المعايير المركزية في بناء المدارس تعيق إتاحة التعليم في الريف والحضر
يضمن الدستور المصري الحق في تعليم عالي الجودة لكافة المواطنين. ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من توفير بيئة تعليمية مناسبة، يجب أن تبدأ بتوفير فصول دراسية ومعلمين مؤهلين للطلاب، ويترافق معها توفير مناهج تعليمية حديثة متوافقة مع رؤية مصر لأهداف التنمية المستدامة.
لكن التعليم المصري يعاني من مأزق متراكب يتمثل في نقص المعلمين وعدد الفصول عن احتياجات الطلاب، ففي المتوسط يتلقى أكثر من 50 طالبًا تعليمهم في فصول لا تتجاوز مساحتها 38 مترًا مربعًا. مما يخالف المعايير التي وضعتها هيئة الأبنية التعليمية وهي الجهة المسؤولة عن إنشاء المدارس في مصر منذ تأسيسها سنة 1989، التي تضع حدًا أقصى لعدد الطلاب في تلك المساحة، لا يتخىي 36 طالبًا، لضمان ألا تصل الفصول لمرحلة اكتظاظ تؤثر على مستوى التعليم.حيث يتدافع الطلاب كل عام محاولين حجز مقاعد في الفصول وخاصةً المقاعد الأولى، ما يمنع الطلاب من الحصول على تعليم جيد ومتكافئ لجميع الطلاب.
ورغم توصيات هيئة الأبنية التعليمية، ما زالت أزمة نقص الفصول تشكل عائقًا لتلاميذ مصر، حيث تعاني البلاد من نقص عن الاحتياجات الكلية يصل إلى 250 ألف فصل. ويشكل هذا النقص أزمة كبيرة تتسبب في زيادة كثافة الفصول، حيث يصل عدد الطلاب في بعض الفصول إلى 80 أو 90 طالبًا، وفي مناطق أخرى مثل المرج والخصوص يصل العدد إلى 200 طالب/ة في الفصل الواحد، حسب تصريح وزير التعليم الحالي محمد عبد اللطيف.
وبالإضافة إلى النقص الحاد في الفصول الدراسية وما نتج عنه من كثافات طلابية مرتفعة، يواجه التعليم تحديا آخر يتمثل في نظام الفترات الدراسية المتعددة.
ويفتح هذا الوضع الباب لضرورة مناقشة المعايير التي تضعها الهيئة العامة للأبنية التعليمية لبناء المدارس، والتي تطبق نموذجًا موحدًا للمدارس في الريف والحضر، من دون مراعاة الخصائص والاحتياجات المتباينة لكل منطقة. كما أنها لا تأخذ في اعتبارها ضعف التمويل، ووجود مناطق محرومة من التعليم. إذ يؤدي ضعف التمويل إلى تحجيم قدرة الهيئة على بناء المدارس بينما يؤدى النموذج الموحد إلى إهمال وتهميش كثير من المناطق النائية.
بناء الفصول في مصر
يؤدي نقص الفصول إلى إضعاف مخرجات العملية التعليمية، ويزيد الضغط على المعلم والطالب معًا. كما يقلل من فرص التعلم للطلاب، ويحد من قدرة المعلم على التركيز والشرح وتقييم الطلاب داخل الفصل. وبالتبعية، تتحول المدارس إلى بيئة محفزة للعنف بسبب الضغط الكبير ومحاولات المعلم السيطرة على الفصل بأي سبيل.
بحسب تصريح لوزير التعليم السابق، رضا حجازي في 2023، فإن تكلفة بناء الفصل الواحد تصل إلى 800 ألف جنيه آنذاك (كان سعر صرف الدولار في 2023 يساوي 30 جنيهًا). وبحساب بسيط، تحتاج مصر نحو 200 مليار جنيه، لبناء الـ 250 ألف فصل بأسعار سنة 2023، دون حساب فرق التضخم وانخفاض سعر العملة المحلية مقابل الدولار. وفي الموازنة الحالية (2024/2025)، خصصت الحكومة لهيئة الأبنية التعليمية 25 مليار جنيهًا فقط.
وعلى مدار العقد الماضي، أُنشئ 127,450 فصلًا دراسيًا فقط. وفي تقرير صدر عام 2022، أوضح البنك الدولي أن مصر تحتاج إلى بناء 117 ألف فصلًا إضافيًا خلال الفترة من 2022 إلى 2027، بهدف خفض الكثافة الطلابية إلى 45 طالبًا في الفصل الواحد. وهذا يعني الحاجة إلى بناء ما يقارب 23 ألف فصل سنويًا.
قرى محرومة من التعليم: تباطؤ بناء المدارس
أشار رئيس هيئة الأبنية التعليمية، في تصريح سابق عام 2020، إلى وجود 2300 منطقة محرومة من التعليم بسبب غياب المدارس فيها. وتتركز تلك المناطق في محافظات الصعيد حسب - تقرير قديم لهيئة الأبنية التعليمية، منها محافظات سوهاج وقنا والمنيا. كما أنه لا يوجد تقرير حديث ومفصل يوضح القرى والنجوع المحرومة من التعليم في الوقت الحالي.
أشارت استراتيجية التعليم لعام 2014 إلى أولوية بناء المدارس في المناطق المحرومة. وكان هدف الاستراتيجية في عام 2016/2017 القضاء على ظاهرة المناطق المحرومة من التعليم، إلا أن تصريحات رئيس الهيئة تشير إلى أن هذا الهدف لم يتحقق كاملًا. قد يرجع ذلك إلى غياب المواكبة بين الزيادة السكانية وبناء المدارس على نحو متواز، والاعتماد على نموذج موحد في بناء المدارس، وهو ما يفتقر إلى المرونة لتلبية احتياجات المجتمعات الريفية.
فعلى سبيل المثال، قد لا يكون نفس النموذج مناسبًا للمناطق الحضرية أو المناطق المكتظة بالسكان، والمناطق قليلة الكثافة السكانية على حد سواء. لذلك، هناك حاجة ملحة لتطوير نماذج متنوعة لبناء المدارس، بحيث تتناسب مع احتياجات المجتمعات المختلفة وتحقق أهداف التنمية التعليمية.
معايير بناء المدارس في المدن والقرى مقابل المجتمعات الحضرية الجديدة:
بالإضافة إلى نقص الاستثمار في بناء صفوف جديدة، تواجه المدارس في مصر عوائق أخرى. تشير دراسة منشورة في نوفمبر 2019 للدكتورة هانيا صبحي، الباحثة في معهد ماكس بلانك في ألمانيا أن من أهم المشاكل التي تواجه الصفوف في مصر هي سوء توزيع الموارد ومركزية القرارات في عمليات البناء. وقد أشارت استراتيجية وزارة التربية والتعليم 2014-2030 إلى نفس الأسباب مع صعوبة الحصول على أراضٍ للبناء بسبب الشروط التي تضعها الهيئة العامة للأبنية التعليمية، خاصة في المناطق القريبة من النيل، كون الأراضي المتاحة للبناء عليها تقع ضمن زمام الأراضي الزراعية.
كل هذه العوامل أدت إلى عجز في بناء المدارس لصعوبة شروط البناء. بالإضافة إلى غياب مساحات الأنشطة المدرسية مثل فصول الموسيقى والحاسب الآلي وتعدد الفترات في المدارس، أي شغل المبنى المدرسي أكثر من مرة على مدار اليوم لتعليم عدة دوامات.
ومن أثر اعتماد معايير موحدة ومركزية تغيب عنها المرونة في بناء المدارس في المناطق الحضرية والريفية، أن هناك كتل سكانية لا تناسب مناطق عيشها بناء مدارس وفقًا لشروط الهيئة. على سبيل المثال، حسب معايير الهيئة لأبعاد المبنى، تشترط أنه: "يجب أن يكون أحد جوانب المدرسة على الأقل على الطريق الرئيسي، مع شارع ذي اتجاهين. يجب ألا يقل عرض الموقع عن الحد الأدنى المسموح به، ويجب أن يكون متصلاً بشبكة الشوارع المحيطة، وألا يقل عن 6 أمتار. يأخذ هذا في الاعتبار الشكل المربع للموقع. وفي المواقع المستطيلة، يجب ألا تتجاوز نسبة العرض إلى الطول 1: 3 وألا يقل طول أي جانب عن 40 متر" . وبالنسبة لارتفاع مبنى المدرسة في المدن والقرى، يكون أربعة أدوار.
كل هذه التفاصيل تعيق بناء المدارس على الأراضي المتاحة وتحرم مناطق وقرى مصرية كثيرة من التعليم. لأن النموذج المتبع قد لا يناسب كافة البيئات في المحافظات المصرية وقد يناسب الحضر ولا يناسب الريف والعكس. مما يؤدي إلى تفاوت في توزيع الخدمة التعليمية في العديد من المحافظات وإهدار عدة أراضي تصلح لبناء مدارس.
تعتمد الهيئة العامة للأبنية التعليمية على نموذج نمطي واحد هو الأكثر شيوعا في بناء المدارس، وكما ذكرنا لا تفرق بين المناطق ذات الكثافات السكانية العالية والمنخفضة. وسوف نرى بعض من المتطلبات والمعايير التي تضعها هيئة الأبنية التعليمية لبناء المدارس في كل من القرى والمدن القائمة بالفعل والمجتمعات الحضرية الجديدة مثل مناطق السادس من أكتوبر والقاهرة الجديدة.
على سبيل المثال ووفقًا لكراسة الشروط التي تحددها الهيئة، يكون الحد الأدنى لمساحة المدرسة في التعليم الأساسي في المدن والقرى 1200 متر مربع، مقابل 2500 متر مربع للمجتمعات الحضرية الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتوافر ملعب داخلي بمساحة 200 متر مربع في القرى والمدن، مقابل 400 متر مربع في المجتمعات الحضرية الجديدة. أما مساحة الفصل، فيجب ألا تقل في القرى والمدن عن 38 مترًا مربعًا، وبطول لا يزيد عن 8.5 متر، بينما في المجتمعات الحضرية يجب ألا تقل المساحة عن 42 مترًا مربعًا وطول لا يزيد عن تسعة أمتار.
إذن، التعديلات التي أدخلتها الهيئة في بناء المدارس بالمجتمعات الحضرية الجديدة هي أوسع وأشمل من حيث توفير المساحة للطلاب ووجود ملاعب أكبر لهم. في حين أن المدارس القائمة حاليًا في المدن والقرى تعاني من كثافة عالية من الطلاب، واستخدام متعدد للمبنى المدرسي على مدار اليوم، ما يخلق حالة من اللا مساواة بين المنتظمين في الدراسة في المجتمعات الحضرية الجديدة وسواهم من الطلاب في باقي مناطق الجمهورية.
لكن يكمن العائق الأكبر في بناء مدارس جديدة في شرط وجوب أن تكون المدرسة مبنية على طريق رئيسي. هذه المشكلة تظهر بشكل واضح في القرى والمدن الحالية، حيث يصعب توفير قطعة أرض مربعة يكون أحد جوانبها على الشارع الرئيسي، مما يؤدي إلى افتقار العديد من القرى للمدارس.
-
تلاميذ بلا مدارس لمدارس بلا معلمين
بجانب نقص المدارس في مصر يوجد نقص في عدد المعلمين، إذ يوجد عجز حاليًا في عدد المعلمين يبلغ نحو 650 ألف معلم. وهذا يبرز أهمية زيادة التعيينات في قطاع التعليم لمواجهة العجز الحالي إلى جانب بناء المدارس الجديدة.
بدأت الوزارة في 2022 فتح باب المسابقات من جديد، مستهدفة تعيين 150 ألف معلم/ة على مدار خمس سنوات بمعدل 30 ألف معلم سنويًا. ولكن يظل العدد غير كافي مقارنةً بالمعلمين الذين يتقاعدون سنويًا. واعتمدت الوزارة في العام الماضي 2024 على المعلمين بالحصة لتغطية هذا العجز بتعيين 50 ألف معلم بالحصة مقابل 50 جنيهًا للحصة الواحدة.
بالإضافة إلى ذلك، أثارت اختبارات الكلية الحربية، التي يخضع لها بعض المعلمين، جدلًا واسعًا. حيث تتضمن هذه الاختبارات اختبارات لياقة بدنية مثل الجري وكشوف هيئة، مما أدى إلى استبعاد عدد من المعلمين والمعلمات لأسباب تتعلق بالوزن الزائد أو الحمل أو الولادة الحديثة.
وفي مقابلة مع آدم (اسم مستعار)، وهو معلم في إحدى المدارس الثانوية في طنطا، أشار إلى هذه الأزمة قائلًا: "المشكلة الثانية هي توفير القوى العاملة (المدرسين). دي المشكلة الحقيقية. الاشتراطات عشان نوفر مدرسين يعنى هنبقى مضطرين نوفر طاقم عمل كامل". لذلك يعد توفير طاقم تدريس وإداريين مهنيين عائق جديد يجب أن يحل بالتوازي مع بناء مدارس جديدة.
-
تأثير بُعد المدرسة على تسرب الطلاب
الفكرة في توزيع الخدمات هي تحقيق الهدف المنشود من وجودها بأقصى قدر من الكفاءة والفعالية، بحيث تصل إلى جميع المستفيدين منها. ويقل الطلب على الخدمة كلما زادت المسافات، حيث تصبح تكلفة الحصول عليها أعلى. لذلك، لا بد من تحديد حد أدنى وأقصى لمكان هذه الخدمة في المركز، بحيث يتناسب مع حجم السكان المخدومين.
لهذا السبب، جاء ضمن أولوية الخطة الاستراتيجية لوزارة التعليم التأكيد على اللامركزية في نظام بناء وصيانة المدارس، وذلك لضمان أعلى مستوى من الإتاحة والجودة، ولتكون المباني المدرسية ملائمة للبيئة الجغرافية. من هنا، نؤكد على أهمية هاتين النقطتين لتخفيف العبء المالي، ولإمكانية بناء مدارس في القرى والمناطق المحرومة من التعليم، بحيث تتناسب مع الحيز الجغرافي للقرى دون التطرق إلى النموذج المركزي في عملية البناء.
ولكن على سبيل المثال يتم إنشاء مدرسة ثانوية مركزية في قرية ما، وتستهدف الوزارة أن تخدم هذه المدرسة الطلاب في باقي القرى المحيطة. وهو ما قد يشكل عبئًا على الطلاب في تلك القرى بسبب المسافة الطويلة، حيث تقول زينب (اسم مستعار) وهي تعمل معلمة في مدرسة بمحافظة المنيا: "المدارس الثانوي جنب قريتي وكانت بتجمع كل القرى اللي حواليها وهي على حسب قريتك قريبة من المدرسة [أو بعيدة]، وفيه طلاب تانية بيركبوا على حسب المسافة" وقد حددت الهيئة للمدارس الثانوية مسافة لا تزيد على خمسة كيلومترات بينها وبين أماكن سكن الطلاب. يجب الأخذ في الاعتبار أن بُعد المسافات قد يتطلب استخدام وسيلة مواصلات، وهذا يشكل عبئًا ماليًا على الأسر، ما يبرز أهمية تبني نموذج لبناء مدارس صغيرة في القرى والمراكز.
وقد حددت الهيئة العامة للتخطيط العمراني مسافة قصوى بين الموقع السكاني وموقع المدرسة، حيث حددت على سبيل المثال أن الحد الأقصى للمسافة في المدارس الابتدائية هو 750 مترًا، وفي المدارس الإعدادية ما بين 1 و 2 كيلومتر.
ويؤثر بُعد المسافات بين الطلاب والمدرسة على انتظام الكثير من الطلاب والطالبات ويساعد في تسرب بعضهم من التعليم، وخاصةً في المحافظات الحدودية. وبناءً على أحدث تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تقرير "تعداد مصر 2017"، فإن من ضمن أسباب عدم الالتحاق والتسرب من التعليم هو "صعوبة الوصول إلى المدرسة"، وجاء في المرتبة السادسة بين الأسباب. وقدر التقرير نسبة المتسربين بسبب بعد المسافة بـ5.2%.
وعلى نطاق المحافظات تحتل محافظة مرسى مطروح إلى نسبة في المتسربين بسبب نأي المدارس بنسبة 28% ويأتي بعدها بورسعيد 15,6%، جنوب سيناء 14,1%، الوادي الجديد 11,3%.
-
أهمية اللامركزية في بناء المدارس:
لماذا اللامركزية في بناء المدارس؟ لأنها تعطى كل محافظة ومنطقة تعليمية تقدير احتياجاتها من المدارس وتصميم المباني المدرسية بشكل أفضل حسب احتياج المنطقة. حيث تكون المناطق المحلية أسرع وأقدر في استجابتها للتغيرات وتخصيص الموارد المالية بشكل أكثر شفافية وفعالية، بالإضافة لضمان الوصول للمناطق المحرومة من التعليم بحيث تتحقق العدالة في توزيع الخدمات التعليمية. ونضمن عدم تسرب الطلاب بسبب بُعد المسافات عن المنطقة السكانية.
لذلك نوصي، بإنشاء مدارس قريبة من النطاق السكاني، مع الأخذ في الاعتبار النموذج المناسب للقرى دون الحاجة إلى بناء مدارس متعددة الطوابق (مثل 4 أدوار) في قرى صغيرة ذات نطاق سكاني قليل. كل ذلك يأتي كما وضحت الاستراتيجية في الاتجاه نحو اللامركزية والأخذ في الاعتبار الاحتياجات الجغرافية لكل منطقة.
من هنا، يجب أن يؤخذ في الإعتبار لا مركزية البناء في المدارس، وأن يصبح النموذج المدرسي مرنًا ويخاضعًا للاضافات والاقتراحات كل مدة زمنية، وذلك حسب الخصائص الاجتماعية والجغرافية وما يلائم احتياجات كل منطقة سكانية تحتاج إلى مدرسة.
لتحقيق عدالة توزيع الخدمات التعليمية، يجب مراعاة سهولة الوصول إلى المدارس والتوسع في اللامركزية. هذه اللامركزية تمكن المناطق المحلية من اتخاذ قرارات تناسب احتياجاتها، وتضمن عدم تهميش أي منطقة في الحصول على التعليم المناسب. وخلاصة ذلك أن مركزية بناء المدارس في مصر تحتاج إلى إعادة النظر مرة أخرى.