"السيادة الغذائية"... لماذا؟

25 نوفمبر 2013

ظهر على ساحة النقاش العام مؤخراً مصطلح "السيادة الغذائية"، وازدادت الدعوات التي تطالب باعتماده بديلاً عن المصطلح الأكثر شيوعاً وتداولاً وهو "الأمن الغذائي". ورغم تشابه المصطلحين في الإقرار بأهمية قضية الغذاء، إلا أنهما يختلفان بشكل جوهري في كيفية تناول هذه القضية.  

فالأمن الغذائي في الأساس يعني بتوفير كمية غذاء كافية لإشباع الحاجة الأساسية للسكان، وقد يتسع في تعريفاته الأكثر شمولا فيشير إلى أهمية أن يكون هذا الغذاء صحي وملائم. أما مفهوم "السيادة الغذائية"، فيتميز عن مفهوم الأمن الغذائي بأنه لا يتعامل فقط مع مسألة توفير الكمية الكافية للغذاء، وإنما يوفر رؤية بديلة ومتكاملة لتأمين الاحتياجات الغذائية.

وتعتمد تلك الرؤية على مبدأ أن يكون لمنتجي الغذاء المباشرين، من صغار المزارعين والصيادين والرعاة، الكلمة العليا في تحديد منظومة إنتاج الغذاء. وتعتمد أيضا على قوة موقفهم ومدى قدرتهم على مواجهة سيطرة الشركات العالمية الكبرى العاملة في مجال تجارة مستلزمات الانتاج (البذور والسماد)، وتحكم الشركات الكبرى وكبار التجار فى مجال التسويق.

ولا يؤكد مفهوم السيادة الغذائية فقط على كمية المنتج وإنما أيضاً على نوعيته، ويتبنى بالتالي قضية الحفاظ على البيئة وعلى التنوع البيولوجى، عن طريق الحفاظ على أنواع البذور المحلية وحمايتها من الانقراض نتيجة الانتشار السريع للبذور المهجنة والمعدلة وراثياً، التي تروج لها شركات البذور العالمية وهي بذلك لا تجنى من ورائها أرباحاً طائلة فحسب، وإنما تتحكم بشكل فعلي في منظومة الغذاء العالمية، من خلال احتكارها لإنتاج وتسويق البذور.

وتعتبر قضية "حماية الأصناف النباتية المستنبطة" ركن أساسي من أركان السيادة الغذائية، حيث أن الاتفاقيات الدولية والتشريعات المحلية التي تحكم هذه القضية تنحاز بالأساس لمصالح الشركات العالمية الكبرى، على حساب منتجي الغذاء المباشرين، بما يتعارض مع المبادئ الأساسية للسيادة الغذائية.

"حماية" من؟

أدى التقدم الهائل في مجال التكنولوجيا الحيوية إلى ثورة في مجال الإنتاج الزراعي، صاحبها تخصيص استثمارات ضخمة من أجل ابتكار أصناف نباتية جديدة متميزة، من حيث وفرة الإنتاج وموعد الحصاد وتحمل الجفاف والقدرة على مقاومة الآفات وغير ذلك من الخصائص الفريدة. وقد أدى هذا بدوره إلى ظهور شركات عملاقة متعددة الجنسيات، تسيطر سيطرة شبه كاملة على هذا النشاط. كل هذه العوامل أدت إلى سعي الدول الكبرى إلى توفير حماية كافية للأصناف النباتية الجديدة، على المستوى الدولي وتدعيمها.

لا يتعلق الأمر هنا بحماية الأنواع المهددة بالانقراض، وإنما بـ"حماية" الأنواع المستنبطة؛ أي التي تم استحداثها، وهي غالباً ما تكون "أصناف" من النباتات المزروعة، وقليلٌ منها من الحيوانات المستأنسة.

فمنطق الحماية في هذه الحالة هو في الحقيقة حماية للشركة التي استنبطت الصنف، وليس حماية للنبات أو حماية للمزارعين الذين يستخدمون هذه النباتات وبذورها. وسأحاول إيضاح أسباب  رأيي في أن مصر والبلاد النامية ليس لها مصلحة في الموافقة علي حماية الأصناف النباتية المستنبطة، لما له من تأثير سلبي على قضية السيادة الغذائية

و تتعلق حقيقة هذه الحماية بالمادة ١٤ من اتفاقية الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية المستنبطة (UPOV)، وهي تخص حقوق المربّي (الذي استنبط الصنف المحمي)، وتنص على ضرورة الحصول على موافقة المربي إذا ما رغب المستخدم في: زراعة أو استزراع (تكاثر أو إنتاج بذور)- أي تعامل يمكن من خلاله الإكثار  (عرض للبيع- بيع – تصدير – استيراد – تخزين) لأي من الأهداف المشار إليها سابقا.

و يحق للمربي في حالة ما تمت أي من هذه الأنشطة بدون إذن مكتوب منه، أن يلجأ للقضاء ضد المستخدم (غالباً ما يكون مزارع صغير) ويحصل على تعويضات كبيرة منه.

الوضع في مصر: حماية أم إحتكار؟

يوجد مصدران للبذور المستنبطة في مصر. الأول هو الاستيراد من الخارج ويمثل الجزء الأكبر ويفوق ٩٠٪ من البذورالتي تزرع بمصر، وتأتي عن طريق الشركات المرخص لها بالاستيراد، وهي لا تقل عن ١٠٠ شركة تعمل في هذا المجال. وتلك الشركات حصلت على التراخيص أثناء فترة حكم مبارك، وذلك من خلال علاقاتها مع بعض الشخصيات في الحزب الوطني، وقد احتكر بعضها البذور والاصناف. وأهم البذور المستوردة هي للخضراوات والفواكه مثل الخيار والطماطم والبطيخ والكنتالوب وأهم الدول التي نستورد منها هي قبرص واليونان وهولندا والدول الأوروبية الأخرى، كما أن معظم البذور الإسرائيلية تدخل مصر تحت غطاء تلك الدول. ويرتبط استيراد البذور بما يجيء معها من مبيدات وأسمدة لضمان النمو "المثالي" والإنتاج المربح.

أما المصدر الآخر للبذور المستنبطة فهو الإنتاج المحلي من خلال مراكز البحوث الزراعية أو الشركات الزراعية. وقد تأثر هذا القطاع مثله مثل أي قطاع في الدولة بالفساد، ولا يقوم إلا بسد جزء ضئيل للغاية من احتياجات السوق المحلي. فشركات القطاع الخاص التي تعمل في هذه الصناعة محدودة جداً، حيث يتجنبها كبار المستثمرين في المجال الزراعي، لأن صناعة التقاوي تحتاج إلى الكثير من الدقة والعناية للحصول على سلالات وأصناف نقية تعود بالنفع على مستخدم التقاوي. لذا، فإن جزءاً كبيراً من البذور مازال ينتج بوزارة الزراعة، التي لا تقوم بإنتاج أكثر من ١٠٪، أو ربما أقل، من الاستهلاك الكلي نتيجة عدم كفاءة هذا القطاع وسوء الإدارة.

تناقض الوضع في مصر

ينص قانون حماية الأصناف النباتية على ما يلي "تتمتع بالحماية، طبقا لأحكام القانون، الأصناف النباتية المستنبطة في جمهورية مصر العربية أو في الخارج، سواءاً تم التوصل إليها بطريقة بيولوجية أو غير بيولوجية، وذلك متى قيدت في السجل الخاص بالأصناف النباتية".

ويشترط للتمتع بالحماية أن يكون الصنف متصفاً بالجودة والتميز والتجانس والثبات، وأن يحمل تسمية. كما ينص القانون على أن مدة حمايةالأصناف خمس وعشرين سنة، بالنسبة للأشجار والأعشاب، وعشرين سنة بالنسبة لغيرها من الحاصلات الزراعية، وتبدأ مدة الحماية اعتباراً من تاريخ الحصول على الشهادة.

وتمنح هذه الحماية للمربي حق الاستغلال التجاري للصنف النباتي المحمي بكل صورة من الصور، فلا يجوز للغير إنتاج أو إكثار أو تداول أو بيع أو تسويق أو استيراد أو تصدير مواد الإكثار (البذور)، إلا بموافقة كتابية من المربي، كما تمنحه الحق في التعويض العادل في حالة مخالفة تلك الشروط. والمسئول عن إعطاء هذا الحق وحمايته هو مكتب الأصناف النباتية بوازرة الزراعة. ويمنح شهادة حق للمربي أو لمستنبط الصنف النباتي، الذي تتوافر فيه شروط الحماية سواءاً كان المستنبط شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً.

ويتلقى مكتب حماية الأصناف النباتية طلبات لحماية أصناف نباتية مستحدثة، بعضها مصرية و أكثرها أجنبي ـ ويصدر المكتب شهادة حماية الصنف النباتي، وذلك بناءاً على القرارات الوزارية الصادرة بشأنها، ويعمل تحت إيهام أنه يقوم بحماية الأصناف النباتية المصرية، ومنع التعدي عليها، وهذا غير حقيقي حيث أن مهمته في الواقع هي حماية المربي وليس الصنف.

ويحلو للمكتب أن يركز على أن حماية الأصناف النباتية الأجنبية وتداولها في مصر، يدل على ثقة المجتمع الدولي في أن القانون المصري يكفل حماية أصنافهم النباتية. كما يهتم بـوفاء مصر بالتزاماتها في تطبيق المعاهدات الدولية التي وقعتها؛ مثل اتفاقية الـ(Trips) وذلك فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية وكذلك اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية. ويفترض أن هذا النشاط والتوجه يؤدي إلى إيجاد فرص العمل، وأن حماية الأصناف النباتية الأجنبية وتداولها في مصر يفتح المجال أمام شركات تعمل في هذا المجال، مما يزيد من فرص العمل.

فبيت القصيد أن هذا التوجه لا يعود على مصر بالنفع، بل يؤثر سلبياً على السيادة الغذائية، والتي تركز أساساً على الحق الأصلي لمنتجي الغذاء، من صغار المزارعين والرعاة والصيادين، في أن تكون لهم، وليس لقوى السوق العالمية، الكلمة العليا في التحكم في المنظومة الغذائية من إنتاج الغذاء و توزيعه.

والسيادة الغذائية تتبنى بالذات قضية الحفاظ على البيئة، وعلى التنوع البيولوجي عن طريق الحفاظ على أنواع البذور المحلية وحمايتها من الانقراض. لذا، يظهر جلياً أن مسألة حماية الأصناف المستنبطة تحول دون تمكين المزارعين من تداول البذور، وتجبرهم على الرضوخ لمنظومة الاحتكار التي تستفيد منها الشركات المهيمنة على السوق. والحل المناسب لمصر هو الالتزام بحرية تداول البذور بشكل عام، و العمل على تشجيع صغار المزارعين على الحفاظ على، واستخدام وتحسين، البذور المحلية والأصناف "البلدية" الملائمة للمناخ والتربة، والتي لا تحتاج للأسمدة الكيماوية التي ترهق التربة وتستنفذ الموارد المحدودة.