكلة الطلاق وزواج المطلقين المسيحيين، وهى مشكلة قديمة لكنها تفجرت إعلاميا وسياسيا مع صدور أحكام من مجلس الدولة في 2006 والأعوام التالية بإلزام الكنيسة بعقد زواج لمطلقين، مستندة إلى قاعدة أن الكنيسة مؤسسة من مؤسسات الدولة شأنها شأن الأزهر والوزارة وغيرها وبالتالي تخضع قرارتها للطعن القانوني أمام مجلس الدولة. وقد رفضت الكنيسة هذه الأحكام في حينها وشنت هجوماً عنيفاً عليها وصل إلى حد إعلان البابا شنودة الثالث عبارته الشهيرة والتي كررها في مناسبات عدة " لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تلزم الكنيسة بأي شيء ضد تعاليم الإنجيل أو ضد ضمير الكنيسة."
إلا أن واقع الحال أن هناك آلاف من ملفات المصريين المسيحيين داخل أدراج المجلس الإكليريكي للكنيسة الأرثوذكسية منذ سنوات، أصحابها أما ينتظرون بطلان زواجهم أو تنفيذ الكنيسة لأحكام قضائية بالزواج الثاني. وواقع الحال أيضا أن لائحة المجلس لا تتضمن إجراءات محددة ذات فترات زمنية واضحة وعادلة منظمة لعمل المجلس، فالأمر متروك للمجلس المسئول عنه الأنبا بولا الذي هو نفسه كان عضوا في الجمعية التأسيسية لوضع دستور 2012 ولجنة التعديلات الدستورية عام 2013. فهناك حالات تعامل المجلس معها بسرعة فائقة واستغرقت أقل من العام، بينما هناك حالات أخرى يقف أصحابها منذ سنوات على أبواب المجلس بمقر الكاتدرائية المرقسية أملا أن يأتي اليوم الذي يفوزون فيهم بقرار يمنحهم حقهم. هذه الحالة بطبيعة الحال تفتح الباب على مصراعيه للقيل والقال، وللفساد الإداري، والتمييز بين المضاربين، وهو سلوكيات تتعارض مع قيم وتعاليم المسيحية التي يفترض أن يكون قادة الكنيسة هم الأكثر حرصاً عليها.
عندما كانت توصد الأبواب أمام المواطنين ويفقدون الأمل في الحل الكنسي كانون يستجيرون بالحل القضائي، فمحاكم القضاء الإداري كانت تحكم بلائحة 38 التي وضعها المجلس الملي العام وتضمنت بنوداً تسعة للطلاق، كانت تيسر على الأفراد الذين يريدون إنهاء رابطة الزواج. واستمر العمل باللائحة حتى وقت قريب حين اجتمع المجلس الملي في عام 2008 وقرر تغيير اللائحة وقصر الطلاق على علة الزنا فقط وأرسلها للقضاء الإداري، فلجأ أصحاب القضايا إلى حيلة ثانية بأن يغير أحد الطرفين ( الزوج أو الزوجة) الملة الدينية، وفي هذا الحالة يطبق القضاة أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم يقع الطلاق. إلا أن هذه الطريقة أصبحت صعبة جدا الآن بعدما اتفق رؤساء الطوائف على التضييق على التنقل بينها. وعندما رفع بعد المواطنين دعاوى يطالبون بانسلاخهم عن الكنيسة الأرثوذكسية وعدم انضمامهم إلى طائفة جديدة دفعت الكنيسة بأن " نص المادة 3 من الدستور يخرج الأحوال الشخصية عن دائرة القرار الإداري وتجعل المخاطبون بأحكامها لا يحدون عنها."[1]
كانت الحكومات والمجالس التشريعية طوال فترة حكم مبارك تقف بشكل مباشر وغير مباشر حائلاً أمام تغيير لائحة تنظيم الزواج والطلاق للمسيحيين، وتساعد على بقاء هذا الوضع غير المنصف لمواطنيها على حاله، فلا هي أقرت الزواج المدني ولا هى وضعت قانوناً عادلاً ومنصفاً ينظم الأحوال الشخصية للمسيحيين. وفي هذا الصدد أرسلت الكنائس مجتمعة عدة مشروعات بقوانين إلى وزارة العدل لتأخذ طريقها إلى المجلس التشريعي، لكن الوزارة وضعتها داخل أدراج المكاتب، وأغلقت عليها "بالضبة والمفتاح". وأتذكر أنني عقب صدور حكم من المحكمة الإدارية العليا يطالب الكنيسة بتزويج مطلق في عام 2008 سألت المستشار سري صيام رئيس إدارة التشريع بوزارة العدل وقتها ورئيس المجلس الأعلى للقضاء فيما بعد عن مصير آخر مشروع قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين المقدم من جميع الطوائف قبل عشر سنوات قال إنه مازال في طور الدراسة، فقلت له: هل عشر سنوات غير كافية؟، فأجاب بأن القانون ليس على الأجندة التشريعية للوزارة، حيث كانت حكومات مبارك تخشي من فتح النقاش حول القضايا الخلافية في الأحوال الشخصية ما بين الإسلام والمسيحية كالزواج المدني، التبني، المواريث.
ومع تزايد العنف الطائفي والغبن القبطي إزاء تساهل الدولة مع الاعتداءات على مواطنيها، وصدور أحكام جديدة تلزم الكنيسة بإعطاء تصاريح زواج لمطلقين، قررت وزارة العدل في منتصف العام 2010 تشكيل لجنة مشتركة من ممثلي الوزارة والكنائس وقضاة لوضع مشروع القانون، ورغبة من الكنائس في إنهاء الأمر تنازلت عن تضمين المواريث حيث المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث والتبني الذي تجيزه المسيحية في مشروع القانون المقدم وقتها. وعمدا غُيب أصحاب المصلحة عن المشاركة والحضور، فقيادات الكنيسة الأرثوذكسية يعتبرونهم مصدر إزعاج، ولا يجب الالتفات إليهم لأنهم "مارقون يريدون مخالفة تعاليم الإنجيل" وفقاً لوصف الكثير من قيادات الكنيسة، أما قيادات الدولة كانت تريد مجاملة الكنائس وأن تتهرب من تحمل مسئوليتها في الحفاظ على حقوق مواطنيها.
في خضم هذه الأحداث، خرجت أصوات المعذبين تشكو تعنت الكنيسة وتستنجد بالدولة، ونظموا أنفسهم في بعض الروابط بمساعدة منظمات حقوقية من أهمها مؤسسة قضايا المرأة، وقدموا مقترحات يمكن البناء عليها، ونظموا وقفات احتجاجية أمام وزارة العدل وداخل الكاتدرائية المرقسية نفسها، ونظمت اللجنة التأسيسية لوضع الدستور 2012 لهم جلسة استماع ولكنهم فشلوا في التأثير على قرار تأسيسية الدستور، وبالرغم من انسحاب ممثلي الكنائس دسترت اللجنة احتكار المؤسسة الدينية لوضع قواعد إجراء الزواج والطلاق.
وخطورة النص الدستوري الحالي أنه جعل من الأقباط رهائن للكنيسة ورؤية قياداتها سواء كانت محافظة أو تنويرية. فبمقتضى هذا النص تحول الزواج وتكوين الأسرة من حق لكل مواطن ومواطنة – طبقا لنص المادة 10 من نفس الدستور- تحميه الدولة وتسعى لتذليل العقبات التي تحول دون إتمامه إلى حق مقيد بإرادة الكنيسة، ورؤيتها للتشريعات والنصوص التي تنظم شئون المسيحيين في الأحوال الشخصية، فاذا كانت تتمسك الكنيسة باستقلاليتها وعدم الضغط عليها لتزويج من لا يحق له من وجه نظرها فالدولة عليها أن تجد مخرجا لمواطنيها لممارسة حقوقهم بعيداً عن أي سلطة إذا أرادوا، ومن هنا كانت أهمية إبقاء الباب موارباً للزواج المدني.
أما الآن، وقد قُننت مسئولية المسيحيين عن وضع تشريعاتهم، وعندما نقول المسيحيين نقصد رجال الدين والكنيسة، وقد أصبح وضع تشريع مدني للأحوال الشخصية حلما بعيداً عن التحقيق في ظل المناخ المحافظ السائد في المجتمع، والدور المتنامي للمؤسسات الدينية التي تسعى بطبيعتها للسيطرة على اختيارات المواطنين الدينية، فمازال هناك أملاً في إحداث تغييرات بسيطة لكن مع تراكمها يمكن أن تحل مشكلة آلاف المصريين، فمن واجبنا الضغط على الكنيسة لأن يتضمن القانون القادم للأحوال الشخصية للمسيحيين نصوصاً واضحة تجيز الزواج المدني للمسيحيين، وألا تتعامل الكنيسة مع القائمين به على أنهم خطاه منبوذين، وهذا كفيل بحل جزء من المشكلة وليس كلها. علينا كمجتمع مدني حقوقي أن نضغط أيضا من اجل وضع لائحة عمل للمجلس الإكليريكي عادلة تتعامل مع روح النصوص الدينية لا مع الحرف، فالحرف يقتل.