فوضى الاقتراض الخارجى.. التمويل العقارى نموذجًا
فى 12/12/2009 وقعت الحكومة المصرية قرضا مع البنك الدولى بواقع 300 مليون دولار لدعم برنامج التمويل العقارى الاجتماعى، والقرض هو ثانى أكبر قرض فى محفظة البنك العاملة بمصر، وكان المخطط هو صرف المبلغ على ثلاث شرائح سنوية بمبلغ 100 مليون دولار لكل شريحة على أن يكون المستفيد هو صندوق ضمان ودعم التمويل العقارى التابع لوزارة الإسكان، وطبقا لأوراق البنك الدولى فإن الهدف من القرض هو توفير رأس المال الكافى لدعم صغار المقترضين الذين يتقدمون للحصول على قروض للتمويل العقارى بحيث يتم تخفيض معدل الفائدة حال إثبات وقوعهم ضمن شرائح الدخل المستحقة للدعم. هذا بالطبع إلى جانب تقديم الصندوق لضمانات ضد الإخلاء من الوحدات السكنية حال تعثر المقترضين فى السداد. وهكذا فقد أضيف للتوسع فى الرهن العقارى من الناحية المالية والاقتصادية بعد اجتماعى يتمثل فى استخدام التمويل العقارى المدعوم كمدخل لحل أزمة الإسكان لمتوسطى الدخل خصيصا، والذين يعانون من عدم القدرة على الحصول على وحدات سكنية دون تقسيط، ومن هنا تم تبنِّى نموذج صندوق الدعم والضمان.
وقد سبق تبنِّى هذا النموذج من قبل فى عدد من البلدان النامية كالمكسيك والبرازيل والمغرب، والتى باتت تعتمد على نماذج قائمة على دعم الطلب بدلا من العرض أى بدعم المستهلك على الوحدات السكنية بدلا من قيام الحكومة ببناء وحدات سكنية وتوزيعها، ويأتى هذا التحول فى كثير من البلدان لأسباب عدة بعضها يتعلق بعدم ملاءمة نوع واحد من الإسكان الحكومى لجميع المتطلبات الاجتماعية والثقافية للجمهور، ومنها ما يتعلق بضعف قدرة مؤسسات الدولة على اختيار المستفيدين مما يؤدى إلى استنزاف الفساد والمحسوبية لتوزيع الوحدات السكنية على حساب المستحقين فعليا للدعم، وبغض النظر عن المسوغات النظرية لتبنى سياسة محل أخرى فإن إنشاء صندوق الدعم للتمويل العقارى قد أتى فى سياق تغير مقاربة الحكومة المصرية لدعم الإسكان. وبالطبع نحن فى حل من مناقشة كل خط سياسى من زاوية سياسات الإسكان فى هذا التعليق المختصر إذ ان هذه مسألة يحسمها خبراء التخطيط العمرانى والحق فى السكن وإنما ينطلق التعليق من اهتمام بمسألة المالية العامة للدولة وبالأخص الاقتراض الخارجى.
ومع تولى الدكتور فتحى البرادعى، محافظ دمياط السابق، حقيبة الإسكان فى الحكومة المؤقتة عادت الوزارة إلى الحديث عن النماذج التقليدية القائمة على تكفل الحكومة بتوفير الوحدات السكنية لمحدودى ومتوسطى الدخل (المادة الأولى من مشروع قانون الإسكان الاجتماعى)، ومن ثم العودة لنماذج قائمة على دعم جانب العرض وليس الطلب. وعمد البرادعى إلى وضع خطط إسكان مستقبلية للسنوات الخمس القادمة لتسكين عشرة ملايين مواطن من خلال بناء مليون وحدة سكنية بل وذهب الوزير إلى الحديث عن «المخطط الإستراتيجى لمصر خلال الأربعين عاما المقبلة، الذى أكد أن تنفيذه يحتاج إلى 3 تريليونات جنيه»! وعلى الرغم من أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يصدر قانون الإسكان الاجتماعى المقدم من وزارة الإسكان ــ فى خطوة موفقة فيما أظن ــ إذ ان التزاما بهذا الشكل ينبغى أن يترك للحكومات المنتخبة نظرا لأنه طويل المدى من ناحية، ويرتب التزامات على خزانة الدولة من ناحية أخرى، وفى صميم السياسات الاجتماعية من ناحية ثالثة. بيد أن خطط الدكتور البرادعى دخلت إلى حيز التنفيذ من خلال الموازنة المزمع كتابتها للسنة المالية القادمة 2012/2013، ففى 14 فبراير 2012 قدمت وزارة التخطيط والتعاون الدولى برئاسة السفيرة فايزة أبوالنجا إلى لجنة الخطة والموازنة تفاصيل خطة موازنة الدولة للعام المالى المقبل، واشتملت على تمويل مشروع الإسكان الاجتماعى بإنشاء مليون وحدة سكنية خلال الخمس سنوات القادمة بتخصيص سبعة مليارات جنيه كبداية. وهكذا تم التخصيص لمبلغ ضخم للغاية رغم أن القانون لم يصدر!
وعودة للقروض الخارجية وتمويل هذا المشروع الضخم فقد أوضحت وزارة التخطيط والتعاون الدولى أن الموازنة الجديدة تتضمن 47.1 مليار جنيه تمويلا للبند السادس من الخطة الاستثمارية (التى تشمل الإسكان) منها 29.9 مليار فقط من الخزانة العامة بينما سيتم توفير باقى المبلغ من القروض الخارجية والمنح والتمويل الذاتى ومشاركة القطاع الخاص فى المشروعات. وبالطبع أتى الاقتراض الخارجى على رأس المصادر المرشحة لتمويل برامج من ضمنها الإسكان الاجتماعى المذكور والخاص بإنشاء مليون وحدة. ويتقاطع ذلك مع ما أوردته الأهرام فى 27/1/2012 بخصوص المفاوضات الجارية مع البنكين الدولى والأفريقى للحصول على مليار دولار منهما معا، وثمة دلائل تشير إلى أن بناء مليون وحدة سكنية ستكون على رأس الأولويات بحكم ضخامة حجم الإنفاق الحكومى على المشروع.
موطن الإشكال هو فوضى الاقتراض الخارجى فى السنة التى تلت الثورة بالأخص، فمن ناحية صدر تغيير جوهرى وجذرى فى سياسات الإسكان بالرجوع إلى سياسات بناء المساكن بل والتوسع فيها بدلا من السياسات التى بمقتضاها تم توقيع القرض مع البنك الدولى فى 2009، وهو أمر قد يكون مبررا بالطبع فى أعقاب ثورة حيث يقرر من يمثل الشعب تغيير نمط السياسات الاجتماعية بما فيها الإسكان، ولكن الإشكال الثانى هو أن هذا التغير فى السياسات لم ينبع من حكومة منتخبة ولا حتى من حكومة الثورة بل من شخص من شخوص النظام القديم محافظ دمياط السابق فتحى البرادعى الذى أصبح وزيرا للإسكان، وتم التغيير الكبير دون عرضه على البرلمان ودون التواصل مع العاملين فى مجال الحق فى السكن وسياسات الإسكان، ويضاف إلى ذلك أن التغيير قد أتى دون مراعاة لما تكبدته الدولة من اقتراض للخارج، ودون مراعاة للبرامج التى تم وضعها والأجهزة التى تم إنشاؤها كصندوق الدعم المذكور، ودون توفيق أوضاعها فى إطار السياسات الجديدة بل تركت كما هى، بل الأدهى والأمر هو أن صندوق الدعم استمر فى تلقى شرائح القرض الموقع مع البنك الدولى بواقع مائة مليون دولار أخرى فى يوليو من 2011! وهو ما يعنى أن وزارة الإسكان ستتولى إدارة سياستين متضاربتين دون التوفيق بينهما رغم ما يكلفه ذلك للخزانة من أموال. ويضاف للمشكلات المذكورة أن مخطط البرادعى للتوسع فى بناء الوحدات السكنية المدعومة من الدولة يتطلب تمويلا ضخما محليا وخارجيا (بما يعنى الاستدانة) وهو مخطط يطول لخمس سنوات على نحو غير مفهوم وغير مقبول حيث إنه ينبع من حكومة مؤقتة لا يجوز لها أن تربط الحكومات المنتخبة فيما بعد بالتزامات تتخذها هى كما أن الحكومة المؤقتة مفتقدة لأى شرعية ولا تملك تفويضا شعبيا من أى نوع.
وعلاوة على ما سبق فإن دور وزارة التعاون الدولى لا يقل غرابة وخاصة مع استمرار الوزيرة فايزة أبوالنجا فى موقعها حيث إن القرض بمبلغ 300 مليون دولار قد تم توقيعه برعايتها فى 2009 لتمويل صندوق الدعم والضمان العقارى، وها هى قد عادت فى 2011 تتحدث عن قروض أخرى لتمويل برنامج وزير الإسكان لبناء وحدات سكنية بشكل مباشر دون الالتفات لما اقترضته الدولة بالفعل، ودون محاولة إعادة التفاوض حتى لإعادة تحويل المبالغ للبرنامج الجديد أو لإلغاء القرض باعتباره يتناقض وسياسات ما بعد الثورة ــ إن صدق عليها أن تكون سياسات ما بعد الثورة بحق.
* نشر هذا المقال في جريدة الشروق 22 فبراير 2012.