عبء فائض الكهرباء

30 يوليو 2019

يمر قطاع الكهرباء في مصر بمرحلة انتقالية، تشهد توسعًا غير مسبوق في بناء محطات كهرباء بقدرات ضخمة وبإيقاع سريع، بدءًا من العام 2014، بعد أزمة انقطاع الكهرباء، ليتحول العجز عن تلبية نمو الطلب على الكهرباء إلى فائض إنتاج بعد مضاعفة القدرات الإنتاجية وتوفير الوقود اللازم لتشغيلها.

لم تكتف الحكومة بتوفير قدرات تلبي احتياجاتنا مع وجود احتياطي لتأمين توافر الطاقة أوقات ارتفاع الأحمال أو الطوارئ لعدم تكرار أزمة انقطاع التيار عبر استراتيجية تضمن استمرار توازي الإنتاج مع نمو الطلب لتأمين احتياجاتنا. تضاعفت القدرات الإنتاجية في غضون أربع سنوات، وبدأت مصر في تحقيق فائض في إنتاجها من الكهرباء. ورغم الفائض، استمر نهج الحكومة بالتعاقد على مشروعات عملاقة مثل محطة الضبعة النووية ومحطة الحمراوين التي ستعمل بالفحم.

تجاوزت الإضافات غرض تأمين الطاقة، لتصبح عبئًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وبيئيًّا، نظرًا إلى الاستثمارات الضخمة لبناء المحطات وما يلزمها من محولات ومد خطوط الشبكة، التي لا نضمن تحقيق أعلى عائد اقتصادي منها. تحمل المواطنون فاتورة أكبر يدفعون فيها تكلفة استثمارات لا حاجة لها، بالتزامن مع رفع الدعم عن الكهرباء. هذا إلى جانب تكلفة الأثر البيئي للمحطات نتيجة الانبعاثات والصرف والمخلفات، ما يؤثر على جودة الهواء والمياه والأرض بالجوار وينعكس على صحة الإنسان.

للتغلب على أزمة الفائض المتحقق، روجت الحكومة لرؤيتها في أن تصبح مصر مركزًا إقليميًّا للطاقة عن طريق تصدير الكهرباء، باعتبارها ضمانة لتحقيق عائد أكبر. وإلى أن يتحقق هذا الهدف ويتم التأكد من جدواه الاقتصادية، وسط كل المتغيرات العالمية في أسعار الطاقة وتطور التكنولوجيا، يبقى الفائض إهدارًا للموارد، في غياب استراتيجية لاستغلاله، ما دعا بعض كوادر القطاع والمتخصصين لانتقاد الإدارة الحالية، للتسرع في الإنتاج دون خطة. 

***

خرجت وزارة الكهرباء من الأزمة بـ «خطة عاجلة» مع بداية صيف 2015 لإضافة قدرات تصل إلى 3636 ميجاوات، بتكلفة 2.7 مليار دولار. ورغم تخطي الأزمة، توالت تعاقدات الحكومة لبناء عدة محطات بقدرات كبيرة، أشهرها التعاقد مع «سيمنز» لتشييد ثلاث محطات تعتمد على الغاز الطبيعي كوقود، بقدرات إجمالية 14400 ميجاوات وبتكلفة ستة مليارات يورو.

بلغت قدرات الكهرباء المضافة أكثر من 25 ألف ميجاوات، ليقفز اﻹجمالي إلى 45000 ميجاوات منتصف 2017، و 57424 ميجاوات نهاية العام المالي 2018-2019. ومن المتوقع أن تتخطى قدراتنا 60 ألف ميجاوات بحلول عام 2022 مع بداية الخطة الخمسية التاسعة (2022-2027) والتي ستشهد إضافات كبيرة مثل المشروعات المؤجلة من الخطة الخمسية الثامنة، كمحطة الدورة المركبة المتعاقد عليها مع أكوا باور السعودية (2250 ميجاوات) أو دخول محطة فحم الحمراوين إلى الخدمة (6000 ميجاوات)، إلى جانب محاولات الحكومة تحقيق التزامها بالاعتماد على الطاقة المتجددة بنسبة 20% في عام 2022 والذي يتطلب قدرات تفوق 12000 ميجاوات.

لم تخطط الدولة لكل الإضافات الحالية منذ البداية. الخطة كانت إضافة قدرات تبلغ 13200 ميجاوات من المحطات الحرارية خلال الخطة الخمسية 2012/2017، لكن المدة انتهت بإضافة أكثر من ضعف القدرات المخطط لها، لتصل إلى أكثر من 27400 ميجاوات، بحسب التقرير السنوي للشركة القابضة لكهرباء مصر لعام 2016-2017، ما تسبب في رفع القدرات الاحتياطية إلى مستويات غير مسبوقة تتجاوز كثيرًا الحمل اﻷقصى (أقصى طلب على الكهرباء)، ووجود فائض إنتاج غير مستغل.

وصل الحمل الأقصى نهاية العام المالي 2016-2017 إلى 29.4 جيجاوات، مع وجود قدرات متاحة أكثر من 45 جيجاوات لنفس العام، ما يعني وجود احتياطي تصل قيمته إلى 53%. وبمراجعة النشرات الشهرية لمرصد الكهرباء خلال العام 2018، نلاحظ أن الحمل الأقصى وصل إلى 31400 ميجاوات، خلال شهر يوليو 2018، وهي القيمة الأعلى خلال العام المالي 2018/2019 مع وجود قدرات اسمية (أقصى ما يمكن للمحطات أن تُنتجه في الظروف المثالية) متاحة 57424 ميجاوات، بنسبة احتياطي 45.3%. متوسط الاحتياطي في آخر ثلاث سنوات بلغ 50% تقريبًا ما يعني أن نصف القدرات المتاحة غير مستغلة، وهي نسب مغالى فيها مقارنة بالنسب المعتدلة المتعارف عليها في حدود 15% فقط.

***

تعتبر معدلات نمو الطلب على الطاقة الكهربائية في السنوات السابقة هي حجر الأساس في حسابات التنبؤ بالطلب على الطاقة، وبالتالي حجم الإضافات التي نحتاجها وتوقيت دخولها للخدمة. وبالنظر إلى الفترة بين 2010-2011 و2017-2018، بلغ متوسط معدل النمو السنوي للطلب على الكهرباء 4% تقريبًا.

وتوقع نموذج اقتصادي، اعتمد على نموذج تايمز (TIMES) المعتمد في وكالة الطاقة الدولية منذ 2008 ذكرته دراسة حديثة نُشرت عن مزيج الطاقة في مصر، أن يبلغ متوسط معدل نمو سنوي للطلب على الكهرباء 4.46% حتى عام 2050 بداية من العام 2014 كسنة أساس. كما توقع النموذج تخطي القدرات 60 ألف ميجاوات بحلول العام 2025، وهي القدرات التي وصلنا إليها تقريبًا قبل هذا الموعد بست سنوات.

وفي محاولة للتعامل مع هذا الفائض، أعلنت وزارة الكهرباء في الآونة الأخيرة عن سعيها لأن تكون مركزًا إقليميًّا للطاقة، وزيادة مساهمة قطاع الكهرباء في الناتج المحلي الإجمالي، خصوصًا بعد الزيادات الأخيرة في الإنتاج ووجود احتياطي كبير يسمح بالتصدير.

هذا السعي ليس جديدًا. بدأت مصر بالفعل تصدير واستيراد الكهرباء في عام 1998 ببناء خطين للربط مع ليبيا غربًا، ومع الأردن شرقًا، وامتداد نفس خط الربط إلى لبنان وسوريا. وفي عام 2013، وُقعت اتفاقية الربط مع السعودية لإنشاء خط تبادل قدرته 3000 ميجاوات، والذي سيتم تنفيذه وتشغيله بالكامل نهاية 2021، وفقًا للتقرير السنوي 2016/2017 للشركة القابضة.

وخلال عام 2017 -عندما تحقق فائض إنتاج كبير- تحركت الدولة لتوقيع مذكرات تفاهم مع عدد من الدول أهمها قبرص للربط مع قارة أوروبا، تهدف إلى إجراء دراسات جدوى لتنفيذ خطوط تبادل تصل إلى 3000 ميجاوات، ومذكرة أخرى لإنشاء سوق عربية مشتركة وتنافسية، بحسب التقرير.

لكن الربط الكهربائي يعني تبادل الطاقة ولا يقتصر على التصدير فقط. تهدف شبكات الربط الإقليمية أو الدولية للموازنة بين العرض والطلب في ساعات الذروة المختلفة بين الدول نتيجة لفرق التوقيت أو الفصل أو أنماط الاستهلاك. فعلى سبيل المثال، بلد بها غيوم في وقت الذروة لديها، تستورد فائض إنتاج مناطق أخرى مشمسة في أوقات تنخفض فيها الأحمال، وهكذا. كما يتم الترويج لشبكات الربط في اﻵونة الأخيرة لتشجيع الاستثمار في الطاقة المتجددة ومحاولة تخفيف آثار تغير المناخ جراء الانبعاثات الكربونية التي يساهم بها قطاع الكهرباء في العالم، حيث تعمل على تكامل أنماط الطاقة المتجددة وتجعلها أكثر مرونة لتقلبات المناخ.

تبادل الطاقة لا يحدث طوال الوقت، ويتم اللجوء إليه عند أوقات الحاجة أو ساعات الذروة لتفادي تخفيف الأحمال. لأنه خيار مكلف نتيجة الاستثمارات الكبيرة في بناء الشبكات وما يصاحبها من فقد الكهرباء بسبب طول مسار الشبكة. ولا يمكن لدولة أن تحتكر توريد الكهرباء لدول أخرى في ظل التسويق لشبكات ربط تنافسية بين الدول لضمان الحصول على أسعار معقولة. لذلك من الأجدى الحفاظ على نسبة 15% المتعارف عليها كاحتياطي، وعدم الاستثمار في بناء محطات بغرض التصدير فقط.

وفقًا للتقرير السنوي للشركة القابضة لكهرباء مصر 2017-2018، فقد تراجعت الصادرات بنسبة 61.8% للعام 2016-2017 مقارنة بالعام السابق له، نتيجة لعدم الاستقرار الجيوسياسي في دول مثل ليبيا وسوريا ولبنان. كما يُحتمل تأجيل الربط الكهربائي مع السودان نتيجة للاحتجاجات القائمة داخليًّا. وتعتبر موازنة الصادرات والواردات مع دول الجوار جزءًا أساسيًّا من حسابات معدل النمو على الكهرباء.


المصدر: التقرير السنوي للشركة القابضة لكهرباء مصر 2017-2018

***

في اقتصاديات محطات الطاقة، للحصول على أكبر عائد اقتصادي من تشغيل المحطات، فإنه يجب تشغيلها بالسعة القصوى أو بالطاقة الإنتاجية القصوى كأي مصنع عادي. ونظرًا إلى تجاوز القدرات اﻹنتاجية لمعدل نمو الطلب، فإن دخول القدرات الكبيرة للخدمة بالنمط المتبع أخيرًا يخلق تغيرًا لحظيًّا يرتفع فيه الاحتياطي بدرجة أكبر من حد الأمان لعمل الشبكة، ما يمثل إهدارًا للموارد، لوجود فائض طاقة كبير نتيجة تشغيل قدرات أكبر من الحمل الأقصى على الشبكة.

وفي حالة المحطات العملاقة، زادت الخسارة عند تشغيلها بحمل أقل من سعتها القصوى، مقارنة بالاستثمارات الضخمة في بناء وتشغيل المحطات، بالإضافة إلى الاستثمار في البنى التحتية الأساسية المرتبطة بمحطات الطاقة لتقوية الشبكة وبناء محطة محولات بالجوار.

يضاف إلى ذلك التكلفة البيئية والاجتماعية لبناء محطات الطاقة، المتمثلة في الآثار الجانبية لتشغيل المحطات، والتي يتم تحميلها على الصحة ومصادر المياه والمحاصيل الزراعية والمباني المجاورة. هذه التكاليف لا تدرج عادة، نظرًا لأنها غير مسعرة ويصعب حسابها بدقة، بسبب تغيرها من مكان إلى آخر، واعتمادها على عدة عوامل مثل سمات الموقع والكثافة السكانية ونوع المواصلات ونمط المعيشة ومدى تقدير السكان والمؤسسات للمخاطر المحيطة بهم.

نشر المركز الإقليمي للطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة (RCREEE) دراسة قدرت التكاليف البيئية والاجتماعية لمحطات الكهرباء في مصر لعام 2012 -حين كانت قدرات محطات الكهرباء نصف القدرات الحالية تقريبًا- بحوالي 3.3 مليار دولار، محتلة المركز الأول بالنسبة إلى الدول العربية. وفي ظل الزيادات الحالية لمحطات الطاقة الحرارية التي تعتمد على الغاز الطبيعي أو خطط الحكومة للاعتماد على محطات الفحم، تزيد التكلفة البيئية والاجتماعية لما تسببه من انبعاثات ضارة بالصحة والأرض والمناخ، ما يزيد من تكلفتها الكلية، ويصبح مزيج الطاقة غير مستدام اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو بيئيًّا.

يتحمل المواطنون تكلفة الاستثمارات الحالية. وفي ظل سياسات رفع الدعم الحالية لتحرير أسعار الكهرباء، تتحول فاتورة الكهرباء إلى كابوس مزمن بالنسبة إلى المواطنين وخصوصًا محدودي الدخل، حيث وصلت نسبة فاتورة الكهرباء إلى 4.7% من إنفاق الأسر في مصر للعام 2016، لتصبح مصر من الدول ذات القصور في عدالة الإنفاق على الكهرباء، وفقًا لتقرير أصدرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في نوفمبر 2017.

واستحوذت التكاليف الاستثمارية لبناء محطات وشبكات جديدة على ثلثي فاتورة الكهرباء وخُمس لخدمة الديون مقابل نسبة أقل من الخُمس تمثل تكاليف تشغيل مرفق الكهرباء للعام 2015-2016. يعني هذا أن المشتركين يتحملون أعباء مالية لبناء محطات لا يستفيدون منها، بحسب تقرير المبادرة.

ويتضح من خطة الحكومة استمرار سياسات التوسع في الاستثمار بالقطاع، حيث تستهدف زيادة الاستثمارات من 133.1 مليار جنيه للعام 2018-2019 إلى 313.4 مليار عام 2021-2022 بمتوسط زيادة سنوية حوالي 25%، لتستمر معها معاناة المواطنين من الزيادات المضطردة، والتي تتعارض مع أهداف الدولة المعلنة في استراتيجيتها لتوفير الخدمة بسعر مقبول وعادل.

كما أن التسرع في بناء محطات كهرباء لا حاجة لها حاليًّا،  يحرمنا من فرص التعاقد على تكنولوجيا أحدث وأعلى كفاءة تقنيًّا من التكنولوجيا الحالية. فبدلًا من استنزاف الموارد المالية المحدودة في محطات لا داعي لها، تتقادم بمرور الوقت، كان من الأجدى توفير تلك النفقات، والتريث لاقتناص ما هو أجدد أو أرخص، خاصة وأن هناك جهود بحثية جارية بالفعل لرفع كفاءة المحطات التقليدية، بالإضافة إلى أننا نشهد مرحلة انتقالية في تطوير تكنولوجيا الطاقة المتجددة للاعتماد عليها بشكل أكبر في السنوات القادمة، ما يؤدي إلى انخفاض أسعارها ورفع كفاءتها ا باستمرار.

وفي ظل هذا التوسع الهائل في بناء المحطات وشبكة الكهرباء والربط الكهربائي مع تطبيق سياسات رفع الدعم وتحرير سوق الكهرباء، يصبح من الضروري مراجعة المشروعات المخطط تنفيذها، وإجراء دراسة لحساب معدل نمو الطلب المتوقع تعكس أثر سياسات رفع الدعم وتحرير أسواق الكهرباء وترشيد الاستهلاك. كما يصبح ضروريًا وقف المشروعات الحالية لعدم الحاجة إليها وتجنب المخاطر البيئية الناجمة عنها والاعتماد على الطاقة المتجددة وبرامج كفاءة الطاقة.

نشر هذا المقال علي موقع  مدي مصر بتاريخ 30 يوليو 2019