متى تتوقف الحكومة عن دعم رجال الأعمال على حساب الفقراء؟

11 نوفمبر 2011

بلغ الدعم الحكومى على مختلف أنواعه حوالى ربع الإنفاق العام فى موازنة حكومة شرف. وكان أكبر عنصرى دعم هما دعم الطاقة (72%) والسلع التموينية (19%). وخرج علينا مسئولون يقولون كالعادة بأن عبء الدعم الضخم هذا إنما يرجع لحرص الحكومة على محدودى الدخل والفقراء، وهو كلام لا يختلف كثيرا عن كلام يوسف بطرس غالى من قبل تماما كما لم تختلف الموازنة الحالية عن موازناته السابقة قبل سقوط النظام. فهل يذهب الدعم ــ الذى يتحمل تكلفته المواطنون دافعو الضرائب ــ حقيقة لمحدودى الدخل والفقراء؟ وإن كان لا يذهب لمستحقيه فأين ينتهى حقا؟.

انتزع دعم الطاقة نصيب الأسد من الدعم الحكومى حيث بلغت نسبته وحده حوالى 19 % من الإنفاق الحكومى العام أى الخمس تقريبا، فمن يستفيد من هذا الدعم الموجه للطاقة؟ يذهب الجزء الأكبر من الدعم لقطاعات إنتاجية فى صورة دعم الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة كالأسمنت والحديد والألومنيوم والأسمدة والزجاج، وكذلك فى صورة دعم النقل حيث يمثل دعم المنتجات البترولية شكلا من الدعم غير المباشر للمنتجين. ويقدر بعض الاقتصاديين نصيب الصناعة من دعم البترول فى قطاع النقل بما يزيد على 45 % (على سبيل المثال يبلغ نصيب الصناعة من استهلاك السولار 81.5%). ويقدر نصيب الصناعة من دعم الطاقة شاملة البترول والغاز والكهرباء بما بين 20 و25 % من الإجمالى فى 2005 /2006.

وقد شهد شاهد من أهلها بتقدير رئيس هيئة التنمية الصناعية السابق عمر عسل فى 2007 نصيب أربعين مصنعا عاملا فى قطاعات الأسمنت وحديد التسليح والأسمدة الأزوتية والألمونيوم والبتروكيماويات بـ75 % من الغاز الطبيعى المدعوم للقطاع الصناعى، وبـ65 % من الكهرباء، وبمتوسط إجمالى 65 % من الطاقة المدعومة والتى يستهلكها القطاع الصناعى (أى ما يناهز 6.79 مليار جنيه نالتها هذه المصانع حينها!). وهو ما يدل على تركز شديد للغاية فى تخصيص الدعم لصالح عدد محدود من المصانع بحكم الطبيعة كثيفة رأس المال لهذه القطاعات، كما تكشف هذه الأرقام عن التمييز ضد الصناعات كثيفة العمالة كالغزل والنسيج والملابس الجاهزة رغم أنها تضطلع بالجزء الأكبر من توفير فرص العمل، وهو ما يلقى بظلال من الشك حول فعالية هيكل الدعم الصناعى والعائد المتحقق منه على الاقتصاد الكلى.
 
●●●

والمشكلة الحقيقية هى أن هذا الدعم الحكومى الذى تتحمله خزانة دولة نامية كمصر يترجم بالأساس لأرباح مرتفعة لهذه الصناعات كثيفة رأس المال، وإلى توسع فى التصدير للخارج على نحو يستفيد من فارق أسعار الطاقة المحلية والعالمية خاصة بعد الارتفاع الكبير لأسعار النفط العالمية فى 2006. ويرجع تضخم دعم الطاقة على النحو المذكور إلى سياسات حكومة نظيف، والتى اعتمدت على برامج دعم الطاقة لجذب الاستثمارات الأجنبية والتوسع فى التصدير كما يبدو بوضوح فى حالة قطاع الأسمنت، والذى يمثل حالة فجة لذهاب الدعم الحكومى لكبار المنتجين بالقطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة وكثيفة رأس المال التى يغلب عليها رأس المال الأجنبى مع حرمان المستهلكين من العائد من الدعم الذى يتحملونه فى صورة الإنفاق العام بسبب ضعف مؤسسات الدولة القادرة على مكافحة الممارسات الاحتكارية لهذه القطاعات. يظهر من حالة الأسمنت أن الدعم الحكومى لم يؤد إلى انخفاض أسعار هذه السلع فى السوق المحلية نتيجة للممارسات الاحتكارية التى شابت سياسات الشركات العاملة به، والناتجة عن هيمنة عدد محدود من الشركات العملاقة على الإنتاج والتوزيع. ومن ثم لم يستفد المستهلك المحلى كثيرا من دعم الطاقة لهذه الصناعات رغم فداحة العبء الذى تتحمله خزانة الدولة بحيث ارتفع متوسط سعر طن الأسمنت من 156 جنيها فى 2002 إلى 305 جنيهات فى 2006 بنسبة قدرها 96 %، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه الزيادة المطردة من عام لآخر لم تكن سلوكا فرديا وإنما على مستوى كافة الشركات، وذلك على الرغم من الزيادة فى الطاقة الإنتاجية المتاحة، والإنتاج الفعلى للشركات طبقا لتقرير جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار. ويخلص التقرير إلى أن الزيادة السنوية فى متوسط أسعار الأسمنت لم تكن تتناسب مع متوسط الزيادة فى التكلفة فبينما ارتفعت الأسعار بمعدل 18.5 % سنويا بين 2002 و2006 نجد أن تكلفة الإنتاج قد ارتفعت بنسبة 8.5 % فحسب بل إنه فى 2006 انخفضت تكلفة الإنتاج بنسبة 3 % ومع ذلك ارتفع السعر بمعدل 14 %!.

ومما يزيد من عبثية دعم الطاقة أن كثيرا من الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وخاصة الأسمنت، ستحتفظ بهوامش ربح مرتفعة نسبيا حتى فى حالة رفع الدعم عنها. فتفيد دراسة اقتصادية صدرت فى 2008 إنه فى حالة زيادة أسعار البترول بمقدار 100 % وأسعار الكهرباء بمقدار 25% فإن ذلك لن يضير بشكل جدى بفرص قطاعى الأسمنت والأسمدة فى تحقيق أرباح فى السوق المحلية أو فى التصدير للخارج. ويتفق ذلك مع تقديرات دراسة أخرى ذهبت إلى أن مضاعفة سعر الطاقة المحلى ليصل إلى العالمى سيؤدى إلى خفض هامش الربح فى صناعة الأسمدة إلى 21.5 % مقارنة بـ 2 % لشركات الأسمدة فى بريطانيا على سبيل المثال، وكذلك الحال مع الأسمنت التى تحقق هوامش ربح 40 %، وفى حال مضاعفة سعر الطاقة فسيكون الهامش 29 %. وفى كلتى الحالتين فإن هوامش الربح للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة فى الشرق الأوسط أعلى من أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو ما يعتبر مصدر مرونة لهذه الصناعات كى تتكيف مع تخفيض دعم الطاقة، ويؤخذ فى الاعتبار أن أسعار مدخلات الإنتاج الأخرى فى مصر أكثر انخفاضا من نظيراتها العالمية ففى حالة الأسمنت يحصل المنتجون على الطفلة، وهى خامة رئيسية لازمة لإنتاج الأسمنت، بأسعار دون العالمية، وينطبق الأمر نفسه على أجور العاملين.

كيف سيتأثر الفقراء من إلغاء دعم الطاقة أو تخفيضه؟ يقدر البنك الدولى أن إلغاء كافة أشكال الدعم للمنتجات البترولية والغاز الطبيعى من شأنه أن يؤثر على الفقراء بشكل محدود عن طريق زيادة معدل حدوث الفقر 0.15 % فحسب أى أقل من 1%، ويقدر كذلك أن إلغاء كافة أشكال الدعم للمنتجات البترولية المسالة من شأنه أن يرفع معدل حدوث الفقر بنسبة 4.4 %، وهو ما يدل على أن دعم الطاقة لا يستهدف الفئات الأشد فقرا. وذلك لأن المستفيدين من دعم الطاقة عادة ما يكونون من الشرائح الأفضل حالا اقتصاديا باعتبار أن استهلاك الفقراء من الطاقة منخفضا فى الأصل نظرا لانخفاض دخلهم، والعكس بالعكس، ومن هنا فإن الاستمرار فى دعم جميع القطاعات دون استهداف محدد هو أمر يميز ضد الفقراء، ويقلل من العائد الاجتماعى من نفقات الدعم بل ويعمق من التهميش الاقتصادى والاجتماعى بحيث تخصص موارد الدولة لصالح الفئات الأفضل حالا، وهو ما قد يتبدى بوضوح فى الدعم المتحقق للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة وغيرها من القطاعات الهادفة للربح على نحو يعنى أن موارد الدولة المتاحة لا تخصص بشكل يهدف للوفاء بالحقوق الأساسية الاقتصادية والاجتماعية لغالبية السكان.

●●●

ورغم نجاح ثورة يناير 2011 فى إزالة النظام السياسى الحاكم، ومن ثم تقويض العديد من شبكات المصالح ومراكز القوة التى كانت تستثمر فى إبقاء الوضع دون تغيير إلا أن الموازنة الأخيرة 2011 /2012، والتى أعدتها الحكومة الانتقالية، واعتمدها المجلس العسكرى القائم بالسلطة الفعلية كانت بمثابة امتداد واضح المعالم لسياسات حكومة نظيف دون أدنى تغيير يذكر فى شق الإنفاق الاجتماعى والاقتصادى مع استمرار دعم الطاقة كما هو دون إعادة هيكلة، ويكفى القول أن المبالغ المخصصة لدعم الطاقة فى موازنة 2011 /2012 تناهز 6.31 % من الناتج المحلى الإجمالى و19.27 % من الإنفاق العام، وتساوى 182 % من الإنفاق على التعليم، و407 % من الإنفاق على الصحة!.

فما العمل إذن؟ هناك الكثير مما يمكن إنجازه لإصلاح إشكالات دعم الطاقة فى مصر وانعكاساتها على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للغالبية من المواطنين، ولعل الهدف الأسمى هو إعادة هيكلة الدعم الحكومى بحيث يكون أكثر استهدافا للفئات الفقيرة خاصة الأحياء والمحافظات المهمشة، والمرأة والطفل، وإعادة توجيه الموارد التى تذهب لقطاعات هادفة للربح أو فئات ثرية نسبيا إلى قطاعات تخدم أغراض العدالة الاجتماعية من ناحية، وتفى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للكثيرين من المواطنين. فبإمكان الحكومة تحرير أسعار الطاقة الموجهة للقطاع الصناعى، وخاصة الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة كالأسمنت والحديد والصلب والأسمدة والألمونيوم، والتى تتلقى ما يزيد على 65 % من إجمالى الدعم الموجه للصناعة، وقد سبق وأظهرت دراسات اقتصادية أن إزالة الدعم لن يضير بشكل جوهرى بفرص هذه الصناعات فى الاستمرار والتنافس، ويمكن تدارك آثار هذا التحرير بحيث لا يتم نقل التكلفة إلى المستهلك النهائى عن طريق أحد أمرين أولهما هو السماح بالاستيراد لضمان تخفيض المنتجين المحليين للأسعار كما حدث من قبل فى حالة الحديد والصلب فى 2008 /2009، وثانيهما هو الاعتماد على المؤسسات الضابطة لسلوك المنتجين فى السوق المحلية كجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار لضمان عدم التنسيق بين المنتجين فى هذه القطاعات لتثبيت السعر أو رفعه فى حال تحرير أسعار مدخلات الطاقة.

ولعل المشكلة الآن ليست فى إثبات عدم رشادة بل وعبثية الاستمرار فى دعم الطاقة على حساب فرص التعليم والعلاج للفقراء فى مصر، وإنما فى المضى قدما ضد أصحاب المصالح من الشركات متعددة الجنسيات ورأس المال الكبير لإعادة تحويل موارد الدولة فى مصر لصالح مواطنيها بدلا من استمرار الحكومة على هذا النحو الأبله فى رفع قيم أسهم الشركات الكبرى.

* نشر هذا المقال في جريدة الشروق 11 نوفمبر 2011.