أكثر من مجرد عدد!

4 أغسطس 2020

هناك علاقة متشابكة وقوية بين السكان والتنمية. وعادةً ما يُنظر إلى النمو الاقتصادي وحجم الأسرة على أنهما وجهان لعملة واحدة. فقد كان من المعتاد أن تكون السياسات والاستراتيجيات السكانية شديدة الاعتماد على الإحصائيات ومتمحورة حول الأرقام إلى أن قامت المجموعات النسوية والمنادية بحقوق المرأة ومناصرو حقوق الإنسان بإدخال مبادئ حقوق الإنسان إلى الخطط السكانية (Samir, 2020).

ومع تجاوز تعداد سكان مصر 100 مليون نسمة هذا العام، بدأت الدولة تسعى إلى خفض معدل الخصوبة الإجمالي، الذي يبلغ 3.5 حاليًا. ولتحقيق ذلك، لجأت الحكومة، للأسف، إلى الاستراتيجية التقليدية، التي تتسم بسياسة من أعلى إلى أسفل (top-down policy) والتي تهدف إلى إقناع الأسر بإنجاب عدد أقل من الأطفال. ويتم هذا في بعض الأحيان من خلال برامج تحفيزية قسرية، ومن خلال حرمان المرأة بشكل ضمني من استقلالها واستقلاليتها. ويتناقض ذلك مع برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد في القاهرة، الذي جعل الأفراد محور السياسات السكانية. وعرّف برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الحقوق الإنجابية على أنها " الحق الأساسي لجميع الأزواج والأفراد في أن يقرروا بأنفسهم بحرية ومسؤولية عدد أولادهم وفترة التباعد فيما بينهم وتوقيت إنجابهم، وأن تكون لديهم المعلومات والوسائل اللازمة لذلك، وفي الأعتراف أيضا بالحق في بلوغ أعلى مستوى ممكن من الصحة الجنسية والإنجابية". فعند تصميم وتنفيذ سياساتها السكانية، ينبغي على مصر التركيز على الحقوق والعدالة، وضمان تشجيع النساء والأسر بحيث تكون قادرة على ممارسة حقوقها من خلال خيارات كاملة وحرة ومستنيرة.

السياسات السكانية والتنظيم السكاني

تنظر الحكومة المصرية إلى الزيادة السكانية عبر السنين على أنها معضلة تحتاج إلى حل. وفي سعيها إلى خفض معدل الخصوبة الإجمالي، اعتمدت دائمًا على الوسائل القسرية التي لم تحقق النُهج التشاركية. ففي 2018 على سبيل المثال أطلقت مصر برنامج"2 كفاية" بهدف خفض معدل الخصوبة الإجمالي إلى 2.4. وبالتوازي، قام صندوق الأمم المتحدة للسكان بالشراكة مع قطاع تنظيم الأسرة التابع لوزارة الصحة والسكان والاتحاد الأوروبي بإطلاق حملة مستمرة بعنوان "حقك تنظمي "، الذي يقدم خدمات الاستشارة الأسرية ويوزع وسائل منع الحمل (UNFPA, 2019a). وعلى الرغم من اختلاف الخطاب في كلتا الحملتين، فإنهما تشتركان في نهج البدء من أعلى إلى أسفل. ففي الحملة الأولى تفرض الدولة قواعد تنظيمية على حجم الأسرة، فيما تقوم الوكالات الدولية في الحملة الأخيرة بتصميم برنامج بشكل أحادي يضمن ظاهريًا حقوق المرأة في مجال الصحة الإنجابية. وعلى الرغم من الاختلاف الملحوظ في نبرة كل من هاتين الحملتين، فإن دور المرأة فيهما يتمثل في كونها متلقية لرسائل التوعية، وليس كصانعة قرار فاعلة.

وفي 2019، ناقش البرلمان المصري قانونًا لتنظيم الأسرة للتخفيف من الزيادة السكانية (Enterprise, 2019)، وهذا التشريع، الذي اعتمد بشكل كبير على تقديم الحوافز الاجتماعية والاقتصادية للآباء والأمهات الذين لديهم طفلين. قام ضمنًا باستهداف الأسر المصرية ذات الموارد المحدودة. ومن الناحية العملية، من المرجح أن يكون أفراد الأسر الفقيرة هي من "سيختار" الاستفادة من الحوافز، وبهذا يكونوا قد تخلوا عن حقهم في اتخاذ قرار حر وفي أن يصبحوا آباء وأمهات بشروطهم هم.

ويوضح هذا المثال أهمية الاختيار الحقيقي فيما يتعلق بالاستراتيجيات السكانية – وهو مصطلح عادة ما يتم اقتباسه عند صنع السياسات ولكن قلما يتم تعريفه. ففي تحليلها للاستقلالية الإنجابية، تقوم لي سينديروفس (2020) بتحديد ثلاثة أنواع للاختيار في مجال تنظيم الأسرة الشامل 1) الاختيار المستنير، 2) الاختيار الكامل، 3) الاختيار الحر.

وتشكل الطريقة المستخدمة لقياس التقدم المحرز نحو تحقيق الأهداف الصحية إشكالية مماثلة. فمن الناحية التقليدية، دأبت حملات تخطيط الأسرة على تنفيذ السياسات والاستراتيجيات الوطنية من خلال مجموعة من الأنشطة (UNFPA, 2019b): حملات الطرق على الأبواب، وإشراك القيادات المجتمعية والقيادات الدينية، والحملات الحكومية المتلفزة، ومن خلال تدريب مقدمي الخدمات، والرائدات الريفيات في المجتمعات المحلية، والقياس الكمي للإنجازات بشكل رئيسي (Sayed, 2011). ويظل معدل الخصوبة الإجمالي واستخدام وسائل منع الحمل ذوا أهمية محورية لتخطيط وقياس التقدم اللازم لتحقيق سياسات تنظيم الأسرة وأهدافها. فعلى سبيل المثال، ينص ملف مصر على موقع تنظيم الأسرة 2020 على أن "[مصر] ملتزمة بالحفاظ على صحة نسائها وفتياتها وتخفيف معدل نموها السكاني من خلال توسيع نطاق برامج منع الحمل فيها وتحسين جودة الخدمات لجذب مستخدمات جدد مع توسيع نطاق اختيارات وسائل منع الحمل المتاحة" (بدون تاريخ). وتشمل رؤية مصر 2030 مؤشران للصحة يتعلقان بالسياسات السكانية: معدل وفيات الأمهات ومؤشر مركب يشمل النسبة المئوية للنساء الحوامل اللاتي يقمن بزيارات متابعة والنسبة المئوية للنساء المتزوجات في سن الإنجاب اللاتي يستخدمن وسائل منع الحمل الحديثة وأساليب جديدة لتنظيم الأسرة. غير أن الرؤية لا تشمل مؤشرات نوعية ولا تنطوي على تفعيل لـ"جودة الرعاية" خارج إطار المؤشرات العددية.

وفي 2017، تم إصدار الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية لتكون مكملة لرؤية مصر 2030 ولتفي بالتزامات مصر بموجب أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. غير أن هذه الاستراتيجية كانت محدودة بسبب تقيدها بالخطاب التقليدي لـ"تمكين المرأة"، عوضًا عن اعتماد منظور أوسع للعدالة الاجتماعية لمعالجة الحواجز الهيكلية التي تعيق استقلال النساء (المجلس القومي للمرأة، 2017). وبينما تعتبر الأهداف الكميةالمتعلقة بتعزيز جودة الخدمات من خلال تحسين تنظيم الأسرة أهدافًا أساسية، فإن وسائل منع الحمل تعتبر وسائل لممارسة الحقوق الإنجابية وليست غاية (Hardee et al., 2014). فجعل استخدام وسائل منع الحمل في قلب السياسات السكانية سيتم استقباله على أنه تحكم في السكان.

مؤخرًا، بدأ الباحثون في تفكيك المصطلحات المفاهيمية التوجيهية لتنظيم الأسرة في صنع السياسات. وفي هذا السياق، تم وضع "الاحتياجات غير الملباة" تحت المجهر. فاستخدام مصطلح "الاحتياجات غير الملباة" على مدى عقود من الزمن كنقطة انطلاق لدراسة تفاعلات السكان والتنمية يعد إشارةً ضمنية إلى أن رغبات المرأة في تخطيط حياتها لم تُعالج وإلى أن احتياجاتها لم تُلب. وفي مصر، سجلت الاحتياجات غير الملباة لتنظيم الأسرة ارتفاعاً بنسبة 1 في المائة بين 2008 و2014 (وزارة الصحة والسكان، 2015).

التطبيق العملي للسياسات

في 2018، أجرى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء دراسة مقارنة لتسليط الضوء على أوجه القصور والإنجازات في السياسات السكانية في البلدان التي تشترك في جوانب اجتماعية-اقتصادية مشابهة لتلك التي في مصر. فخلال تسعينيات القرن الماضي في إيران، على سبيل المثال، قام البرنامج الوطني لتنظيم الأسرة بتشجيع الرجال على المشاركة في تنظيم الأسرة عبر الترويج لـ"الوسائل الذكرية"، مثل الواقي الذكري، وتعقيم الذكور وطريقة الانسحاب، وبلغت النسبة الإجمالية للاستخدام 36% (Roudi-Fahimi & El-Adawy, 2005)؛ وفي المقابل، بلغ استخدام المتزوجون للواقيات الذكرية في مصر 0.1% فقط فيما لم يتم جمع أي بيانات بشأن تعقيم الذكور. ويشمل برنامج تونس القائم على الحقوق توفير التربية الإنجابية والجنسية وإشراك الأطراف المعنية في المجتمع المدني في صياغة مفاهيم السياسات السكانية وتنفيذها، وبناء قواعدبيانات دقيقة تسهل التدخلات القائمة على الأدلة.

التوصيات

تقيس الالتزامات السكانية الوطنية والدولية النجاح بزيادة استخدام وسائل منع الحمل، الذي ينظر إلى المرأة ضمنًا على أنها متلقية وليست فاعلًا، مما يستثنيها من عملية صنع السياسات وتصميم البرامج.  ولكي تصبح مركزة السكان في السياسة السكانية حقيقة واقعة، يجب إشراك النساء بشكل كبير في تشكيل تدخلات الصحة الإنجابية. حيث أن التفاعل مع المرأة من أجل تنفيذ السياسات فقط يعيد النهج التقليدي للسكان والتنمية إلى الحياة. علاوة على ذلك، يجب أيضًا مراعاة الفروق الاجتماعية. فالحقوق الإنجابية متاحة إلى حد كبير للقادرين اقتصاديًا. وعلى العكس من ذلك، فإن النساء والرجال الذين "يختارون" أن يكون لديهم عدد أقل من الأطفال للحصول على تمكين اجتماعي واقتصادي من خلال البرامج الإنجابية التحفيزية لا يقومون باختيار مستنير أو حر أو كامل. ولكي يتم تحقيق هذا الانتقال، يجب مراعاة الآتي:

الحوكمة

  • إعادة تفعيل برنامج القبالة الذي تم تصميمه في 1997 (Ghanam & Sebae, 2018) لضمان إمكانية الوصول، وتطبيق اللامركزية على الصحة الإنجابية، وتنويع الخيارات المتاحة أمام النساء.
  • تقديم حوافز لمقدمي الخدمات الصحية لقضاء وقت أكبر في استشارات مع النساء والفتيات، وللحفاظ على جودة الخدمات وضمان أن تكون الخيارات الإنجابية مستنيرة وحرة وكاملة.
  • لضمان الاستقلالية الإنجابية للمرأة، يجب الشروع في استجابة متعددة القطاعات لتبسيط السياسات المراعية للاعتبارات الجندرية، مما من شأنه إيجاد بيئات تتمكن النساءفيها من التغلب على العقبات الهيكلية.

الصحة الإنجابية لا تعني فقط تنظيم الأسرة

  • لكي يتم تأمين استقلالية النساء الإنجابية، ينبغي الاعتراف بوسائل متنوعة لدعم القرارات الإنجابية لهن. فالأساليب التقليدية لا تقل أهمية عن وسائل منع الحمل الحديثة.
  • وضع تصور جديد لتدخلات مجتمعية شاملة لمعالجة التحديات المختلفة في دورة حياة النساء والفتيات. ويجب أن تعالج تدخلات الصحة الإنجابية سوء التغذية والمفاهيم الجنسية والإنجابية الخاطئة والحواجز الاقتصادية والأمية وأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر.

الأثر

  • تمويل البحوث النوعية لتحقيق تخطيط وتنفيذ فعالين بشكل يعالج واقع تقديم الخدمات، والتجارب التي تعيشها المرأة، وسلوكيات الثقافات الفرعية إزاء الصحة الإنجابية.
  • جمع البيانات ونشر المسوحات السكانية والصحية الوطنية بشكل منتظم لتمكين الخبراء والجهات المعنية والهيئات الحكومية من صياغة توصيات فعالة في مجال السياسات العامة.

نشر هذا المقال علي موقع حلول للسياسات البديلة  بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠٢٠