الصناديق الخاصة والحق الذى يراد به باطل
ثار جدل عاصف حول وضعية ما يسمى بالصناديق والحسابات الخاصة فى البرلمان خلال الشهرين الماضيين. وطالب العديد من البرلمانيين - خاصة من المنتمين للأغلبية الإخوانية - بإلغاء الصناديق الخاصة وضمها للموازنة العامة للدولة باعتبارها موارد مهدرة وعرضة للفساد والنهب. وجرى كلام عن إمكانية استخدام الأموال الموجودة فى الصناديق والحسابات الخاصة - وقد قدرها المركزى للمحاسبات بنحو 47 مليار جنيه - لسد العجز وزيادة الإيرادات الحكومية فى وقت تشتد فيه أزمة الدولة المالية. فهل الصناديق الخاصة شر مطلق؟ وهل دعاوى إلغائها وضمها لإيرادات الدولة خير أم حق يراد به باطل فى السياق السياسى الحالى؟
الحق إن الصناديق والحسابات الخاصة تحوم حولها شبهات بعدم الدستورية لأنها تخل بمبادئ مقررة من وحدة الموازنة العامة فلا يجوز أن يكون للدولة إيرادات ونفقات لا ترد تفصيلا فى وثيقة الموازنة. ولا يجوز دستوريا أن تمول الصناديق الخاصة من ضرائب - خاصة محلية - دون تشريع يصدر من مجلس الشعب لأنه لا ضريبة بلا قانون، ولا يجوز بحال أن يكون جزء من أموال الدولة العامة فى الصناديق والحسابات الخاصة بعيدا عن رقابة البرلمان بحيث تنشأ الصناديق بقرار من رئيس الجمهورى أو من يفوضه بالسلطة التنفيذية، وغالبها طبقا لتقرير المركزى للمحاسبات لا يخضع للجنة اللوائح بوزارة المالية وذلك بالمخالفة للقانون. علاوة على ما رصده الجهاز المركزى من مخالفات وممارسات فاسدة فى هذه الصناديق والحسابات الخاصة ناشئة بالأساس نتيجة غياب الرقابة والشفافية. ومن ثم فإن حصر الصناديق الخاصة عددا ومعرفة الأرصدة الموجودة بها ضرورة من أجل إقرار مبادئ وحدة الموازنة والشفافية والمحاسبة وإحكام الرقابة البرلمانية. ولابد من تعديلات على الإطار التشريعى تقيد من قدرة السلطة التنفيذية على إنشاء الصناديق كما يحلو لها وبالمخالفة للقانون الذى ينص على قصر إنشاء الصناديق على حالة الضرورة فحسب.
بيد أنه ينبغى الأخذ فى الاعتبار وبعناية وتأن السياق الذى نشأت فيه الصناديق الخاصة والوظائف التى اسندت إليها. فعلى الرغم من وجود مواد تبيح إنشاء الصناديق الخاصة فى قانون الموازنة العامة رقم 53 لسنة 1973 إلا أن التوسع الكبير فى إنشاء الصناديق الخاصة أتى فى التسعينيات، وخاصة فى أعقاب تبنى برنامج التحول الاقتصادى وما أدى إليه من خفض فى الإنفاق الحكومى بغية تخفيض العجز فى الموازنة العامة. وفى هذا الإطار تم التعويض عن تراجع الإيرادات الحكومية بإنشاء صناديق خاصة تعمل على تحقيق إيرادات لمؤسسات وهيئات وأجهزة حكومية، وهو ما تم بنجاح فى كثير من الجامعات والمحافظات التى تضررت من انخفاض التحويلات المركزية. وبالتالى فإن هذه الصناديق على غير دستوريتها ومخالفتها للقوانين واللوائح تلعب دورا وظيفيا فى إدارة الجهاز الحكومى المفكك وضعيف الفاعلية أصلا، وهو ما يستدعى أن يكون التعامل معها حكيما حتى لا يؤدى إلى صدمات تعيق عمل بيروقراطية الدولة. ومن هنا فإن الكلام عن ضم الصناديق للموازنة العامة للدولة واستخدام أموالها لسد العجز فى الموازنة غير سليم لأن يتجاهل أن ثمة التزامات تقع على كاهل الصناديق تتمثل بالأساس فى مشروعات. وجدير بالذكر أن 25% من تمويل المشروعات الاستثمارية على المستوى المحلى يأتى من الصناديق الخاصة.
الصناديق الخاصة إذن ليست صناديق خشبية مليئة بالمرجان والذهب والياقوت الذى يمكن الأخذ منه لسد العجز فى الموازنة. وهى مليئة بالفساد والمخالفات ولكنها تضطلع بوظيفة حيوية لقطاعات مهمة من الجهاز الإدارى الذى عانى من تخفيض الإنفاق العام فى العقدين الماضيين. ويضاف إلى ذلك أن المبالغ الموجودة بها ليست 1.2 تريليون جنيه مصرى بل هى 47 مليار طبقا لتقديرات المركزى للمحاسبات، وما من تقديرات أخرى يمكن الاعتداد بها. إذن لماذا الجدل الذى ثار بالبرلمان حول الصناديق الخاصة كونها كنزا مدفونا يكفى لانتشال مصر من قاع الفقر؟ ولماذا المبالغات التى لا تستند لأساس كالخلط بين الصناديق الخاصة والموقف المالى للدولة - ومن هنا أتى مبلغ 1.2 تريليون - واتهام الوزراء بالاستيلاء على أموال الصناديق الخاصة ثم الاعتذار عن الاتهام غير المدلل عليه؟
يبدو أن الأغلبية البرلمانية تستخدم مسألة الصناديق الخاصة فى إطار خطاب شعبوى يقول بأن المشكلة الرئيسية فى عهد مبارك كانت الفساد. ومما لا شك فيه أن الفساد كان عنصرا مهما فى تبرير التدهور الاقتصادى وتفسخ الدولة إلا أنه بالتأكيد ليس العنصر الأهم ولا الوحيد وثمة مشكلات هيكلية تواجهها مصر تستوجب تغييرات فى المؤسسات والسياسات العامة بما لا علاقة مباشرة له بالفساد. على سبيل المثال إعادة توجيه أموال الدعم من دعم السلع - وخاصة المنتجات البترولية - إلى الاستثمار فى التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية تحد يواجه مصر منذ السبعينيات، ولا علاقة له بالفساد. ورفع تنافسية الصناعة المصرية وإعادة هيكلة الصادرات كى تزيد نسبة السلع المصنعة منها تحد آخر غير مرتبط بشكل مباشر بالفساد.
ومن هنا فإن اختزال أمراض البلاد فى عهد مبارك فى مقولة الفساد فحسب يعنى أنه لم يكن ثمة إشكال يذكر مع السياسات ذاتها، وأن ما عابها كان التطبيق فحسب. وهو ما يلقى هوى محافظا لدى الأغلبية الإخوانية التى لا تملك رؤية شاملة لإعادة رسم السياسات الاقتصادية، وترى أن المستقبل سيكون الاستمرار بسياسات «مبارك ناقص الفساد». وهو موقف لا يستجيب للمشكلات الهيكلية والبنيوية للاقتصاد والمجتمع المصريين، والتى تتجاوز الفساد فقط إلى مسائل أخرى على رأسها سياسات التحرير الاقتصادى على النحو الذى بشر به صندوق النقد والبنك الدوليين (واللذين عادا للصورة مرة أخرى بعد الثورة).
بل إن الحديث عن الصناديق الخاصة باعتبارها حلا للعجز ولأزمة إيرادات الدولة يتجاهل المشكلة الرئيسية لماليات الدولة فى مصر، والمتمثلة فى ضعف الإيرادات الضريبية المباشرة، والحاجة لفرض ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح الصناعية والتجارية. وهى مسألة شائكة ولا تنسجم مع المتعاطفين مع دوائر الاستثمار ورجال الأعمال، وهنا يكون الخطاب الشعبوى حول وجود كنز مدفون يكفى لسد العجز وزيادة الإيرادات دون إعادة هيكلة الضرائب مخرجا مناسبا لتوظيف «مكافحة الفساد» لصالح خطاب محافظ معاد فى جوهره للفقراء.
* نشر هذا المقال في جريدة الشروق 3 يونيو 2012.