الشعب يريد إعدام المحامين

16 يوليو 2012

لا شك فى أن الثورة كما يذهب المستشار أحمد مكى هى «خروج على القانون، وهى بالمقاييس القانونية جريمة، ولكنها كما يقول جون لوك (المفكر السياسى الإنجليزى) حق طبيعى للمواطنين إذا ما خرجت السلطة على أهداف الوطن».
 
يحكى لنا شكسبير فى مسرحية هنرى السادس التى تتناول ثورة الشعب الإنجليزى عام 1450 أن أحد الثوار وقد أخذته حمية الهتاف ضد ظلم الملك وسلطان رجاله من سدنة القانون، ذهب ينادى: «أول ما يجب أن نفعله قتل كل المحامين»

ورغم وضوح دلالة تلك الصيحة الثورية لدى الغالبية العظمى من فلاسفة القانون، فمن العجب أيضا أنهم قد انقسموا كعادتهم فى تفسيرها بين رأيين، أحدهما مؤيد لمنطق هذا المطلب الظاهر، والآخر مرتاب ومحذر من نتائجه الباطنة.

فذهب فريق أول إلى أن قصد شكسبير من تلك العبارة هو التأكيد على أن أى إسقاط جاد للنظام لابد أن يبدأ بالقضاء على رجال المشورة ممن باركوا ظلمه بالقانون قبل الثورة، وزينوا له أسباب الطغيان باسم القانون، فقاوموا بالحجة وسند القانون استعادة الشعب لحقوقه المسلوبة، سواء كان ذلك لاتفاق مصالح أغلب نخب المحامين المهنية مع مصالح موكليهم من كبار الأثرياء وأعاظم الساسة، أو بحكم فطرة النخب القانونية «المحافظة» بطبيعتها، والمعادية لكل فوضى قد تزعزع أسس أى نظام حاكم وتهدد بزواله.

رسم لمقطع مسرحية شكسبير فى مناداة الثوار بقتل جميع المحامين

أما التفسير الثانى لمقطع شكسبير الشهير فهو على النقيض تماما، يتوجس أصحابه من مطلب «قتل المحامين»، ويتشمّمون فيه بوادر مقلقة، تنبئ عن ميلاد حكم استبدادى جديد، فيرفضونه حتى ولو كان ذلك «القتل» مجازيا، بإقصاء بعض أفراد النخبة القانونية عن السلطة، كما حدث فى «مذبحة القضاة» بمصر سنة 1969، وحتى لو كان ذلك الإقصاء باسم مصلحة الثورة العليا، أو صوت الأغلبية من عامة الشعب.

يُعلى هذا التفسير إذن من دور المحامين كخط دفاع أول عن الحقوق والحريات الفردية، خاصة فى لحظات الثورة حين يصبح العصف بها أشد وأخطر، حين تهتز ضمانات الملكية الخاصة، وتخشى الأقليات على حرياتها فى الرأى والعقيدة، وتتنافس القوى السياسية على تسوية حساباتها دون ما يلزمها بقيود سيادة القانون، أو يدرأ المخاطر الانتقامية فى مطالب «التطهير» و«العزل السياسى»، إلخ.

وبين هذين التفسيرين يتضح لنا مقدار التناقض بين قيم «الديمقراطية» فى إعلاء صوت الأغلبية من جانب، وقيم «الدولة المدنية» وما يستتبعها بالعكس من إعلاء شأن حرية الفرد والدفاع عنها من جانب آخر، وهو تناقض لا تكمن إشكاليته فى مسألة قمع الأقليات بمنطق صوت الأغلبية فحسب، وإنما يكمن الخطر الأدهى فى قدرة أقلية بعينها ــ تلك الناطقة بلغة القانون، المتحدثة بمفرداته والناسجة لحججه وبراهينه ــ على قمع جموع الشعب غير المؤهل لفك طلاسم المنطق القانونى، والدخول فى غياهب التفسير والتحليل والتحايل الفقهى المختلفة، والتى تهدد بوأد أى مشروع ثورى فى مهده.

ذكرنا كل ما سبق والقارئ يعلم جيدا كيف أصبحت لغة الجدال القانونى هى الغالبة اليوم على خطاب ثورة 25 يناير، بعد أن أمضى جميع أطراف اللعبة السياسية أكثر من عام ونصف العام وهم يتغالبون بمفردات الفقه، ويتبارزون بآليات القضاء، يستوى فى ذلك المجلس العسكرى وجماعة الإخوان المسلمين، ومن ورائهم السلفيون والليبراليون، جميعهم استعان بفتاوى مستشاريه، فالتزم حكم المنطق القانونى السليم تارة، وانقلب عليه تارة أخرى عندما اقتضت مصالحه الحزبية، أو أجبرته موازين القوى على ذلك، فيما شاعت تسميته نحو ما أصبح يشار إليه مؤخرا بلفظ «المواءمة السياسية».

وبما أن الثورة تبدو وقد تم اختزالها فى منازعات تنظرها المحاكم وتنقل الصحافة والإعلام وقائع جلساتها، فقد كان من الطبيعى أن يصاحب ذلك ظهور أسماء معدودة من رجال وسيدات نخبتنا القانونية ممن يقطعون بصوت الفصل عن مسار ثورتنا دستوريا أو جنائيا أو إداريا، سواء بحكم مناصبهم فى النيابة والقضاء، أو بحكم ثقلهم المهنى فى الترافع، أو ثقلهم الأكاديمى فى التفسير.

هذه النخبة القانونية تقف اليوم أمام اختبار صعب، فبعد ستين سنة من التعايش المعقد مع نظام يوليو العسكرى، وذلك على أحسن تقدير، تجد نفسها على ما لم تعهده من اشتراك فى الشأن السياسى، باعتبارها قبلة أنظار المواطن الطبيعى، غير المتمرس فى القانون، والذى يتوقع منها إجابات تمكّنه من متابعة خطاب الثورة، فلا يجد أمامه سوى مسلسل من الفوازير القانونية، متعددة الأجزاء، تستعصى على الفهم الواحد لدى كبار فقهائنا أنفسهم، والمختلفين فيها من الأساس.

كان استفتاء 19 مارس 2011 طبعا هو أولى حلقات هذه الفوازير، بما صاحبه من خلاف حول سقوط دستور 1971 بحكم الشرعية الثورية وعدم جواز تعديله من الأصل، لندخل بعد ذلك فى فوازير قانون انتخاب مجلسى الشعب والشورى، ودستورية تخصيص ثلث مقاعد المجلس للمرشح الفردى، والنزاع حول قانون العزل السياسى، وصحة إحالته للرقابة الدستورية، وصحة الحكم فيه.

ثم كان جدال تشكيل اللجنة التأسيسية الأولى وقانونيتها، وقرارات اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة بقبول أو رفض أوراق بعض المرشحين، لنصل أخيرا فى جدل الإعلان الدستورى المكمل، وصحة حكم المحكمة الدستورية العليا بحل البرلمان، ثم حكمها التالى ببطلان دعوة رئيس الجمهورية إلى البرلمان المنحل بالانعقاد، وجواز كل ما سبق من عدمه قانونا؟

ونحن ــ للعلم ــ على موعد مع المزيد من تلك الفوازير القانونية، بدءا من جلسات القضاء الإدارى يوم غد الثلاثاء بشأن اللجنة التأسيسية الثانية، وإلغاء قرار الرئيس محمد مرسى بخصوص مجلس الشعب، ثم نعاود اللقاء مرة أخرى فى أول سبتمبر مع جلسات قضايا حل جماعة الإخوان المسلمين، وبعدها فى نفس الشهر دعوى حل حزب الحرية والعدالة.

وقد صاحب كل ذلك من الوقائع الأخرى ما لا بد وأن يزعج إيمان ذلك المواطن غير المتمرس بشعارات كسيادة القانون واستقلال القضاء، ليس فقط من حيث خرق المرحلة الانتقالية لأبسط مبادئها، ولكن ــ وهو الأدهى والأمر ــ من حيث الشعور المتنامى لدى قطاعات ثورية بأن تلك المبادئ قد صارت فى حد ذاتها عقبة أمام تحقيق مطالب الثورة، وحجة قانونية لتفريغها من أى مضمون حقيقى.

فالأحكام التى يجب على المواطن احترامها، بحجة عدم المساس بهيبة القضاء، تتوالى بتبرئة قيادات وزارة الداخلية وضباطها من تهم قتل المتظاهرين، وبحجة عدم كفاية الأدلة.

ومبارك يحاكم أمام القضاء العادى بحجة لزوم ذلك لتنفيذ الأحكام الصادرة ضده فى الخارج، بينما يحال المدنيون إلى القضاء العسكرى فى أرقام مفزعة لم يشهدها تاريخنا الحديث فى أحلك عهود الاستعمار البريطانى.

والمسئول عن تمثيل حق المجتمع فى كل ذلك هو آخر نائب عام تم تعيينه قبل خلع مبارك» .

ولابد أن يزداد المواطن حيرة وهو يتابع هذا التنوع فى المُدد اللازمة لنظر المنازعات أمام القضاء، حيث يقبع بعضها فى أدراج المحكمة الدستورية العليا لسنوات، بينما تصدر أحكام أخرى فى جلسة واحدة!.

وكذلك الحال إذا تأملنا فى كيفية تحديد مواعيد بعض الجلسات بمجلس الدولة، والتى تبدو لبعض المراقبين وكأنها مسايرة للأحداث السياسية على وتيرة تكاد تكون مكشوفة، بمواعيد نظر يشتبه اختيارها لإحداث فرقعة أو كسب أرضية يحسب لها مسبقا.

وقد لا يجد المواطن بدًّا من أن يسمع مثلا ما يُتناقل الآن عن إغفال فتح التحقيق فى البلاغات المقدمة ضد الفريق أحمد شفيق واللواء عمر سليمان، حتى ترك كلاهما البلد عقب انتخابات الرئاسة، ولا يظن لهما من عودة قريبة.
 
لا يجوز أن يكون رد النخبة القانونية على كل ما سبق من شاكلة هجوم رئيس نادى القضاة بالتهديد والوعيد ضد كل ما ينال من هيبة استقلال القضاء المصرى، فلقد تم بالفعل كسر هذه الهيبة عندما دخل القضاة فى خلاف مفتوح بشأن قضية التمويل الأمريكى لمنظمات المجتمع المدنى، وما صاحبها من تصريحات نشرت على صفحات الجرائد، فى واقعة لم نشهد مثلها من قبل، ولم تستمر سوى ثلاثة أيام، انفضت بعدها دون مجازاة أو محاسبة على قدر علمنا، وإن كشفت بما لا يسمح الجدال مقدار عدم استقلال القضاء فى نظر المواطن العادى.

من الضرورى أن تتصالح النخبة القانونية مع ماضيها فى التعايش تحت حكم عسكرى دام ستة عقود، وأن تواجه بصدق ما أفضى إليه هذا التعايش من تشكيل علاقة غير حميدة بين القانون والأمن، كانت ومازالت تفسر منطق الحكم فى «نظام يوليو» مزدوج البنيان، كما يذهب الدكتور شريف يونس فى كتاباته.

فقد ادعى «النظام» التزامه بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء منذ ناصر مرورا بالسادات ومبارك، بينما احتفظ القائمون على القلب العسكرى للنظام بحقهم فى الانقلاب على كل ما سبق والتزموا به من مبادئ الشرعية القانونية، وذلك دائما بالاعتماد على حجة ذات دلالة «أمنية» أو أخرى، كالحرب مع إسرائيل أو مكافحة المخدرات أو الإرهاب.. إلخ، كاشفين بذلك عن عصب النظام العسكرى، مهما حاول التجمل بمساحيق «المدنية» أو صبغات «الجمهورية».

لا يمكن تسطيح نظام يوليو إذن فى مجرد نظام «عسكرى» معادٍ جملة وتفصيلا لكل ما يمت بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء من صلة، وإنما العكس هو الصحيح، فقد تميز هذا النظام بعلاقة شديدة التركيب مع منظومة الحكم المدنى المشروع فى البلاد، السابقة على انقلاب الجيش فى 1952، وبالتالى مع النخبة القائمة على جهاز العدالة لدينا من محامين، وقضاة، وأساتذة الحقوق بالجامعات طبعًا.

وقد مر نظام يوليو فى علاقته مع النخبة القانونية بمرحلتين، لكل منها منطقها الخاص فى التعامل مع الهاجس الأمنى للنظام، الأولى انتهت مع بيانات مارس 1968 وما لحقها من مذبحة القضاء فى العام التالى، أما المرحلة الثانية فقد بدأت مع حكم الرئيس المغتال أنور السادات، واستمرت من بعده فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك، لتصل ذروتها مع اندلاع أزمة القضاة سنة 2005. لا سبيل أمام نخبتنا القانونية إن أرادت العمل على الإصلاح القانونى الجاد فى جميع المجالات إلا أن تتصارح أولا فى مناقشة ماضيها، لتتعرف على مقدار ما أصاب جهاز العدالة فى البلاد من فساد، عمّ القضاء والمحاماة والدراسة الجامعية على حد سواء.

علينا الاعتراف بأن هناك قضاة مستقلين فى مصر، ولكن لا يوجد قضاء مستقل يدعمهم وينأى بهم عن إغراءات السياسة التى بدأت منذ اختراق المؤسسة الامنية للجهاز القضائى فى ستينيات القرن الماضى، وتستمر حتى الآن بصور وأشكال مختلفة، نعلمها جميعا وحان وقت القطيعة معها.

كذلك أيضا توجد محاماة فى مصر، ولكنها بعد ستة عقود من نظام يوليو تحولت من التنظيم المهنى الصارم إلى ما يقترب من الحرفة، فاهتزت مكانتها فى المجتمع، وهانت على نحو ما تنشغل به الصحف بعد الثورة بشكل دورى.

حدث الأمر ذاته فى معاهدنا العملية، فبعد أن كانت كلية الحقوق تعرف قبل انقلاب الجيش بأنها «كلية الوزراء» بالنظر لغزارة تواجد خريجيها بين صفوف النخبة المصرية الحاكمة منذ نهايات القرن التاسع عشر، نجد طلاب اليوم وعلى العكس ينادون زملاءهم من دارسى القانون على أنهم طلاب فى «جراج الجامعة»، مأوى كل من لم يقبل فى كليات القمة وأصر رغم ذلك على التخرج بأى شهادة تدل على دراسة جامعية ما، ليتم بهذا «ركنه» كالسيارة العاطلة فى «مدرجات» دراسة الحقوق.

على نخبتنا القانونية الاعتراف بما أصابها من انهيار تحت نظام يوليو، وبأن مصلحتنا تقتضى تبنى منهج جديد فى التعامل مع الثورة، حتى لا ينتهى الحال بنا وبالوطن إلى ما لا تحمد عقباه على طريقة الثورة الإنجليزية، أو على طريقة السنهورى ــ رحمه الله ــ عندما تم ضربه على سلم مجلس الدولة سنة 1954.

* نشر في جريدة الشروق 16 يوليو 2012.