التكالب على بترول مصر
ميكا مينيو ــ بالويلو*
فى مقر نادى مرتفعات القطامية، وسط المروج الخُضر المشذبة وملعب الجولف، ناقش مديرون تنفيذيون من جنسيات مختلفة، جنبا إلى جنب مع مسئولين حكوميين اتفاقيات من شأنها تحديد مآل مليارات الدولارات؛ هل تستقر فى خزائن خاصة أم تذهب للخزانة العامة. تغييرات بسيطة فى عقد واحد قد تؤدى إلى إحداث فارق يزيد على الخمسة مليارات من الدولارات، أى ما يجاوز مجمل الإنفاق السنوى على الصحة فى مصر.
منحتنا المائدة المستديرة، التى انعقدت تحت عنوان «مستقبل اتفاقيات البترول والغاز فى مصر» لمحة عن تلك المفاوضات التى تجرى وراء الكواليس. كان مقدار الغطرسة المحسوس فى داخل القاعة، يماثل كم الإحباط لعدم الحصول على الاعتراف الشعبى المرغوب. المديرون الإقليميون لشركات كبرى يتذمرون قائلين: «الناس لا يفهمون مدى صعوبة الحياة بالنسبة إلينا كشركات بترول... كل ما يرونه هو المليارات التى نجنيها، وليس جهودنا من أجل البلد». ورغم ذلك: «كان قطاع البترول هو الصناعة الوحيدة التى ظلت تعمل فى أثناء الثورة، رغم القضايا الخاصة بالعمال».
مديرو شركات البترول يشعرون أنهم تمسكوا بالصبر: «فلا زلنا نعانى العديد من المشكلات، بما فى ذلك مشكلات عمالية. ويقول الناس منذ الثورة: إن المصريين قد اختلفوا، ويناضلون الآن فى سبيل حقوقهم. لكن من يدفع ثمن هذا؟ إنها الشركات». هل يمكن أن نعذر العمال والمجتمعات المحلية على ضيقهم من اختزالهم إلى مجرد «مشكلات» و «تحديات».
ارتكز الجدال الرئيسى أثناء تقديم المشهيات، على مطالبات الشركات متعددة الجنسيات بإجراء «عمليات جراحية قاسية فى النظام»؛ «النظام» الذى يعنى تلك الاتفاقيات التى تحكم استخراج الوقود الأحفورى فى مصر وتطبيقاتها. ويُمارس الضغط بغية خفض رقابة الدولة المصرية ومشاركتها، باسم «مرونة أكبر»، والأهم من ذلك للابتعاد عن اتفاقيات الإنتاج المشترك، التى تشكل النموذج الأساسى لعقود البترول فى مصر.
وعلى حد تعبير «رجال» شركات البترول الخاصة (جميعهم بالفعل كانوا من الذكور): «إننا بحاجة لتحرير النظام تماما من اللوائح الحكومية المقيدة، وفتح الأسواق».
تدار معظم امتيازات البترول والغاز فى مصر فى الوقت الراهن عبر اتفاقيات المشروعات المشتركة joint ventures التى تعقد بين شركات البترول الخاصة وشركات البترول الحكومية المصرية (الهيئة العامة للبترول، وغاز مصر، وجنوب). وهى اتفاقيات معروفة بتعقدها، لكن الأمر باختصار، أنهم يدفعون إتاوات للحكومة المصرية، ثم تقوم الشركة الخاصة باسترداد استثماراتها ويتم اقتسام الربح النفطى المتبقى. وملخص هذا أنه بينما تقوم شركة بريتيش بتروليوم وشركة شل بإدارة العمليات البترولية، تقوم شركات البترول التابعة للحكومة المصرية بالمشاركة فى اتخاذ القرارات وإقرار قيمة الإنفاق.
والآن ترغب الشركات الخاصة فى التحول إلى نمط الضريبة/الإتاوة خصوصا بالنسبة للحفر العميق تحت البحر الأبيض المتوسط والصحراء الغربية. ومن شأن هذا أن ينقل المزيد من السلطة إلى الشركات المتعددة الجنسيات، ويخفض الرقابة والمحاسبة، بينما ييسر تحقيق الأرباح الفاحشة. والحقيقة أن ترتيبات الضريبة/الإتاوة ليست إلا ردة إلى مرحلة الاستعمار، وغير ملائمة للمنطقة.
بالفعل يُنظر إلى مصر على أن عقودها هى الأسوأ فى المنطقة. ولم تزل شركات مثل توتال تهدد بتحويل استثماراتها إلى مكان آخر إذا لم تحصل على «حوافز أكثر للاستثمار فى مصر». ولأنك لا تستخرج البترول من الأرض إلا مرة واحدة. فالمطروح يمثل فكرة سيئة فى العموم؛ أن توقع عقودا مدتها عشرون عاما فى وقتٍ الدولة فيه فى حال بائسة، وفى موقف تفاوضى ضعيف. ولا يقل أهمية عن هذا حقيقة أن تلك العقود لن تضمن لك بحال على مدى ست سنوات أى بترول إضافى أو مزيدا من الإيرادات.
قد ينحسر التعاطف العام مع شركات البترول الحكومية فى ضوء الفساد واسع الانتشار، وهذا الغضب من بيروقراطية الدولة المصرية. لكن علينا ألا ننسى أن هذه موارد يملكها الشعب.
والحقيقة أن التخلى عن سيطرة الحكومة لصالح شركات بريتيش بتروليوم، وشل، وأباتشى يمكن أن يجعلها خاضعة لطغيان السوق بل حتى لاستبداد أقسى من قِبل بيروقراطية الشركات. صحيح يمكنك فى غمار ثورة التخلص من مسئولين حكوميين أو سياسيين، كما يمكنك نزع ملكية شركات، غير أن هذه الشركات ستلاحقك وقتها فى دوائر التحكيم، وبقضايا تكلفك مليارات الدولارات.
إن الاتجاه الغالب فى قطاع البترول فى مصر يسير صوب التحرر من اللوائح الحكومية، وقدر أقل من سيطرة القطاع العام، وقدر أعظم من الأرباح للشركات. وهذا أمر خطير.
توجِّه هذه العقود مليارات الدولارات من الإيرادات إلى الخارج، لذلك صارت فى نهاية الأمر مرتبطة بمسائل السيادة والاستقلال. ومن المهم فى هذا الإطار أن نذكر أن النضال فى الماضى كان معنيا بإحكام السيطرة الوطنية على الوقود الأحفورى، كجزء لا يتجزأ من جهود تصفية الاستعمار فى المنطقة.
على مصر أن تَحذر الاندفاع نحو عقود معدلة. فالاقتراب من إنجاز صفقة عادلة يعتمد فى الأساس على وجود نقاش عام قوى، فى ظل حكم ديمقراطى، حيث يمكن للناس الانتفاع من الإيرادات والموارد. أما تلك المناقشات التى يختزل فيها الناس لمجرد «مشكلة» أو «تحدى»، فإن أصحابها لا زالوا يعيشون فى زمن ما قبل الثورة.
لا يكمن الدرس الحقيقى المستفاد من اجتماع المائدة المستديرة الذى انعقد فى نادى القطامية فى خلال الأسبوع قبل الماضى فى تفاصيل البنود التى نُوقشت، بل يتعلق بمن هم هؤلاء المجتمعون؟ وبذلك المكان الذى اجتمعوا فيه. لا يجب بحال أن تتخذ صفوة صغيرة تجتمع خلف الأبواب المغلقة قرارات بشأن إدارة وقود مصر الأحفورى. إن التخلص من قمع الماضى وتحقيق أهداف العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية فى مصر يقتضى فى وقت واحد التحول الاجتماعى والتحول فى مسائل الطاقة.
وبالإضافة إلى هذا، يجب أن تتحرر النقاشات بشأن عقود البترول من المربع المالى الضيق.
لا يمكنك أن تقرر ماذا ستفعل باحتياطيات البترول دون التطرق إلى موضوعات مثل الحق فى الطاقة، والعدالة البيئية للمجتمعات المحلية، وكيف ستتعامل مصر مع تغير المناخ. وهذه هى أسئلة القوة التى ستضع بالضرورة مصالح نخب صغيرة فى وجه مصالح غالبية المصريين. وهى أسئلة لا يجب حلها فى نقاشات نادى الجولف بالقطامية، ولا فى مقار بريتيش بتروليوم أو الهيئة العامة للبترول.
*خبير فى مجال البترول والغاز يعمل فى حملة دعم المجتمعات المحلية لپلاتفورم لندن، وزميل بحثى فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
هذا المقال منشور في جريدة الشروق بتاريخ 4 مارس 2013. للرابط الأصلي انقر هنا