ذوو الإعاقة في دستور 30 يونيو: لا جديد!
في العام الماضي، عندما كنت أقضي الزمالة الدراسية في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، لفت انتباهي لأول وهلة الكم الكبير لما تقدمه الجامعة من تسهيلات وإمكانيات لطلابها وموظفيها من ذوي الاعاقة.
فعلى سبيل المثال: وجدت قاعات المحاضرات، والصالات المؤدية لها، والحمامات، وحجرات النوم، مكتوب عليها إشارات بلغة برايل كى يتسنى للمكفوفين التعرف عليها. كما لاحظت أن الطرقات والسلالم والحدائق وغيرها من ممرات داخل أسوار الجامعة مجهزة وممهدة معماريا لتناسب احتياجات ذوي الإعاقة الحركية.
أثار هذا الاهتمام فضولي، فتوجهت في اليوم التالي إلى مركز الجامعة لخدمة الطلاب من ذوي الإعاقة، وهناك قابلت البروفوسير جراجري، مدير المركز، وسألته عن تعداد المعاقين بدنيا بالجامعة، واندهشت حين أجاب: بأنهم لا يتعدون العشرة في هذا العام. وعندما سألته عن سر هذا الاهتمام بذوي الإعاقة داخل الجامعة، فكانت إجابته المقتضبة: هذا ما يكفله لهم الدستور، وتفرضه القوانين الأمريكية، فكيف لا نلتزم به ونحن مؤسسة تعليم عريقة!
أدركت حينئذ أن حجر الزاوية في إلزام الدولة والمؤسسات بحقوق ذوي الإعاقة هو أن نحميها بالدستور، ونضع ما يحققها من القوانين. هذا هو الحال في جامعة شيكاغو والولايات المتحدة بشكل عام، وهذا ما نأمل أن نراه هاهنا في بلادنا.
إن ما نفتقده في مصر هو تلك النظرة الحقوقية الشاملة لقضية الاعاقة، والتي تنتقل من المنظور الرعوي السائد حاليا، إلى منظور جديد يقوم على النظر للمعاق من منظور تكافوء الفرص، مع فهم أن المعاقين هم فئة من فئات مجتمع متنوع، لكل فئة فيه حقوقها، ومتطلبات وجودها المعتبرة داخل المجتمع. نأمل في منظور يخاطب مواطنة الشخص المعاق، على نحو يضمن حقوقه جميعها وبما يرسخ احترام التنوع المجتمعي.
وانطلاقا من كون قضية الإعاقة مسألة حقوقية ترتبط بالتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية، لذا يجب معالجتها في شموليتها، وذلك باستحضار البعد الصحي والمهني والتعليمي والحقوقي لمشاركة الشخص المعاق في المجتمع، والتي تلتزم الدولة بكفالتها. هذا النهج يشتمل إلى التمييز الإيجابي ضمانات لوجود الفرص المتكافئة، التي تقي من ممارسات التمييز المعهودة، وبما يحقق الحد الأدنى لاحتياجات هذه الشريحة من المواطنين.
لكن ليس كل ما يريده المرء يدركه؛ فالحال الدستوري المتعلق بحقوق ذوي الإعاقة في مصر محمل بخيبة الأمل. يعاني المعاقون في مصر تمييزا دستوريا منذ دستور 1923 نهاية بدستور الاخوان، ولم نلمس أدنى أمل في التحسن مع مطالعة المسودة التي طرحتها لجنة العشرة لتعديل الدستور.
لا يخفى أن المادة التي طرحتها مسودة لجنة العشرة التي تتناول حقوق ذوي الإعاقة، وهي المادة 61 تتعلق بمصالح ما يقترب من 15% من المصريين، ينتمون لهذه الشريحة، وكانوا ولم يزلوا يعانون ممارسات التمييز. وعند مطالعتها وجدناها تفتقر إلى حد بعيد لذكر ضمانات حقيقية لحماية حقوق المعاق، في استمرار محبط للتوجه القديم في كل الدساتير المصرية السابقة.
إن اظهار التزام الدولة بالحقوق الخاصة بذوي الإعاقة، أوجب من حديث مبهم عن "رعاية" قد تحمل معنى عدم التساوي، ولا تكفل حقوقا واضحة وملزمة. لا يمكن بحال لهذه المادة أن تكفل مبدأ المساواة والعدالة لذوي الإعاقة، إذ تنطوي على نفي لهوية المعاق، وتنظر إليه كمواطن ناقص الأهلية، لا يستطيع مباشرة حقه باعتباره مواطن متساو مع غيره من المواطنين.
والمادة في شكلها الراهن فضفاضة، تحتمل التأويل. فلا يفهم منها حدود وطبيعة تلك "الرعاية" التي ستقدمها الدولة للمعاقين، فضلا عما تحمله الكلمة نفسها في هذا السياق من مدلول سلبي، يبعد بنا عن مفهوم أكثر رسوخا ووضوحا وهو مفهوم "الحق". الرعاية في هذا السياق الذي يتحدثون عنه هي في تصوري مفهوم مريب أقرب إلى "المنحة" وليس إلى الالتزام.
والأسوأ أن معنى الرعاية يستدعي صورة – لا يجب أن يستدعيها دستور يقوم على الحريات والحقوق - لأشخاص إما ناقصي الأهلية أو فاقدين لها، لا يقدرون على قيامهم على شئون أنفسهم.
عدم النص المباشر على التزام الدولة نحو حقوق بعينها لذوي الإعاقة مثل الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية، واستبدال ذلك بعبارة الرعاية أمر جد خطير، ينفي ابتداء عن ذوي الإعاقة كونهم مواطنين يتمتعون بكامل الحقوق الدستورية، دونما انتقاص. كما يختزل النص تلك الحقوق في "رعاية" لا تحمل التزاما واضحا ومقننا، سواء في نوعها أو في موضعها.
كذلك فإن المادة حسب صياغتها الراهنة لا تجعل من الدولة طرفا ملتزما على نحو قاطع بتوفير فرص العمل لذوي الإعاقة، أو بتهيئة المرافق العامة على نحو يناسب احتياجاتهم ، أو تلتزم بتوفير ضمان اجتماعي لهم. كما لا يلزم النص الدولة بتوفير الإمكانيات اللازمة لدمج وتمكين ذوي الإعاقة في العملية التعليمية بمراحلها المختلفة. وإضافة لذلك لم تتضمن المادة 61 ما يلزم الدولة بالاكتشاف المبكر للإعاقة.
تشير المادة 61 إلى تمكين المعاقين من المشاركة السياسية، لكنها لا تبين إلزام الدولة بتوفير الوسائل والتسهيلات الممكنة لتحقيق مشاركة تلك الشريحة الكبيرة من المواطنين. إنها بمنطوقها الحالي لا توفر ضمانات الدمج الفاعل لذوي الإعاقة في التصويت في خلال الاستحقاقات الانتخابية.
إلى جانب المادة 61، نجد تلك المادة الخاصة بالتمييز في مسودة لجنة العشرة، وهي التي تناست ذكر ذوي الإعاقة، مكتفية بتحديد التمييز استنادا للون والعرق والدين. كأن ذوي الإعاقة ليسوا أحد الفئات التي يٌحذر التمييز ضدها، رغم أنه تمييز مرصود في المجتمع بشكل عام.
نأمل جميعا في دستور يرقي إلى طموحات ذوي الإعاقة، ويكفل تمتعهم بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، على قدم المساواة مع غيرهم من المواطنين. إن لم ننتهج هذا النهج الدستوري، سنفقد فرصة ثمينة لتحويل هذه الشريحة المهمشة من مورد معطل إلى مورد منتج يضيف للمجتمع ويسهم في تطوره المنشود.