المغزى المؤلم لمذبحة ماسبيرو اكتوبر 2011*
كان محيط مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون فى ماسبيرو خلال الإسبوع الأول لشهر اكتوبر2011 هو الساحة التى اختبرت أول محاولة ناجحة للسلطة في مصر، في سعيها استعادة زمام مبادرة القدرة على القمع الواسع و تخفيض تكلفته، بعد محاولات خجولة فى الفترة التى أعقبت إزاحة حسني مبارك عن الرئاسة فى فبراير من نفس العام .
اتخاذ الحركة الاحتجاجية لزمام المبادرة فى إطار الزخم و الإحساس بالثقة الذى أعقب إسقاط مبارك، سبّب قدراً عالياً من التوتر لسلطة المجلس العسكري. فحسابات المجلس اعتبرت أن تنحية مبارك، و البدء في عملية سياسية كفيل بتهدئة الشارع وعودة الاستقرار. إلا أن نطاق الاحتجاجات اتسع بشكل غير مسبوق، لدرجة أن إمكانية حصرها أمراً كان من الصعوبة بما كان و من كل فئات المجتمع، سواءاً من قبل موظفين حكوميين متذمرين، أو اضرابات لعمال، أو احتجاجات طلابية مطلبية.
ولما كانت الضربة الشعبية الرئيسية فى يناير 2011 موجهة بالأساس للشرطة المصرية و قدرتها على الردع والتخويف، فقد ربطت السلطة العسكرية الجديدة بين اتساع نطاق الاحتجاجات، و بين غَل يد الشرطة لحد تصور وجود مؤامرة مدبرة تحرك مجمل الحراك المنفجر فى المجتمع. لذا حاولت السلطة بشكل متقطع اختبار قدرتها على القمع مرة أخرى، و باءت معظم تلك المحاولات بالفشل نظراً لردة الفعل الجماهيرية الشجاعة فى مواجهتها.
ففى أواخر يونيو 2011 قامت الشرطة بضرب أهالي شهداء ثوة يناير أثناء تجمعهم فى ميدان التحرير، مما اعتبره الثوار والقوى الديمقراطية خطاً أحمراً؛ نتج عنه اعتصام الآلاف منهم فى ميدان التحرير لشهر كامل .
التغيرات السريعة جداً التى طرأت على المجتمع بعد ثورة يناير، و تحويل الرأي العام و الجموع لفاعل مهم فى العملية السياسية لا يمكن تهميشه، بل تحييده وبمجهود كبير في أحسن الأحوال. وبالتالي فإن خيار القمع لم يعد مجرد قراراً يتخذ في أروقة مغلقة و ببعض الغطاء الإعلامي، بل أصبح في حاجة إلى غطاء شعبي و خطاب داعم له في أوساط كثيرة.
و من هنا تأتي أهمية و خطورة أحداث ماسبيرو، فالأمر هنا لا يتعلق فقط بمستوى العنف الذى ووجهت به مظاهرات الأقباط، بل أيضاً بالغطاء الإعلامي الرسمي الذى تم اعتماده، و الذى اتبع التحريض الطائفي الصريح كخطاب ضد المسيحيين، و داعب بفجاجة نعرة طائفية لها جذورها العميقة داخل قطاع معتبر من المسلمين المصريين. وبالتالي، يصبح للقمع هنا ظهيراً شعبياً يمكن أن يبرره أو يتغاضى عنه أو يروج الدعاية المصاحبة له، وكذا التفاصيل و الروايات المعدة لخطاب السلطة عن ما حدث، وهذا يعتبر تحول نوعي في علاقة السلطة بالقمع، لم يلتفت له الكثيرون. فهو لم يعد فقط قمعاً مجرداً باسم السلطة الأبوية التى تعرف ماذا تريد وتعرف كيف ترهب الجميع، بل أصبح قمعاً يبحث فى آلياته عن طريق لمغازلة نزعات متنوعة لدى قطاعات متنوعة من الشارع المصري .
هناك أكثر من اعتبار حكم ما جرى في ماسبيرو. بداهة من الصعب تصديق التصور القائل بأن ملابسات الأحداث يوم 9 أكتوبر، هي ما استدعى ما حدث معها من قتل مفتوح بالرصاص الحي و الدهس بالمدرعات من قبل الشرطة العسكرية. فالسابق على الحدث هو أنه قبلها ببضعة أيام، تحركت مظاهرة متوسطة العدد من حي شبرا، ذو الكثافة المسيحية المتاخم لمنطقة وسط البلد، للتنديد باعتداءات طائفية جرت ضد المسيحيين فى الصعيد، فجوبهت بدرجة عالية من العنف وتم ضرب وسحل المتظاهرين بقسوة، مما استدعى الحشد الغاضب يوم 9 أكتوبر و ما لحق به من مأساة، رداً على عنف الشرطة العسكرية فى المظاهرة التى سبقتها.
بالتالي، نية العنف كانت مبيته و كان هناك قراراً بعدم السماح للمسيحيين بالوصول أو الاعتصام أمام مبنى ماسبيرو كما اعتادوا فى الأشهر السبعة السابقة على المجزرة، حيث أقام نشطاء أقباط أكثر من اعتصام في محيط مبنى الإذاعة والتلفزيون فى ماسبيرو.
القرار الأمنى أخذ في حساباته أن تواتر احتجاجات المسيحيين أمر يخل بالسلم الأهلي، و بالمعادلة الطائفية المصرية، و أن تلك الاحتجاجات، فى حد ذاتها، هو أحد أهم دلائل غياب هيبة الدولة طالما كانت تلك الاحتجاجات فى مواجهة تقصير السلطة. الأمر الآخر هو أن السبب الدائم للاحتجاجات، هو الاعتداءات الطائفية على المسيحيين في وجه بحرى والصعيد بسبب مسألة الخلاف على مشروعية بناء كنائس هناك، و هذه الاحتجاجات أصبحت تراها السلطة أمراً اعتيادياً متواتراً و متكرراً في آخر عشر سنين، و لا تستحق أن تهب الطائفة المسيحية من أجلها بطول البلاد وعرضها كلما حدثت حادثة، و لاسيما من حي شبرا الشعبي الملاصق لقلب القاهرة و وسط البلد. وبالتالى صار من الواجب وضع حد لهذه الاحتجاجات.
اختيار المسيحيين المتظاهرين كصيد أول للقمع كان مدروساً إلى حد كبير من وجهة نظري، و كان ضرباً لأكثر من عصفور بحجر واحد. من زاوية، كانت مجزرة ماسبيرو هي أول قمع ناجح بعد الثورة، و بكلفة بشرية عالية، و بتواطئ شعبي واضح. و من زاوية أخرى، كان إخراج للمسيحيين من دائرة الاحتجاج الشجاع بالقمع القاسي والسعي لعودتهم مرة أخرى لحضن الدولة المصرية بالعصا الغليظة، خاصة و أن الجسم الرئيسي للتيار الإسلامي لم يخفى سعادته بما حدث فى ماسبيرو، بل برر له و أعطاه الغطاء المطلوب. و بالتالي، على الطائفة المسيحية أن تختار صيغة للتعايش المنضبط مع الدولة المصرية، حتى و إن صاحب ذلك لحظات قاسية، كما حدث فى ماسبيرو، أو تصبح نهباً للتيار الإسلامي الذي يتغذى باستمرار على المسألة الطائفية كأحد مسوغات شرعية خطابه.
ببساطة، هزم المسيحيين في ماسبيرو كفاعل شعبي مستقل يسعى بالضغط الشعبي لتحقيق مطالبه. و أظهر الجيش وجهاً قاسياً، مفاده أن الدولة المصرية تستطيع أن تظهر وجهاً طائفياً مخيفاً اذا أرادت. و ما كانت التغطية الإعلامية للتلفزيون المصري لما حدث فى 9 اكتوبر 2011، إلا تجسدياً فجاً لذلك، حيث لم يسبق للإعلام المصري أن حرض تحريضاً طائفياً بهذه الفجاجة، ضد أقلية دينية لحد حرك سكان منطقة بولاق أبو العلا لمواجهة المحتجين و لدعم الجيش. بل إنني أدعى أن التحريض الطائفي الذي مارسه التلفزيون المصري فى هذا اليوم، كان من عدم المسئولية و الخطورة أنه كان من الممكن أن يفجر عنفاً طائفياً بطول البلاد وعرضها، لولا ما أسميه حكمة قطاعات واسعة من الشعب المصري في التعامل مع الحدث.
كانت ماسبيرو 2011 هي بذرة خفض تكلفة القمع، و لحِقها ما جرى في شارع محمد محمود بعدها بشهرين و أسفر عن مقتل العشرات. ثم أحداث محيط مجلس الوزراء في مطلع 2012.
المحصلة النهائية لتلك المواجهات كان تخفيض كلفة القمع، و جعل القتل إمكانية أكثر اعتيادية، و كانت ضربة البداية في ماسبيرو؛ حيث النزعة الطائفية غطاءاً. كانت البذرة في ماسبيرو بغطاء من التيار الإسلامي و كانت الثمرة فى رابعة العدوية ضد التيار الإسلامي و لكن فى سياقات عنف أهلي أوسع.
*منشور على موقع مدى مصر يوم 13 أكتوبر 2013