سوق «طوعية» لتجارة الكربون في مصر: غسيل السمعة الأخضر
أطلقت مصر السوق الأولى لتداول شهادات الكربون الطوعية في أفريقيا، وذلك بعد 5 سنوات من الدراسة والإطلاق التجريبي في قمّة المناخ في شرم الشيخ (COP 27).
قد يبرز تناقض بين ما تقوم به الحكومة المصرية من قطع مستمرّ للأشجار في مختلف المدن المصرية، وخصوصاً القاهرة، وبين إطلاق سوق طوعية لتجارة الكربون تعكس بحسب ما صرّح به المسؤولون الحكوميون المصريون إلتزاماً جدّياً بالانتقال نحو «الاقتصاد الأخضر». لكن الحكومة المصرية في الواقع، تسعى إلى الاستفادة من «التمويل الأخضر» كآلية لتوسيع مصادر الاقتراض في ظل أزمة المديونية المتنامية فيها.
رخص تلويث بأسعار بخسة
تُعدّ أسواق شهادات الكربون من الحلول السوقية المقترحة منذ ثمانينيات القرن الماضي من أجل السيطرة على الانبعاثات الغازية. انتشرت النظم المختلفة لتجارة الانبعاثات بعد بروتوكول كيوتو في العام 1997، وأشهرها سوق الاتحاد الأوروبي لتجارة الانبعاثات التي أطلقت في العام 2005، وهي حالياً واحدة من أكبر أسواق تداول الكربون في العالم، وغطّت نحو 41% من انبعاثات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في العام 2021. أطلقت الصين أيضاً في العام 2021 سوقاً لتجارة الكربون تعدّ من الأكبر في العالم، وتغطّي ما يعادل 5 مليارات طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
مع ذلك، لم تنجح معظم أسواق تجارة الانبعاثات في تحقيق أهدافها، وتحوّلت مع الوقت إلى رخص للاستمرار في تلويث الكوكب. والواقع أن شهادات الكربون تعطي الشركات قدرة على شراء شهادات كربون رخيصة في مقابل الاستثمار في مشاريع خضراء، لكنها غالباً ما تكون وهمّية، أو على الأقل مبالغ في تقدير قدرتها على حبس الكربون ومنع انبعاثه. وبالنتيجة، تستمرّ تلك الشركات، وكثير منها تعمل في قطاع الوقود الأحفوري، في تلويث الكوكب.
أطلقت مصر سوقاً طوعية لتبادل الكربون. وما تعنيه «الطوعية» في هذا الحالة يحمل الكثير من التأويلات.
في الواقع، يوجد نوعان رئيسيان من أسواق الكربون في العالم حالياً. السوق الأولى تتمثّل بأسواق الامتثال التي تتبع نظام «الخفض والتجارة» (Cap and Trade)، وتتدخّل فيها الحكومة بشكل مباشر وتجبر الشركات بحدّ أقصى من الملوّثات لكلّ قطاع ولكلّ شركة، ولا يمكن تجاوزه. وبناءً عليه، توزّع التصاريح على الشركات والمصانع المختلفة. وفي حال تجاوزت الشركات حدّ التلويث المنصوص عليه في رخصتها، يصبح عليها شراء الكربون من المصانع الأخرى. وغالباً ما عانت هذه الأسواق من مشكلات تتعلّق بالتكلفة المنخفضة للتلويث، أي من الكلفة المتدنية لشراء الكربون، وكذلك من انخفاض الغرامات المفروضة، والتراخي في تنفيذ الرقابة في معظم دول العالم. فتحوّلت شهادات الكربون في هذا السوق إلى رخصة للتلويث.
أمّا النوع الثاني فيتمثّل بالأسواق الطوعية لشهادات تداول الكربون، التي لا تتدخّل الحكومات في تنظيمها وفقاً لرؤى هادفة أو واضحة، بل تترك هذه العملية للشركات الخاصّة التي تشتري طوعياً أرصدة الكربون وفقاً لأهدافها المناخية الخاصّة، وتستفيد منها لممارسة الغسيل الأخضر، أي الترويج بأن لديها سياسات تقضي بخفض انبعاثات الكربون. وتعتبر إزاحة الحكومات عن التدخّل في سوق تسعير الكربون مطلباً مستمراً للشركات. فمن خلال الأسواق الطوعية، يمكن للشركات شراء شهادات الكربون من شركات أخرى من دون أي تدخّل من الحكومة، لا في تحديد الأسعار ولا في عدد الشهادات التي يمكن شراؤها، ما يجعلها بكل بساطة رخصة بسعر منخفض لاستمرار تدفّق الانبعاثات الغازية.
تغطّي أسواق تسعير الكربون ما يوازي 23% من الانبعاثات الغازية بحسب البنك الدولي، غير أن أسعار الطن المكافئ من الكربون تتفاوت بشكل كبير. في الهند، يمكن لشركة أن تشتري طناً مكافئاً بنحو دولارين فقط، بينما في الاتحاد الأوروبي، يتخطّى سعر الطن المكافئ حوالي 80 دولاراً.
في خلال السنوات العشر الماضية، نمت سوق تجارة انبعاثات الكربون بشكل متزايد، وبحسب تقديرات البنك الدولي بلغت عوائد عمليات تسعير الكربون أكثر من 95 مليار دولار في العام 2023، علماً أن 69% منها يأتي من تجارة الكربون، والنسبة الباقية أي 31% من ضريبة الكربون التي تعتبر من الطرق الأكثر نجاحاً في تخفيض الانبعاثات الغازية، لأنها تضع تكلفة كبيرة على سعر المنتج النهائي، وتحفّز الشركات على الاستثمار في تقليل البصمة الكربونية الفعلية لمنتجاتها على امتداد سلاسل الإنتاج وطرق الشحن والتجارة. ومع ذلك، تعارض الكثير من الشركات الكبرى ضريبة الكربون، وتفضّل الانخراط في آليّات يصعب مراقبتها مثل أسواق تبادل الكربون الطوعية، التي تتيح للشركات التحايل في تقدير كمّيات الكربون المفترض شراؤها، واستخدام ألاعيب عدّة في عمليات التسعير.
آلية للحصول على عملات أجنبية
يأتي إطلاق هذه السوق في مصر في ظل تطوّرات عالمية وإقليمية كبيرة. تنظر الحكومة المصرية إلى هذه السوق على أنها آلية لحشد التمويل الأخضر خدمة لمديونيتها المتنامية. مع ذلك، ينبغي تطوير الاستثمارات الخضراء في مصر إلى مستويات تمكّن الحكومة من الاستفادة من آليات السوق الطوعية لتبادل الكربون، لا سيما أن الآلية المعتمدة حالياً تقضي بالحفاظ على الغابات والأشجار، وهو ما تفتقد إليه مصر.
تحاول مصر الاستفادة من الطفرة المتوقّعة في أسواق تسعير الكربون. منذ العام 2019، أتاحت وزارة الكهرباء المصرية للشركات العاملة في «بنبان»، وهو أكبر مشاريع البلاد في الطاقة الشمسية، إمكانية التداول في شهادات الكربون. سعت تلك الشركات، ومعظمها شركات أجنبية، إلى التسجيل في عمليات بيع شهادات الكربون من أجل توفير دخل إضافي بنحو 7 ملايين دولار سنوياً في أفضل الأحوال بأسعار شهادات الكربون الحالية. وبحسب التقديرات، يوفّر «بنبان» نحو 3.6 ملايين طن سنوياً من مكافئ الكربون. ومع تكثيف الاستثمارات الحكومية الخاصة في مشاريع تطوير الهيدروجين الأخضر وإنتاجه، من المتوقّع أن تصبح تلك المشاريع قادرة على بيع شهادات الكربون. وقد اشترطت الحكومة المصرية أن تساهم الشركات الخاصة بنصف حصيلة بيع الشهادات.
تأتي هذه الخطّة في ظل أزمة ديون مستمرّة تسعى الحكومة المصرية إلى التصدّي لها عبر طرق كلّ أبواب التمويل الخارجي المُتاح. وعلى الرغم من الانتقادات التي طالت عمليات تعويض الكربون (carbon offsetting)، تستمرّ مصر في هذا السباق كغيرها من دول العالم والبحث عن طرق للتمويل الأخضر والاستفادة من طفرات الأمولة في هذا القطاع.
غسيل أخضر لشركات القطاع الخاص
واللافت في الطرح الأول من شهادات الكربون في السوق الطوعية المصرية، هو أن المشتري كانت «دالتكس»، وهي أكبر شركات القطاع الخاص المصدّرة للحاصلات الزراعية، وأيضاً واحدة من أكبر مصدّري البرتقال في العالم في خلال السنوات الماضية. ويأتي ذلك، بعدما اشترت «دالتكس» مؤخراً نحو 1,500 شهادة كربون دولية من مشروع «Agroforestry» المملوك لشركة «VNV أدفيزوري» في مدينة بنجاب في الهند، بقيمة تتجاوز 1.3 مليون جنيه (أي 27،000 دولار أميركي). ويمكن فهم هذه العملية كخطوة استباقية لتدعيم قدرة شركة «دالتكس» على الاستمرار في تصدير الحاصلات الزراعية إلى السوق الأوروبية.
ويأتي ذلك بعدما قدّم الاتحاد الأوروبي اقتراحاً في العام 2023 يقضي بفرض رسوم جمركية على الواردات من البلدان التي تسعّر الكربون بأسعار أقل من أسعار الاتحاد الأوروبي. وتتطلّب آلية تعديل حدود الكربون (CBAM) أن يبلّغ المستوردون عن انبعاثات الغازات الدفينة المباشرة وغير المباشرة المضمّنة في السلع التي يستوردونها، ومن المتوقّع أن يبدأ تطبيق هذه الآلية بدءاً من كانون الثاني/يناير 2026، ما يعني أن على المنتجين المهتمين بالتصدير إلى الاتحاد الأوروبي أن يقلّلوا بصمتهم الكربونية عبر شراء شهادات مثل التي اشترتها «دالتكس». أمّا البلدان التي لا تفرض ضرائب على الغازات الدفيئة فسوف تواجه تعريفات جمركية على صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي في 6 قطاعات «تجريبية» كثيفة الكربون وهي الألومنيوم والحديد والصلب والأسمنت والأسمدة والهيدروجين والكهرباء. ومن المُقرر إضافة المزيد من الصناعات بحلول العام 2030. وعليه سوف يتعيّن على المستوردين شراء تصاريح الاستيراد تعادل تكلفتها سعر الكربون في الاتحاد الأوروبي، وهي تكلفة مرتفعة جداً إذا ما قورنت بأسعار الكربون في الدول الأخرى.
من الواضح أن إنشاء هذه السوق يهدف إلى مساعدة المصدّرين المصريين إلى الاتحاد الأوروبي على تقليل بصمتهم الكربونية عبر شراء تلك الشهادات محلّياً، أو من السوق الدولية، أو من سوق منظّمة حكومياً، وبالتالي، استمرار الاندماج بين أسواق المال الجديدة في العالم وبين أسواق المال المصرية، ما يجعل من «خفض الانبعاثات» هدفاً جانبياً لإنشاء هذه السوق الطوعية لتبادل الكربون.
في مصر على سبيل المثال، تساهم الحكومة في 31% من الانبعاثات من قطاع الكهرباء، بسبب زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي في خلال السنوات الماضية في توليد الكهرباء، وعلى الرغم من تشجيع الحكومة لإنشاء محطّات الرياح ومحاولتها جذب الاستثمارات في مجال الطاقة الشمسية، لا يتعدّى إنتاج الكهرباء في مصر من الطاقة النظيفة 6% من إجمالي الطاقة المنتجة.
يمكن فهم هذه العملية كخطوة استباقية لتدعيم قدرة شركة «دالتكس» على الاستمرار في تصدير الحاصلات الزراعية إلى السوق الأوروبية
تحاول الحكومة المصرية تهيئة السوق للاستثمارات الخضراء وخصوصاً في قطاع الطاقة. وقد وقّعت في خلال السنوات الماضية مذكّرات للتفاهم مع كبرى الشركات العالمية لإنشاء مشاريع للهيدروجين الأخضر، وهي مشاريع قادرة على بيع شهادات الكربون في السوق الدولية، وبالتالي توفير تمويل رخيص. لكن يبدو أن اتفاق الحكومة مع الشركات الخاصة لتقاسم عوائد شهادات الكربون صعب، فتلك الشركات العالمية لديها مستهدفات في خفض الانبعاثات من خلال بيع الشهادات الكربونية وتراهن على توسّع رأس المال المالي في هذا القطاع في خلال السنوات الماضية.
ما زال الوقت مبكراً للحكم على نجاح الحكومة المصرية في حشد التمويل الأخضر من خلال السوق الطوعية لشهادات الكربون، لكن المؤكّد أن هذا الاندماج المستمر لا يساعد مصر، وهي واحدة من أكثر الدول الأفريقية المساهمة في الانبعاثات الغازية، على تقليل بصمتها الكربونية بقدر ما يساعد شركات القطاع الخاص المصرية والشركات الإقليمية والدولية على التهرب من مسؤولياتها المستمرّة عن التدهور المناخي.