أين الشرطة من القانون والمحاسبة؟

5 يناير 2014

تزامنا مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر الماضي، أصدرت 13 منظمة مصرية ودولية معنية بحقوق الإنسان بيانا[1] دعت فيه الحكومة المصرية لتحمل المسؤولية عن العديد من حالات قتل المدنيين العزل في المظاهرات منذ يوليو الماضي على أيدي قوات الأمن، والتي سقط فيها المئات بدون محاسبة وبدون حتى فتح تحقيقات جادة لتحديد المسئولية أو حتى أي اعتراف بوقوع خطأ. لم تعترف الحكومة بقيام الشرطة بالاستخدام المفرط وغير المبرر للقوة المميتة في حالات مثل الحرس الجمهوري بتاريخ 8 يوليو (والتي سقط بها 60 على الأقل من ضمنهم فردين من قوات الأمن)، والمنصة بتاريخ 27 يوليو (والتي سقط بها 95 من المتظاهرين بالإضافة لفرد من قوات الأمن)، وفض اعتصامي رابعة والنهضة والتي سقط بها المئات (ولا يوجد حصر رسمي نهائي بعدد الذين سقطوا في فض اعتصامي رابعة والنهضة. وقد صرح الطب الشرعي بتاريخ 14 نوفمبر بأن حصيلة الجثامين المنقولة إلى المشرحة الرسمية أو المستشفيات يوم 14 أغسطس بلغت 726، كما يُقدر عدد رجال الشرطة الذين سقطوا خلال فض اعتصام رابعة ب 8 أفراد في رابعة و2 في النهضة بالإضافة إلى العشرات في محافظات متفرقة في نفس اليوم)، وواقعة مسجد الفتح بتاريخ 16 أغسطس (سقط بها 120 شخصا على الأقل)، وأخيرا الاستخدام المفرط للقوة المميتة في مظاهرات 6 أكتوبر والذي نتج عنه سقوط 57 قتيلا على الأقل.

ولم يقم النائب العام بالتحقيق في أي من هذه الحالات بالرغم من الكم المهول من الضحايا والذي يستوجب أن تتحمل الحكومة مسئولية سقوطهم. وبخلاف المسئولية الجنائية فلم تقدم الحكومة حتى اليوم كشف بتفاصيل الوقائع يبرر هذا الاستخدام المفرط للقوة ويشرح ملابسات استخدام القوة القاتلة بهذه الصورة، علما بأن التحقيق في حالات الوفيات والإصابات البالغة التي تنتج عن العمل الشرطي هو من أساسيات الرقابة على أجهزة الشرطة في الدول التي تحترم القانون, بغض النظر ما إذا كانت هذه الوفيات أو الاصابات البالغة مبررة أو غير ذلك.

في نفس الوقت فقد قامت الشرطة بالقبض على الآلاف من الأفراد منذ أغسطس 2013، وقامت النيابة بالتحقيق مع المئات الذين تم توجيه اتهامات لهم بالتجمهر والتعدي على قوات الأمن في بعض الأحيان، والتحريض على العنف والشغب والاعتداء على مقار شرطية والانضمام إلى جماعات ارهابية في أحيان أخري، ومن ضمنهم العشرات من الطلاب الذين اعتقلوا من داخل الحرم الجامعي بين أكتوبر وديسمبر 2013، بل وقد نتج عن استخدام قوات الأمن للقوة داخل الجامعات سقوط طالب بجامعة القاهرة يوم 28 نوفمبر[2]، بالإضافة إلى ثلاث طلاب داخل جامعة الأزهر بين شهري نوفمبر وديسمبر[3].

وتدفعنا هذه الوقائع للتساؤل عن السبب وراء هذا التفاوت الزمني بين سرعة انفاذ القوانين والقبض على المتهمين وتقديمهم للمحاكمة والحكم عليهم في هذه الحالات—ولا يوجد مثال أبلغ عن ذلك من الحكم على 12 طالبا بالسجن 17 عاما في غضون 12 يوما من تاريخ القبض عليهم[4]--وبين البطء الشديد في البدء في التحقيقات أو حتى تقصي الحقائق في الحالات التي يتهم فيها أو يشتبه بتورط رجال الأمن فيها.

 

فإذا كانت الدولة معنية بالأساس كما تدعي الحكومة بتطبيق القانون, فمن حقنا أن تتساءل: هل يخضع الموظفين العموميين ورجال الأمن تحديدا للقانون؟ هل طالت يد العدالة أيا من رجال الشرطة الذين توافرت معلومات تفيد بتورطهم في جرائم أو في ارتكاب أخطاء أدت إلى وفيات أو  إصابات جسيمة وغير مبررة أثناء تأدية عملهم؟

في أوائل شهر نوفمبر دوى في الإعلام صدى واقعة تعذيب مراسل إم بي سي أسلم فتحي في قسم شرطة المنيا بعد أن تم تسريب مقطع مصور إلى وسائل الإعلام -نشرته أحد المواقع الخبرية بتاريخ 3 نوفمبر 2013[5]- يظهر تعرض شخص لضرب مبرح وتعذيب داخل أحد الأماكن المغلقة. لم تكن هذه هي الواقعة الأولى منذ الثورة أو في الأشهر الأخيرة التي يحدث فيها تعذيب جماعي لمواطن داخل أحد أماكن الاحتجاز. ولكن هذه الواقعة حازت على اهتمام أكبر من الإعلام بسبب انتشار الفيديو  الذي اتضح فيما بعد أنه لضحية تعذيب أخرى حدثت في نفس الوقت تقريبا: واقعة تعذيب محمد فاروق عبد المطلب في قسم شرطة أبو قرقاص[6]).كما ان الإعلامي أسلم فتحي تحدث إلى أكثر من وسيلة إعلامية عن واقعة تعذيبه والتي بدأت بمحاولته لأداء عمله كصفحي وقيامه بتغطية  حادثة انهيار عقار في مدينة المنيا، إلا أن الضابط المسئول رفض دخوله إلى داخل الكردون  وعندما أعترض على أسلوب الضابط في التعامل معه قام الضابط بسحله إلى بوكس الشرطة وبمساعدة الجنود الذين أشبعوه ضربا.

روي أسلم في تحقيق نشر في جريدة الشروق تفاصيل تعذيبه قائلا: "«حوالي 15 عسكري كتفوني من إيدي ورجلي، وكلهم ضربوني، وجرّوني إلى قسم بندر المنيا القريب من المكان، وطول الطريق بيضربوني أقلام على وشي، وبالعصي والأحزمة على جسمي».[7] وأضاف أنه تم تقييده وتعليقه داخل احدى غرف القسم، ثم توالى ضباط القسم وجنوده على ضربه بالعصى والاحزمة لمدة يوم كامل. ثم تم عرضه على النيابة في اليوم التالي وتلفيق محضر تعدي على السلطات له، واضطر أسلم تحت ضغط الشرطة أن يعتذر لضابط الشرطة ويتنازل عن طلب توقيع الكشف الطبي على جسده خوفا من تجديد حجزه ومن بطش رجال الشرطة به.

وبعد أن خرجت الواقعة إلى الضوء، تعاملت وزارة الداخلية مع تفاصيل الواقعة باستهانة شديدة، وادعت كعادتها أن الضحية هو من تعدى على ضابط الشرطة "ومزق الأفارول الخاص به". وفي تعليق على ادعاء الضحية أسلم فتحي بأنه تنازل عن اثبات الإصابات الموجودة في جسده ليسلم من بطش رجال قسم شرطة المنيا وقبل بتحرير محضر صلح خوفا من انتقامهم، قال مدير أمن المنيا أسامة متولي لجريدة الشروق ""يعني إيه خايف؟ خلاص يبقى يثبت هوا بقى هذا الكلام.. وبعدين فيه إعلامي يقول أنا خايف، خايف من إيه؟". ولم يتم التحقيق مع أي من ضباط أو أمناء قسم شرطة المنيا، ويبقى الإجراء القانوني الوحيد الذي اتخذ هو تحرير محضر صلح بين الضابط المعتدي والمعتدي عليه بعد استجابة الأخير للضغوط التي مورست عليه.

ويتضح من الحالتين المتزامنتين أن الشرطة تدرك أنها نعمل في جو من التحصين الكامل وغياب أي شكل من أشكال الرقابة فحتى في الحالات التي تظهر تفاصيلها ويتم تداولها إعلاميا وأحيانا يتم تداول مقاطع مصورة تثبت ما جاء بها لا يتطلب الأمر أكثر من نفي إعلامي لأحد قيادات الشرطة المحلية وتلفيق اتهامات بالتعدي على الضباط للضحايا والمدعين لينتهي الأمر. ولا يوجد سابقة قامت فيها النيابة بالتعامل مع الضباط في مثل هذه الحالات على أنهم موضع شك على الأقل والتحقيق معهم أو استدعائهم للسؤال.

وفي نفس الوقت تقريبا -بتاريخ 2 نوفمبر 2013- لقى المواطن " حمدي محمد محمود الكلاوي" البالغ من العمر 61 عاما، والذي يملك ورشة للخراطة بمدينة ميت غمر، مصرعه داخل مركز شرطة زفتي والذي كان محتجزا فيه بعد أن تم القبض عليه عشوائيا  يوم 31 أكتوبر[8]. ولم يعرف أهله بالواقعة حتى قام أحد ضباط مباحث قسم ميت غمر بطلب حضور أخيه إلى مقر احتجازه لاستلام جثته. وقد أكد أهل المجني عليه وجود كدمات وأثار ضربات وخدوش بجسد المجني عليه، والذي لا يعلم أحد حتى الآن ملابسات موته. وقد تم فتح تحقيق في الواقعة بدون أي نتائج حتى الآن، في حين أن بعض من قضايا المتظاهرين المشار إليها أعلاه تم القبض والتحقيق والحكم فيها في أقل من أسبوعين.

وفي نموذج أكثر فداحة على اساءة استخدام السلطة وعلى استسهال اللجوء للرصاص -وهو النمط الذي رصدته المنظمات الحقوقية[9] في العمل الشرطي والمتصاعد منذ اندلاع الثورة- سقط شاب في السابعة عشر من عمره قتيلا على يد ضابط شرطة خارج أوقات العمل على إثر مشادة كلامية في أحد الطرق العامة في أول أيام شهر ديسمبر. كان هذا في منطقة الأميرية بعد أن تطورت مشادة كلامية بين ضابط برتبة ملازم أول وبين ركاب سيارة من ضمن عدة سيارات اصطدمت بسيارة ضابط الشرطة من الخلف، وعلى إثرها أخرج الضابط مسدسه الميري عيار 9مم وقام بتهديد الموجودين بإطلاق الرصاص، في حين كان الأهالي يحاولون تهدئته. وانتهى الأمر إلى أنه قام بإطلاق الرصاص على الشاب عبد الرحمن طارق عامر (17 عاما) فأرداه قتيلا في الحال، بالرغم من عدم صدور أي تهديد من الشاب أو من ركاب السيارات المتجمهرين.

وقد وصف عم القتيل وعدد من شهود العيان الواقعة لباحثي المبادرة المصرية، وأكدوا عدم صدور أي تهديد من قبل المجني عليه وأن الضابط أطلق الرصاص الذي أصابه في مقتل بدون مبرر، وهو ما تسبب في تجمهر أهالي المنطقة الذين قاموا بضرب الضابط إلى أن أفقدوه الوعي حتى أنقذه أقارب القتيل الذين أصروا على مقاضاته والقصاص لابنهم باستخدام المسالك القانونية، وقاموا بالاتصال بقسم الشرطة الأميرية ليتسلموه. وقد باشرت نيابة حوادث غرب القاهرة التحقيق في القضية بتاريخ الثاني من ديسمبر 2013 وأمرت بالتحفظ على المتهم والذي كان يتلقى العلاج في قسم شرطة مدينة نصر، واستمعت إلى أقواله وإلى شهود العيان. ولم تصدر النيابة حتى الآن قرار بشأن الضابط الذي يتهمه الأهالي وعشرات الشهود بالقتل العمدي.

أما الواقعة الوحيدة في الشهور الأخيرة التي قامت النيابة العامة فيها بتوجيه اتهامات لرجال شرطة فهي قضية سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل بتاريخ 18 أغسطس 2013، التي قتل فيها 37 شخصا داخل سيارة ترحيلات ظلوا محبوسين بداخلها لمدة 6 ساعات على الأقل ثم قامت قوات الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع داخل السيارة المكتظة، وامتنع رجال الشرطة عن مساعدة المحتجزين بداخل السيارة أو فتح باب السيارة لهم مما تسبب في مقتل 37 شخصا. وبالرغم من أن النيابة العامة قد أحالت أربع ضباط تابعين لقسم شرطة مصر الجديدة للمحاكمة، إلا أنها قامت بإحالتهم لمحكمة جنح الخانكة بتهمة القتل والإصابة الخطأ، كما أن النيابة لم تقدم الشخص الذي قام بإطلاق قنبلة الغاز داخل سيارة الترحيلات للمحاكمة وقيدته في  تحقيقاتها على أنه "مجهول". وقد دفع المدعون بالحق المدني بعدم اختصاص المحكمة نوعيا بنظر الدعوى حيث أن الوقائع تشير إلى أن التهمة ينبغي أن تكون جنايةَ قتلِ عمدٍ، وليست قتلًا وإصابة خطأ، كما كيفتها النيابة العامة. كما طلب محامو المدعين بالحق المدن برد المحكمة التي تنظر القضية وذلك لمخالفتها قانون الإجراءات الجنائية بشكل يصب في صالح الضباط المتهمين، ما يثير شكوكًا حول عدم حيادية هيئة المحكمة[10].

 

وما يمكن أن يستدل عليه من هذه الحوادث، والتي تعد عينة بسيطة من العديد من حالات العنف الشرطي والتعذيب في أماكن الاحتجاز، بخلاف وقائع القتل باستخدام القوة المفرطة في تفريق المظاهرات, هو أن الخلل الهيكلي بجهاز الشرطة والعنف المحصن بغياب الإرادة في النيابة العامة والمؤسسات القضائية لمحاسبة المخطئين من جهاز الشرطة سوف يستمر في انتاج عنف عشوائي يطال الجميع، ولن يفرق بين مؤيد ومعارض للنظام. ولا يمكن أن تتحسن علاقة الشرطة بالمجتمع تحسن حقيقي مستدام—غير مرتبط بلحظة سياسية أو بالأزمات الوقتية—إلا بإصلاح حقيقي ورقابة  مستقلة على عمل الشرطة، يصاحبه إصلاح في مؤسسات القضاء. فهذه التجاوزات الأمنية المستمرة تكلفتها باهظة الثمن.

(هذه الورقة أُعدت كجزء من ورقة مشتركة تم مناقشتها خلال أعمال مؤتمر "أذرع الظلم" الذي انعقد في نقابة الصحفيين يوم 4 يناير 2014)

نص التقرير المشترك الصادر عن المؤتمر هنا



[1] بيان مشترك, 10 ديسمبر 2013, " إقرار بما حدث ولا عدالة بعد 4 شهور ينبغي التحقيق في عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين وملاحقة الجناة يجب إنشاء لجنة تقصي حقائق كخطوة أولى". http://eipr.org/pressrelease/2013/12/10/1896

[2]بيان مشترك, 1 ديسمبر 2013, "12 مؤسسة حقوقية ترسل خطابًا لرئيس جامعة القاهرة تدين فيه مقتل «محمد رضا» على يد قوات الأمن" http://afteegypt.org/academic_freedom/2013/12/01/5922-afteegypt.html

[3] مؤسسة حرية الفكر والتعبير, 29 ديسمبر, 2013 ": اشتباكات جامعة الأزهر تسفر عن مقتل طالبين وتتسبب في وقف الامتحانات". http://afteegypt.org/academic_freedom/2013/12/29/6196-afteegypt.html

[4] بيان مشترك, 18 نوفمبر 2013, http://afteegypt.org/academic_freedom/2013/11/18/5708-afteegypt.html

[5] http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=gPE8BaK4Yl0

[6] http://www.hoqook.com/node/99713#.UsBnt_QW3Xw

[7] الشروق, "مراسل إم بي سي ضحية التعذيب لـ«الضابط»: «أبوس رجلك اتعلمت الدرس».. ولست صاحب فيديو رصد", تحقيق لمحمد أبو الغيط, 5 نوفمبر 2013. http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=05112013&id=bf2f724d-cc35-43ca-a271-755336ae6060

[8] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية, 25 نوفمبر 2013: "فتح تحقيق في ملابسات مقتل محتجز داخل مركز شرطة زفتى - دلائل تشير إلى تعرضه للتعذيب قبل وفاته داخل المركز". http://eipr.org/pressrelease/2013/11/25/1886

[9] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية, يناير 2013: "القتل مستمر" http://www.eipr.org/report/2013/01/22/1603

[10] بيان مشترك, 18 ديسمبر 2013, "المدَّعون بالحق المدني يطلبون ردَّ المحكمة في قضية "سيارة ترحيلات أبو زعبل": المحكمة خالفت قانون الإجراءات الجنائية لصالح الضباط المتهمين". http://eipr.org/pressrelease/2013/12/18/1904