التكلفة البشرية للسدود في شمال السودان- دعوى أمام اللجنة الإفريقية تطالب بحق الأهالى المتضررين من سدي مروي وكجبار بالسودان
مشاريع التنمية العملاقة والمشاريع القومية التي يتم تسويقها باعتبارها تحقق أحلام كافة المواطنين كثيرا ما تدهس حقوق فئات مهمشة تقوم بدفع جزء كبير من تكلفة تلك المشاريع وسط صمت تام من الرأي العام بل وأحيانا استغراب من عدم رغبة تلك الفئات في التضحية في سبيل الهدف الأسمى (مشروع التنمية). وفي الكثير من الأحيان، فإن مرور الزمن يصبح كافيا لينسى الجميع تلك التكلفة والتضحيات، فمن تربى على صوت عبد الحليم حافظ يشدو بأن "الحكاية مش حكاية سد" وإنما هي "حكاية شعب" لم يسمع في غالب الأمر عن التهجير والمآسي التي تعرض لها أكثر من مائة ألف من أهالي النوبة نتيجة لبناء السد العالي والتي لا تزال آثارها المريرة باقية في الوجدان النوبي. وفي السودان، فإن سد مروي -الذي وصفته الحكومة بأنه أضخم إنجاز اقتصادي في السودان- كانت تكلفته البشرية التهجير القسري لعشرات الآلاف من سكان المناطق المحيطة واستخدام القوة المفرطة المؤدية أحيانا إلى القتل في مواجهة من تسول له نفسه الاعتراض على إنشاء السد. وقد تكررت عدة مآسٍ شبيهة في الأعوام الماضية في السودان، فبخلاف سد مروي في ولاية النيل تم البدء في بناء سد كجبار بالولاية الشمالية بالإضافة إلى العديد من السدود الأخرى مثل سدود دال وشريك وستيت وتعلية سد الرصيرص. وفي كل تلك المشاريع، فإن الحكومة السودانية لا تشرك الأهالي المتأثرين بشكل مباشر في التخطيط لتلك المشاريع ولا تشاورهم بشكل منهجي ولا تأخذ أولوياتهم واختياراتهم بعين الاعتبار.
وقصة سدي مروي وكجبار من أوضح الأمثلة على تلك السياسات التي تؤدي إلى التهميش، فسد مروي الذي بدأ العمل فيه عام 2003 وانتهى بشكل كامل في 2009 أدى إلى تهجير قرابة خمسين ألف (وتصل بعض التقديرات إلى سبعة وخمسين ألف) من الأهالي الذين كانوا يسكنون في المناطق المتاخمة أو المتأثرة بالسد. وعلى عكس التصور الذي لا يرى سوى عدم رغبة المتأثرين المباشرين في التضحية من أجل هدف أسمى، فإن التسلسل الحقيقي للأحداث يوضح أن الأهالي كانوا قد وافقوا في أول الأمر على إعادة توطينهم ولكنهم فقط طالبوا أن تكون مساكنهم الجديدة حول البحيرة التي سيخلقها السد، فيما عرف بـ"الخيار المحلي". وعلى الرغم من وعود الحكومة، إلا أن وحدة تنفيذ السدود –الهيئة الرسمية المسئولة عن مشاريع السدود والتي أعطى لها الرئيس السوداني صلاحيات واسعة- قررت إعادة توطين الأهالي في مناطق بعيدة وذات تربة صحراوية لا تتفق مع النمط الاقتصادي لسكان المنطقة القائم على الزراعة. وقد تكررت تلك القصة في 2005 في المراحل الأولية لسد كجبار الذي شهد أيضا عدم اهتمام حكومي بالتواصل مع الممثلين المنتخبين من الأهالي، بالرغم من أنه من المتوقع أن يؤدي السد إلى إغراق قرابة تسعين قرية وأن يؤدي إلى تهجير حوالي عشرة آلاف من أهالي المنطقة. وبدلا من إشراك الأهالي في إيجاد حلول تحافظ على المشروع بغير إغفال لحقهم، فإن الحكومة قد بدأت حملة ادعت من خلالها أنها قد حصلت على موافقة الأهالي وأن المعترضين على قيام السد هم مجرد أقلية.
ولكن مطالب الأهالي ليست فقط في مسكن ملائم وخدمات أساسية. فكعادة مشاريع التنمية الكبرى في العديد من الدول، فإن تجاهل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأهالي هو جزء من عقلية وسياسات لا تجد غضاضة في التعامل بعنف مع الأهالي إن أصروا على المطالبة بحقوقهم بشكل يخرج عن النص الذي سمحت به السلطات. فعندما اجتمع بعض المعترضين على سياسات الحكومة المتعلقة بسد مروي في أبريل 2006 جاء الرد عن طريق هجوم ميليشيات مسلحة أدى إلى قتل ما لا يقل عن ثلاثة مواطنين وجرح ما لا يقل عن 40. وبعد سنة، قامت قوات رسمية مسلحة بمواجهة تظاهرة سلمية خرجت للتعبير عن الاستياء من مشروع سد كجبار ورفضهم له، فكانت النتيجة هي قتل أربعة مواطنين وإصابة ما لا يقل عن 15 آخرين في يونيو 2007، بالإضافة إلى القبض على العديد من المتظاهرين وأعضاء اللجنة الشعبية لمناهضة سد كجبار. وبرغم عدم إعلان أي جهة عن مسئوليتها عن تلك الحوادث إلا أن الثابت أن الحكومة السودانية لم تضطلع بالدور المنوط بها في إجراء تحقيقات وتقديم الجناة للعدالة ومعاقبتهم، وهي المسئولية الإيجابية التي تقع على الدولة كجزء من مسئوليتها في حماية الحقوق.
وفي ذلك السياق تقدمت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بشكوى ضد الحكومة السودانية إلى اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان بتاريخ 30 يونيو 2013 بالنيابة عن الأستاذ على عسكوري والأستاذ عبد الحكيم نصر كممثلين للأهالي المتضررين من سدي مروي وكجبار، طالبت فيها اللجنة بأن تحكم بانتهاك السودان للعديد من مواد الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بعد أن فشلت الحكومة في التشاور مع الأهالي المتضررين من إنشاء السدود وتجاهلت الآثار المترتبة على عملية الإنشاء (من تهجير قسري وعدم تقديم تعويضات مناسبة واستخدام مفرط للقوة واعتقال قسري للكثير من معارضي قيام السد). كما طالب الشاكيان اللجنة بأن تحكم بوجوب إعادة التحقيق في الجرائم المرتكبة ضد المتظاهرين السلميين الرافضين لقيام سدي مروى وكجبار، وهي الجرائم التي لم يتم محاسبة أي من مرتكبيها بالرغم من لجوء العديد من الأهالي لهيئات العدالة الجنائية السودانية لعدة سنوات. وفي الدورة الغير عادية الرابعة عشر للجنة الإفريقية والتي انعقدت في نايروبي بكينيا بين ٢٠-٢٤ يوليو ٢٠١٣، اتخذت اللجنة الإفريقية قراراً بحجز الشكوى المقدمة ما يعني قبولها النظر في القضية وبدء المراحل اللاحقة في عملية التقاضي.
القضية المرفوعة هي جزء من نضال طويل لأهالي المناطق المتأثرة بالسدود والذي شهد طرق العديد من السبل القانونية والسياسية داخل السودان وخارجها، كالحركات والوقفات العديدة التي قام بها الأهالي في المناطق المتأثرة وكالقضية الجنائية التي تم تحريكها في ألمانيا من قبل المركز الأوروبي للحقوق الدستورية (ECCHR) ضد شركة لاهمايير وهي واحدة من شركات الإنشاء التي ساهمت في مشروع سد مروي متجاهلة الآثار المترتبة عليه، والقضية المرفوعة أمام اللجنة الإفريقية ما هي إلا محاولة أخرى للبحث عن العدالة والتذكير بضرورة ملائمة السياسات الاقتصادية الإفريقية للمعايير الدولية واحترامها لحقوق الإنسان. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، مبادرة دعم التقاضي في شمال إفريقيا