جريمة الإرهاب: تعريف فضفاض ومواد تستبيح العدالة

6 يناير 2014

عمدت السلطة التنفيذية - منذ ستينيات القرن الماضي - إلى الدفع بنصوص تشريعية غايتها لجم أعمال العنف المدفوعة سياسياً والهادفة لحسم الصراعات السياسية الداخلية بالقوة. ودأبت على صك تعريفات تخص الجريمة السياسية ملؤها الغموض والاتساع، وتراكمت معها في المدونة القانونية المصرية مواد فضفاضة تيسر للسلطة التنفيذية خرق ضمانات المحاكمة العادلة للمتهمين، وحقهم الأصيل في المثول أمام القاضي الطبيعي. الأمر الذي ظل يولد من الإشكاليات القانونية الكثير، ويطرح بظلال الشك حول تمتع المصريين بحرياتهم.

هذا التوجه كان يناقض التطور التشريعي المصري ويضرب مبادئه ومنها توفير جملة من الضمانات للمتهم حال محاكمته، أولها مثوله أمام قاض طبيعي مختص، وفق إجراءات منضبطة لجمع الاستدلالات ومشروطة بمعايير لضمان صحة جمعها. وجعل المشرع غايته الوصول الى المرتكب الفعلي للجريمة، مع استخدام الطرق المشروعة في الوصول إلى الدليل الذى يمكن القاضي من بناء قناعته في الحكم فيما بين يديه من وقائع سواء انتهى إلى الادانة أو أظهر البراءة. كذلك طور المشرع ضمانة التقاضي على درجتين.

 وقد دفع فصيل سلطوي التشريع ليفتأت على هذه الضمانات في صورة مواد تخص ما سمي بجريمة الإرهاب دفع بها إلى متن قانون العقوبات، مما فصل استثناء لنوع معين من جرائم كان قانون العقوبات يغطيها بأحكامه ولا يغفلها. وابتدعت اجراءات استثنائية للتحقيق فيها، وسمح بأن ينظرها غير القاضي الطبيعي، استنادا لنصوص غائمة وفضفاضة، الأمر الذي يفتح الباب أمام سلطة مطلقة للعدوان على حق الإنسان في المحاكمة العادلة، ويهدر الضمانات الإجرائية بدء من الضبط، مرورا بالتحقيقات ووصولا  إلى المحاكمة.

 فى مفتتح باب "الجنايات والجنح المضرة بالحكومة من جهة الداخل" من قانون العقوبات عرف المشرع المصري الإرهاب بأنه:

(كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع، يلجأ إليه الجاني تنفيذا لمشروع إجرامي فردى أو جماعي، بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، إذا كان من شأن ذلك إيذاء الأشخاص أو إلقاء الرعب بينهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو أمنهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالأملاك العامة أو الخاصة أو احتلالها أو الاستيلاء عليها أو منع أو عرقلة ممارسة السلطات العامة أو دور العبادة أو معاهد العلم لأعمالها أو تعطيل الدستور أو القوانين أو اللوائح.)

وكما هو واضح من النص، ثمة مساواة بين أعمال القوة والعنف والتهديد والترويع رغم استقلال كل واحدة من هذه الأفعال المجرمة عن الأخريات، وليست أثار كل منها متساوية مع الأخرى.  ولا يمكن تصور أن حدوث أي منها يدرج الفعل المجرم ضمن نطاق جرائم الإرهاب. فمثلا  الترويع وإثارة الرهبة لا يحدثان بذاتهما، بل هما رد فعل شعوري وإدراكي ينشأ عن استخدام للقوة والعنف أو التهديد بهما بصورة جسيمة. ضخم النص كذلك من نطاق التجريم، وجعل مفهوم الجريمة الإرهابية يشمل قائمة مطولة من الأفعال، بما يشير لعسف مقصود، يضعنا أمام مساحة واسعة لانفلات التفسيرات وتطويع التصوير للأفعال التي يتهم بها الناس لتقع ضمن نطاق الجريمة الإرهابية.

ولننظر كذلك كيف افتقد نص التعريف لفن الصياغة التشريعية؛ فمثلا عبارة "الإخلال بالنظام العام تتجاهل حقيقة أنه ليس كل إخلال بالنظام العام يرتقى لمرتبة الإرهاب، وكيف مع هذه الحقيقة نرتب على فعل جعله القانون عند مستوى أدنى من التجريم، مستوى بالغ الشدة من العقاب. ومثال آخر في عبارة "إلحاق الضرر بالبيئة"، فهي عبارة بالغة الاتساع والغموض، كان من الواجب على المشرع لجمها بسرد صور الإضرار المجرمة، ومستوياتها التي تجعل منها إرهابا يستوجب تشديد العقاب .

أما الفقرة الأولى من المادة 86 مكرر الخاصة بتجريم إنشاء أو تأسيس أو تنظيم أو إدارة كيان تنظيمي على خلاف أحكام القانون أو تولى قيادة فيه أو إمداده بالمعونات، فنجد أنها تصورت سلوكا اجراميا يتمثل في إنشاء أو تأسيس أو تنظيم أو إدارة كيان تنظيمي على خلاف أحكام القانون، وهو وصف يتسع بحيث يمكن أن نضم إليه أي كيان أقيم على نحو غير مشروع، وربما لا نتهكم لو تخيلنا إحالة ثلاثة أفراد تجمعهم رؤية فكرية واحدة وقاموا بتنظيم أنفسهم وفق برنامج عمل ولائحة للمحاكمة بتهمة الإرهاب.

أما الفقرة الثالثة من المادة ذاتها والتي تخص جرائم الترويج لأغراض الكيانات التنظيمية المخالفة لأحكام القانون نجد النص وقد اشترط لإخضاع الشخص للعقاب قيامه بتوزيع المنشورات بالفعل أو إطلاع الآخرين عليها، أو حيازته الوسائل هذه. وعدد من بين صور السلوك الإجرامي المجرمة أيضا حيازة أو إحراز أية وسيلة من وسائل الطبع أو التسجيل أو العلانية، استعملت أو أعدت للاستعمال لطبع أو تسجيل أو إذاعة شئ. وهو ما قد ينسحب على حرية التعبير بسبب هذا الاتساع غير المبرر، ويمهد لإجراء محاكمات الكلام وتجريم الرأي دون فعل تحريضي مرتبط بجريمة.

ومن المسائل المثيرة للدهشة في هذا الباب، أنه قد سمح بتوقيع عقوبة على من يقوم بالاشتراك في جريمة لم ترتكب ! . فقد قررت المادة (95) سريان أحكام المواد المتعلقة بالاتفاق الجنائي والمساعدة والدعوة إلى الانضمام المنصوص عليها في المواد "82،95،96،97" من القانون على الجرائم المنصوص عليها في الفصل الأول من الباب الثاني من قانون العقوبات. وهي مواد تقر توقيع العقوبة على صور الاشتراك المختلفة، حتى وإن لم يترتب عليها ارتكاب جريمة. وذلك خروج على القواعد العامة في الاشتراك. وقد ذكرت المذكرة الإيضاحية تبريرا ضعيفا لذلك وهو انطواء هذه الأفعال على خطورة كبيرة.

من بين المسائل المثيرة للتساؤل أن قيد نص المادة (88 مكرر ج ) سلطة القضاة في الرأفة تطبيقا لنص المادة 17 من قانون العقوبات، بمنعها من تطبيق هذه المادة في الجرائم المستحدثة، إلا حيث ينص على عقوبة الإعدام، فعندئذ يجوز النزول بهذه العقوبة الجسيمة درجة واحدة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.والنزول بالأشغال الشاقة المؤبدة الى الاشغال الشاقة المؤقتة التي لا تقل عن 10 سنوات.

كذلك قرر المادة (98) استثناء من أحكام المادة الثالثة من القرار بقانون 205 لسنة 1990 في شأن سرية الحسابات بالبنوك، يسمح بمقتضاه للنائب العام أو من يفوضه من المحامين العامين أن يأمر مباشرة بالاطلاع أو الحصول على البيانات الخاصة بالحسابات أو الودائع أو الأمانات أو الخزائن المنصوص عليها في المادتين الأولى والثالثة من القرار بقانون المشار إلية ،أو في المعاملات المتعلقة بها إذا اقتضى ذلك كشف الحقيقة في إحدى جرائم الفصل الأول من الباب الثاني من الكتاب الثاني من قانون العقوبات.

كما قرر سريان أحكام المادة (98 هـ) على الجرائم المنصوص عليها في الفصل المشار إليه، وهى التي تقرر - إلى جانب العقوبة الأصلية – توقيع عقوبة حل الجمعية أو الهيئة أو المنظمة أو الجماعة أو فروعها، وكذلك إغلاق أمكنتها ومصادرة الأموال والأمتعة والأدوات والأوراق وغيرها مما يكون قد استعمل في ارتكاب الجريمة أو أعد لاستعماله فيها، أو يكون موجودا في الأمكنة المخصصة لاجتماع الأعضاء، ومصادرة كل مال يكون متحصلا من الجريمة... إلخ.  وهذه العقوبات من الحل والإغلاق والمصادرة هي عقوبات تكميلية وجوبيه. ظلت الأنظمة المتعاقبة تلجأ إليها كلما ألحت عليها الرغبة في التخلص من الخصوم السياسيين، وجماعات الضغط الناشطة، بغية ترسيخ استبدادها  .

ودعما لهذه المواد تم استحداث تعديلات على قانون الإجراءات الجنائية أدت إلى توسيع سلطات مأمور الضبط، وبشكل يخاف معه الافتئات على حريات الناس. فقد أجاز المشرع لمأموري الضبط القضائي إذا توافرت لديهم دلائل كافية على اتهام شخص بارتكاب إحدى هذه الجرائم أن يتخذ إجراءات سماها المشرع بإجراءات تحفظية، وأجاز له كذلك أن يطلب من النيابة خلال 72 ساعة على الأكثر أن يأذن له بالقبض على المتهم، وأتاح له أن يستمع لأقوال المتهم المضبوط خلافا للأصل العام بان استجواب المتهم من اختصاص النيابة.

كما جرى كذلك توسيع غير مبرر لسلطات النيابة العامة في خلال التحقيق في الجرائم المشار إليها – فضلا عن اختصاصها الذي يشمل اختصاصات قاضى التحقيق- بإضافة سلطة محكمة الجنح المستأنفة المنعقدة في غرفة المشورة فيما يتعلق بالحبس الاحتياطي. كان الأصل أن سلطة النيابة العامة في تقرير الحبس الاحتياطي محددة بحد اقصى أربعة أيام، على أن يكون المد بمعرفة قاضى دوائر الجنح لخمسة عشر يوما، وبحد اقصى جملته 45 يوم، لتنتقل تلك السلطة لمحكمة الاستئناف المنعقدة في غرفة المشورة حيث يحق لها تجديد الحبس احتياطيا لمدة 45 يوم وبحد اقصى ثلاثة أشهر في الجنح وخمسة في الجنايات

 

وخلاصة الأمر أن هذا التوسع في تعريف جريمة الإرهاب، وعدم تحديد نطاق عمل النصوص العقابية المفروضة في القانون المصري ضد كل من يرتكب اعمال ارهاب من الداخل ناهيك عن الباب المختص بجرائم الارهاب من الخارج  يطلق ببساطة أيدى أي نظام حاكم في اقصاء خصومه السياسيين تحت دعاوي الارهاب، والأسوأ انه لا ضمانة هناك على الاطلاق ان تحقق غرضها المعلن وهو مواجهة مثل تلك الظاهرة عن طريق مؤسسات القانون. وهو الأمر الذي يضيف لتغول السلطة بإصدار قرارات سياسية بإعلان جماعات وأشخاص كإرهابيين، افتئاتا على سلطة القضاء الأصيلة في هذا الشأن..