ويبقى الفساد.. مرسوم العسكرى بإجازة التصالح فى الجرائم المالية
هل تعلم أن بإمكان المهندس أحمد عز ــ المسجون حاليا والمحبوس على ذمة قضايا فساد أخرى ــ التصالح مع الحكومة وإسقاط التهم الموجهة إليه حتى ولو صدر فى حقه حكم غير نهائى؟ هذا الكلام صحيح بالفعل، وينطبق على كل رجال الأعمال المتهمين بالفساد أو التربح أو إهدار المال العام والعدوان عليه طبقا للمرسوم بقانون رقم 4، والذى صدر فى 3 يناير 2012 قبيل انعقاد البرلمان بأسابيع قليلة، وتضمن القانون إضافة مادتين إلى قانون ضمانات وحوافز الاستثمار (رقم 8 لسنة 1997) بما يجيز التصالح مع المستثمرين فى الجرائم المالية وينظم إجراءات ذلك قانونيا وإداريا. وقد مر المرسوم مرور الكرام فلم يسترع انتباه مجلس الشعب عقب انعقاده رغم خطورة آثاره على ملفات جوهرية كاسترداد الأموال المنهوبة وتفكيك شبكات الفساد ووقف ممارسات إهدار المال العام علاوة على قضايا تمس الخصخصة وتوزيع الأراضى المملوكة للدولة فى عهد النظام السابق، وكلها فى قلب المطالب السياسية والاجتماعية للثورة.
تنص التعديلات المذكورة على جواز التصالح مع المستثمر فى الجرائم المنصوص عليها فى المواد من 112 إلى 119 من قانون العقوبات فى أى مرحلة من مراحل المحاكمة ما لم يصدر بحقه حكم نهائى بات، وهو ما يعنى إمكانية التصالح مع مستثمر قيد المحاكمة أو حتى المدان بحكم غير نهائى! مما يعد إهدارا صريحا لسيادة القانون خاصة إذا ما علمنا أن العقوبات المشار إليها غاية فى الخطورة وتشمل الاختلاس والاستيلاء على الأموال بغير حق وتسهيل ذلك للغير والتربح واستغلال النفوذ والإضرار بالمال العام والإهمال فى صيانته أو استخدامه. فهل يجوز أن يطلق المرسوم بقانون التصالح على جميع الجرائم المالية المشار إليها؟ وهل يمكن التصالح على قضايا كالرشوة والاستيلاء على المال العام بغير حق والإضرار بالمال العام؟ وما هو المنطق أو المبرر وراء التصالح مع مستثمر مدان أو تتم محاكمته بمثل هذه الجرائم وما هو النفع المنتظر أن يحصل عليه الاقتصاد المصرى من وراء مثل هذا التصالح؟.
ومما يزيد الطين بلة أنه فى هذه القضايا عادة ما يكون أحد المتهمين موظفا عاما، سواء كان فاعلا أصليا أو شريكا، إلى جانب المستثمر، غير أن المرسوم الصادر من المجلس العسكرى جاء بوضع تمييزى غير دستورى لأحد المتهمين دون الآخرين، حيث أتاح وأباح للمستثمر فرصة التصالح دون إتاحة ذلك للموظف العام على نحو يخل بمبدأ تكافؤ الفرص، وهو ما يجعل المرسوم مشوبا بعدم الدستورية فمن غير المتصور لا قانونا ولا منطقا ولا أخلاقا أن تتم محاسبة الموظف العام فى حين يتم التصالح مع المستثمر فى ذات الجريمة.
كما اشترطت التعديلات رد المستثمر جميع الأموال أو المنقولات أو الأراضى محل الجريمة للدولة أو ما يعادل قيمتها السوقية وقت ارتكاب الجريمة وليس وقت التصالح! وكأن المرسوم يكافئ المجرم على جريمته مرتين: حين يفلت من العقاب، وحين لا يتحمل عند الرد سوى التكلفة التى سبق وأن دفعها فى تاريخ التعاقد، ودون النظر لفروق الأسعار ولا لاحتمال استغلاله واستنفاعه بالمال العام محل الجريمة. بل ودون النظر للقيمة التى فقدها الاقتصاد الكلى والمجتمع عامة جراء جريمة المال العام هذه!.
ويسند القانون مهمة التفاوض والتصالح مع المستثمرين للهيئة العامة للاستثمار، وهو إسناد ينطوى على قدر كبير من تعارض المصالح، حيث يسند التصالح إلى جهة مختصة بالترويج للاستثمار لا الرقابة عليه. ومن المنطقى أن تكون مصلحة الهيئة العامة للاستثمار ـ شأنها فى ذلك شأن جميع الجهات الترويجية دوما فى التساهل مع المستثمرين، لأن مهمتها أصلا هى جذب الاستثمار وزيادته. بينما كان من الأحرى أن يسند القانون مسألة التصالح برمتها لجهة رقابية من حيث الاختصاص.
تنص التعديلات كذلك على أن قرارات اللجنة ملزمة وواجبة التنفيذ، وهو ما مؤداه خروج تصرفات السلطة التنفيذية عن الرقابة القضائية، وليس بخاف أن الغرض من التصالح مع المستثمرين المتورطين فى جرائم مالية، أو حتى المدانين الذين لم يصدر فى حقهم أحكام نهائية باتة، هو إسراع السلطة التنفيذية بمحاولة تعديل العقود المبرمة فى عهد النظام السابق، والتى تعانى فى الأغلب عوارا قانونيا وعدوانا على المال العام وانعداما للتوازن فى شروط العقد لصالح المستثمر، وذلك استباقا لتدخل القضاء. وهذا أمر غاية فى الخطورة لأنه يعنى ببساطة تعديل شروط العقود مع الإبقاء على مصالح المستثمرين دون تغيير يذكر، ومن ثم فهذا التعديل يهدف لمأسسة وتثبيت ما حدث فى حالات عدة من تدارك لأحكام بطلان القرارات وفسخ العقود من قبل القضاء الإدارى بإعادة الوضع كما هو عليه بشكل أو بآخر.
وقد حدث ذلك كثيرا قبل وبعد الثورة، فبعدما صدر حكم مجلس الدولة ببطلان عقد تخصيص أرض مدينتى لمجموعة طلعت مصطفى على أساس أن تخصيص الأرض أتى بالأمر المباشر بالمخالفة لقانون المزايدات والمناقصات، عادت الحكومة ووقعت عقدا جديدا، بشروط مختلفة، مع ذات الشركة باعتبارها حالة ضرورة لما ترتب على تخصيص الأرض من آثار اجتماعية واقتصادية ومراكز قانونية. وتكرر الأمر بعد الثورة فى أرض الوليد بن طلال بتوشكى، حيث صدر حكم مجلس الدولة كذلك بفسخ العقد لاحتوائه على شروط مجحفة لصالح المستثمر الأجنبى، ثم عادت الحكومة وأعادت تخصيص الأراضى له مراعاة لظروف سياسية غير واضحة. وثمة قضايا إدارية كقضية عمر أفندى انتهى حكم القضاء فيها بالنص صراحة على اعتبار حيثيات الحكم بمثابة بلاغ للنائب العام للتحقيق فى جرائم العدوان على المال العام والتربح والفساد.
كان هذا فى قضايا إدارية نظرت أمام مجلس الدولة، ولكنه كاشف عن النوايا الحقيقية للحكومة الحالية فى صيانة مصالح المستثمرين حتى ولو كانت على حساب المال العام وبالمخالفة للقانون. والسؤال هنا هل يمكن التصالح مع أحمد عز فى جرائمه المالية وعدوانه على المال العام مثلا؟ ألا تتجاوز جرائم العدوان على المال العام مجرد الرد العينى أو النقدى لما تم الاستيلاء عليه بالمخالفة للقانون إلى البنية الاقتصادية والسياسية التى كان يتم من خلالها توزيع الموارد العامة لصالح ثلة محدودة من المنتفعين؟ ألا يوجب هذا بالضرورة إنفاذ القانون وعقاب المفسدين لا الاكتفاء فحسب برد ما استولوا عليه؟.
إن رد الأمر برمته للسلطة التنفيذية خاصة الحالية غير المنتخبة والتى لا تملك تفويضا شعبيا، والمشوبة بالولاء للمصالح القائمة وللنظام السابق هو إيجاد إطار قانونى ومؤسسى لاحتواء أثر تدخل القضاء والقانون فى النظر فى العقود المعيبة وغير المتوازنة التى تم إبرامها إبان حكم مبارك، وهو ما يصب فى ذات الاتجاه المذكور من التفاف على مطالب الثورة، وصيانة للمصالح الكبيرة كما بأقل الخسائر الممكنة جراء التغير السياسى بعد الثورة. فالسعى الحثيث لتمرير هذه التعديلات قبيل أيام قليلة من انعقاد البرلمان هو محاولة يائسة للدفاع عن شبكات الفساد والمصالح الموروثة من عصر مبارك، والتى لم تسقط بسقوطه. ومن ثم فإن الحل الأمثل المنتظر من نواب الشعب هو أن يعيد البرلمان دراسة جميع المراسيم الصادرة عن المجلس العسكرى، وأن يقوم بإلغاء المرسوم بقانون رقم 4، مع إعادة النظر فى جميع قوانين الاستثمار حتى تتوافق مع مبادئ الدستور والقانون بما يكفل مكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
* نشر هذا المقال في جريدة الشروق 18 مارس 2012.