"تجاهل الموتى": مقابر العلامة (-)
هذا المقال منشور بالأصل على موقع المدن، وننشره هنا بتصريح كريم من الموقع.
في مقابل مفهوم "السياسات الحيوية"، ومن لدنه، ظهر مفهوم "السياسات النيكرولية". فبينهما تقف السلطة الحديثة بحسابات الموت والحياة، تحديد الفائض والممكن التخلص منه، وكذا الواجب حفظه. لا يتعلق النيكرولي بالموت في عمومه، بل يشير في أصل الكلمة اليوناني إلى الجثث تحديداً.
فإن كان الجسد موضوع السلطة وغايتها ومنتجها، كما نتصورها اليوم، فالجثة أيضاً ساحة لعملها، باعتبار الجثث أجساداً، أو على الأقل نوعاً آخر من الأجساد. بأوضح ما يكون، تظهر في مؤسسة المشرحة تقاطعات النيكرولي والسلطة، السلطة بوجوهها المتعددة والحديثة، طبية وجنائية وقانونية. إلا أن المقبرة هي الموقع الأكثر عمومية للسياسات النيكرولية، ميدانها العام حيث تتداخل حدود الحياة والموت، ويعاد إنتاج الواحد في الآخر.
منذ يومين، قضت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية برفض إلزام السلطات التنفيذية بتخصيص أراض تستخدم كمقابر لغير أتباع الأديان المعترف بها. القضية مرفوعة لصالح المواطنين المسجلة في أوراقهم الرسمية العلامة (-) في خانة الديانة، باعتبارهم منتمين إلى تصنيف رابع، غير الإسلام والمسيحية واليهودية. ودفوعها تأتي على خلفية تقسيم وتخصيص أماكن الدفن قانوناً بحسب الانتماء الديني، ما يعني حرمان هؤلاء المواطنين من الحق في الدفن. وتعد القضية التي رفعتها "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، استكمالاً لمسار قانوني طويل للإقرار بوجود معتنقي الأديان والمعتقدات غير المعترف بها في مصر، وببعض من حقوقهم الأساسية. كان انتزاع خيار العلامة (-) في خانة الديانة، أحد مكاسب ذلك الجهد الحقوقي، لكن وبعد تضمينه في شهادات الميلاد والوفاة والبطاقات الشخصية، تبرز اليوم معضلة تخصيص أماكن الدفن، بأبعاد أكثر تعقيداً.
فبينما تبدو العلامة (-) مسألة فردية تتعلق بالخيارات الشخصية للمواطن، حيث تظهر فقط في أوراقه الرسمية وقواعد بيانات الدولة، فالمقبرة وتخصيصها شأن أكثر عمومية، لا يتعلق فقط بإشهار هويات جمعية وانتماءات غير معترف بها من الدولة، بل والأهم تخصيص مساحات في الفضاء العام، مساحات مادية ومحددة في الخرائط العمرانية، وتحمل رموزها الخاصة وممارساتها بصورة علنية.
في سياق القضية، نشرت "المبادرة المصرية" تقريراً بحثياً بعنوان "تجاهل الموتى: أين ذهبت مقابر "أحرار العقيدة" والمؤمنين بديانات غير معترف بها؟". من ناحية تاريخية، تكشف مُعدّة التقرير، جوهرة مدكور، أنه وفي الفترة بين 1830 و1954، استجابت الحكومات المصرية المتعاقبة لمطالب واحتياجات الجماعات المنتمية لمعتقدات غير معترف بها، ومنحتهم تراخيص لإقامة أماكن للدفن، حملت أسماء متعددة منها: جبانات أحرار العقيدة، جبانات مدنية، وجبانات الطوائف التي تدين بغير الأديان المعترف بها. وفي أحيان كثيرة، لم تقتصر جبانات من هذا النوع، مثل مقابر "الطائفة الماسونية" على دفن أفراد طائفة بعينها، بل فتحت أبوابها لغيرهم ممن لم يجدوا مكاناً لهم في مقابر الأديان "الرسمية". ومن حيث الحاضر، يبين التقرير نظاماً للمحاصصة الطائفية يوزع مساحات الدفن بنسب مقررة، وكذلك الطرائق التي تتحايل بها الفئات المتضررة منه على الوضع القائم. ففيما يمتلك البهائيون جبانة واحدة باقية، فإن طائفة الادفنتست المسيحية، غير المعترف بها من الكنائس المصرية، تستخدم جزءاً من مدفن مخصص للطائفة الإنجيلية، ويدفن الأحمديون موتاهم في مقابر المسلمين من دون أي إشارات تميزهم.
بأكثر من طريقة، يبرز مضمون "تجاهل الموتى" الوضع الإشكالي لخانة الديانة في المنظومة الرسمية للاعتراف في مصر، والمعاناة اليومية (وربما الأبدية) لهؤلاء الواقعين خارجها، إلى الحد الذي يصبح فيه الانتماء إلى المعتقد الشيعي مثلاً، إما جريمة أو نفياً خارج تصنيف الدولة ومساحاتها المسيجة للحياة والموت على السواء. وبالتوازي، يرينا الجانب التاريخي من التقرير كيف قامت الحكومات المتتابعة منذ مطلع الخمسينات، ومع صعود دولة ما بعد الاستعمار، بالتراجع عن التسامح النسبي تجاه تعدد الهويات والانتماءات، وما تضمنه هذا في مسألة الجبانات من إعادة تخصيص بعضها، بل وحتى محو أسمائها السابقة من الخرائط، ليقدم التقرير نموذجاً فاقعاً لعمل السلطة في أراضي الموت، ويدها الطويلة الممتدة إلى ما وراء حدوده.