في مسألة الفرمانات الدستورية المتلاحقة وما ورائها
في غيبة رئيس الجمهورية وفى حضور عدد من الرموز المحسوبة على التيار الإسلامي القى الدكتور محمد سليم العوا مرشح الرئاسة السابق نص الإعلان الدستوري الجديد الذى صدر في 8 ديسمبر 2012 والذى ألغى بموجبه الإعلان الدستوري الذى اصدره الرئيس محمد مرسى في 22 نوفمبر 2012، وذلك من دون الغاء "ما ترتب عليه من أثار" بحسب نص الإعلان الجديد.
علينا ان ندرك على ضوء خبرة الأسابيع القليلة الماضية أننا بصدد استخدم أداوت دستورية في شكل فرمانات حسما لصراعات سياسية انية جدا ولأغراض قصيرة الاجل وبغرض تحقيق اهداف بعينها في المدى المنظور وبشكل لا يحق لرئيس الجمهورية استخدامه اللهم الا تحت دعوى الانقلاب ونحن في حاجه لفهم مغزى الفرمان الاول والثاني والسياق السياسي المصاحب لهما وما نتج بينهما من صدام اهلي واسع وعنيف احتدم بين الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي عموما في مواجهة كتلة المعارضة الديمقراطية.
اثبتت الممارسات السياسية لرئاسة الجمهورية ان محمد مرسى خاضع تماما للحسابات السياسية لجماعة الاخوان المسلمين ولقيادتها، وهى حسابات تقوم على تأسيس تحالف اسلامي واسع بقيادة الاخوان المسلمين اتضح في شكل تكوين الجمعية التأسيسية التي اعدته، مع تحييد المؤسسة العسكرية عبر عدم المساس بمكتسباتها ومصالحها الاقتصادية او قراراتها الامنية، وكذلك تحييد مؤسسة الشرطة والداخلية التي لا يظهر في سياسة الإخوان المسلمين أي ميل حالي لإصلاحها، وقد تجلى هذا بوضوح في مسودة الدستور الجديد محل النزاع.
هذا التحالف يبدو للكثير من القوى الإقليمية وللولايات المتحدة "تحالف الأقوياء المنظمين" الضامن لاستقرار بلد محوري بحجم مصر، وشرط تأييده والاعتماد عليه اختبرت في عدة محطات كان من اهمها الدور الفعال الذى لعبته مؤسسة الرئاسة ومن خلفها قيادة الإخوان المسلمين في تهدئة الأوضاع بين حماس واسرائيل وضمان صيغة هدنة بين الطرفين في نجاح لم يسبق لنظام حسنى مبارك القيام به بهذه الفعالية، وذلك كله استنادا الى حقيقة ان الحفاظ على امن اسرائيل هو اولوية اساسية وحجر للزاوية في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
التحديات الاقتصادية للدولة المصرية التي يمثل محمد مرسى رأس سلطتها التنفيذية تحديات جسيمة بالفعل، والخيار الاقتصادي الاجتماعي للإخوان المسلمين البادي للعيان هو تمويل عجز الموازنة عبر الاقتراض الخارجي وما يستتبع ذلك من الاخذ بشروط صندوق النقد الدولي كجهة اقراض وجهة تقييم معتمدة لأداء الحكومات الاقتصادي. الإجراءات الاقتصادية المطلوب تنفيذها تحقيقا لشروط الصندوق وتصوراته عن خطوات التعافي الاقتصادي هي اجراءات تقشفية مؤلمة اجتماعيا على نحو غير مسبوق ومطلوب الشروع في تنفيذها في شكل حزم متلاحقة في مدى زمنى شديد القصر لا يتعدى شهور معدودة. الأمر الذى قد يسبب اضطرابات اجتماعية غير مسبوقة ستنال بالقطع من شعبية وشرعية النظام السياسي الغير مكتمل اصلا.
في ضوء المعطيات السابقة وتحديدا احتمال اقتراب حدوث ازمة اجتماعية تنتج عن خيارات الإخوان المسلمين الاقتصادية يبدو ان حسابات الإخوان المسلمين قد رجحت المخاطرة بأخذ خيار الصدام السياسي السريع مع كل الخصوم من خارج التحالف الإسلامي الواسع املا ان تنتهى اما باحتواء او تهميش او ارهاب مؤقت لتلك القوى، وذلك سعيا محاولة تأسيس صيغة سلطوية للحكم تمكنهم من العبور بالأزمة الاقتصادية وارتداداتها الاجتماعية المحتملة عبر صيغة تقوم على الحكم بالأزمات تقوم على تصعيد سياسي عالي يصل لمستوى العنف يعقبه تنازلات محسوبة على حسب قوة رد الفعل المضاد، خاصة اذا أخذ في الاعتبار ضعف قدرة اجهزة الدولة القمعية على القيام بدور جراحي في مواجهة المعارضة ورغبة الجيش في النأي بنفسه عن صدام محتمل مع الجماهير.
سيصبح السؤال هنا ماذا يريد الإخوان مرحليا في ضوء السعي لتأسيس نظاما سلطويا ذو مرجعية انتخابية، وما هي الإجراءات المطلوب اتخاذها لتحقيق هذا المسعى وما دور الفرمانات الدستورية التي اصدرها مرسي في هذا الصدد، اذا جاز لنا القول ان التحالف الإسلامي الواسع بقيادة الإخوان المسلمين قد نجح مؤقتا في تحييد الجيش والشرطة ويحظى برضا الولايات المتحدة فإن ما تبقى من مؤسسات مطلوب إما تحييدها او احتوائها او تركيعها هي مؤسسات الإعلام والقضاء.
على مستوى الإعلام ظهر بالفعل اثر الهيمنة على وسائل الإعلام الرسمية سواء مرئية او صحفية وذلك على مستوى التناول والتغطية وذلك بعد اختيار عدد من المواليين لرئاسة تحرير الصحف القومية ووجود وزير إعلام منتمى للإخوان المسلمين لأول مرة مما اثار سخط الكثير من العاملين فيها خصوصا بعد قطع البث اكثر من مرة على عدد من المذيعين اثناء توجيههم انتقادات للإدارة السياسية او منع صحفيين من الكتابة في صحفهم ومحاصرتهم، بيد ان المستهدف هذه المرة هي وسائل الإعلام الخاصة تحت دعاوى مختلفة من بينها انتماء ملاكها للنظام السابق او كونهم جزء من مؤامرة مدروسة للإطاحة بمرسى. وتأكد هذا حركيا واجرائيا بوقف بث قناة دريم والاعتصام الحالي الذى يحاصر مدينة الإنتاج الإعلامي بقيادة حركة حازمون السلفية.
اما عن القضاء فالمسألة اكثر تعقيدا وصعوبة، فتحييد القضاء هدفه المعلن هو عدم توريطه في الصراع السياسي واستخدامه ساحة لتعطيل العملية السياسية عبر إصدار احكام تنال من شرعية مؤسسات يتمتع فيها التيار الإسلامي بالغلبة، لكن يأتي في كون القضاء هو الجهة الوحيدة المتفق على كونها من يصبغ الشرعية على أي عملية سياسية انتخابية سواء بالإشراف على مراقبتها او على مجمل اجراءاتها وإعلان نتائجها، وهنا تكمن صعوبة مهمة الإخوان: تناقضت سلوكياتهم بين محاصرة مبنى المحكمة الدستورية العليا كي لا تصدر احكاما بحل الجمعية التأسيسية وفى ذات الوقت يسألون الهيئات القضائية الاستجابة لطلب الإشراف على الاستفتاء على الدستور.
المشكلة الاخطر لدى الإخوان في علاقتهم بالقضاء هي ان الأدوات القانونية التي يستخدمونها هي من وجهة نظر كل القانونيين غطاء لعملية بلطجة غير مسبوقة وانقلاب مما يثير الاستفزاز والتحفز لدى الهيئات القضائية خاصة ان تلك الإجراءات تمر من تحت عباءة رئاسة الجمهورية ولم يكن للهيئات القضائية المصرية خبرة من تراث الصدام المفتوح مع منصب الرئاسة على خلفية اجراءات غير مسبوقة من هذا النوع كالتي اتخذها مرسى.
ففي نظر القانونيين الرئيس استمد سلطته بناء على الاعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 في انتخابات قانونية حرة مباشرة و مواد الاعلان الدستوري الذى اصدره في 21 نوفمبر2012 لا تتوافر فيها شروط النصوص الدستورية، فهي في حقيقة الامر قرارات إدارية ونصوص قد تصلح نصوص قانون عادي وليس إعلان دستوري، بها مخالفة لما هو راسخ من مبادئ دستورية مستقرة على مر عقود من صون الحقوق والحريات ومنها الحق في التقاضي وعدم جواز تحصين قرارات السلطة التنفيذية من رقابة القضاء. كما أنه لا يحق لرئيس منتخب اصدار إعلانات دستورية فيها تغير أو تعديل أو اضافة الى ما انتخب على أساسه من صلاحيات وسلطات ولو وافقنا على ذلك فذلك يعني أنه له القدرة على أن يعدل مدة الرئاسة وصلاحياته ويلغي مجلس الشعب والشورى والسلطة القضائية وهو ما لا يستقيم عقلا ويكرس لنفسه شرعية مستقلة، يعتبر أن اللجوء الى القضاء تهديدا للدولة وامنها والنظام فيها، وهو ما يجعل الناس ترى في أن السلطة القضائية اعداء للوطن فتعاديها وذلك هو بالضبط ما يعتبر تهديدا للدولة واستقرارها.
وعليه وتحت ضغط المظاهرات العارمة كلفت البلاد شهداء ومصابين وانتفاضة الهيئات القضائية امام ذلك الفرمان، تراجع محمد مرسى واصدر فرمانا اخر في 9 ديسمبر 2012 الغى بموجبه الفرمان السابق ولكن مع الإبقاء على الاثار المترتبة عليه، ومن تلك الاثار تعيين نائب عام جديد بالمخالفة لقانون السلطة القضائية وبإرادة حرة منفردة لرئيس السطلة التنفيذية وهو من يعد انتهاك لمبدئ الفصل بين السلطات ويثير الشكوك حول مدى استقلالية النائب العام وذلك في ضوء أنباء تحدثت عن تعرض النيابة العامة للضغوط من أجل منعها الإفراج عن المعتصمين والمتظاهرين الذى تم اسرهم وتعذيبهم وتسليمهم للشرطة بواسطة ميليشيات الإخوان المسلمين في مصدامات الأربعاء 5 ديسمبر 2012، ومن الآثار ايضا السارية والمتبقية من فرمان 22 نوفمبر 2012 هو قانون حماية الثورة والذي استغل رئيس الجمهورية انشغال الرأي العام بالإعلان الدستوري وقام بإصدار هذا القانون الذي اتضح من تفاصيله انه يستهدف المتظاهرين والعمال والصحفيين وحرية الراي والتعبير، وهو قانون يخالف العديد من القوانين الاخرى المعمول بها في مصر وتعهدات والتزامات مصر الدولة.
نحن اذن امام سياسة تقضى بشن هجوم عدواني شديد الشراسة مع توقع مقاومته، فيتم تقديم تنازلات محسوبة في مواجهة هذه المقاومة وهى سياسة شديدة الرعونة وتؤسس لحالة عداء وصدام أهلي مفتوح سواء سخنت حدته ام خفتت وتهدد بنيان الدولة والمجتمع على نحو غير مسبوق ولا يشفع لها غطاء دولي مؤقت.