سُلطة تفتيشِ الضمائر
يوافق اليوم الأحد 17 مايو، اليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية. لست من كبار المعجبين بالأيام العالمية للاحتفاء بمجموعات بعينها، ولكن هذه الأيام قد تمثل أحيانًا فرصة لفتح النقاش أو تسليط الضوء على أوضاع مزرية تعيشها هذه المجموعات في بلدان معينة، مثل أوضاع المثليين والمتحولين جنسيًا في مصر.
في ديسمبر الماضي، أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمًا في دعوى رفعها مواطن ليبي كان يقيم في القاهرة، يطعن فيها على قرار وزير الداخلية ومساعده بإدراج اسمه على قوائم الممنوعين من دخول جمهورية مصر العربية، بعد أن قامت الداخلية بترحيله بحكم أنه مثلي جنسيًا ويمارس الفجور بمسكنه، وجاء قرار المحكمة برفض الطعن، أي بأحقية الداخلية في إبعاد الأجانب بناء على ميولهم الجنسية دون حتى أن يتم إدانتهم من جانب القضاء، وفي الوقت الذي تسعى فيه الحركات الحقوقية في كل أنحاء العالم إلى إزالة الوصم عن جماعات المثليين والمثليات ومزدوجي الجنس، ومحاربة النظرة التي تتعامل مع هؤلاء الأفراد باعتبارهم وباءً يجب علاجه، نجد أن بعض الشخصيات المحسوبة بشكل أو آخر على المجتمع الحقوقي في مصر، تُدلي بتصريحات أقل ما توصف به أنها تمييزية وتحريضية، فقد قام بعض الحقوقيين بالتبرع بتصريحات تؤيد الحكم القضائي، مؤكدين "أن الحكم يأتي متوافقًا مع الدين والعرف، وأن هذا الحكم يعطي شرعية لإدارة الداخلية للمحافظة على أخلاق المجتمع وسلامة فكره".
ويمثل هذا الحكم سابقة قانونية خطيرة، فهو يضع الداخلية فوق القانون، إذ إنه يبيح لوزير الداخلية إبعاد الأجانب إذا كان وجودهم يهدد أمن الدولة أو الآداب العامة أو غيرها، ولكننا لا نعلم تحديدًا ما التهديد الذي يمثله المواطن الليبي للقيم الدينية والاجتماعية؟ خاصة إذا علمنا أن النيابة العامة قد أخلت سبيل هذا المواطن دون أن تحيل القضية إلى المحكمة، وعليه فإن هذا الشخص لم تثبت عليه تهمة "ممارسة الفجور" الذي ادعى محضر الشرطة تورطه فيها، ليس هذا فقط، بل إن تقرير هيئة المفوضين الذي طلبه القاضي قبل إصدار حكمه، أوصى بقبول الدعوى شكلًا وموضوعًا، وإلغاء قرار المنع من دخول البلاد، وجاء في التقرير أن إلغاء القرار يأتي إعلاء لمبدأ حرية الأفراد في التنقل ودخول البلاد، كما أشار التقرير إلى أهمية عدم تحول السلطة التقديرية الممنوحة لوزارة الداخلية في منح تصاريح الإقامة للأجانب إلى سلطة مطلقة متحللة من رقابة القضاء، إلا أن القاضي غض الطرف عن كل هذه الأدلة والتوصيات، وأشار في حكمه إلى أن المدعي "شاذ جنسيًا ويمارس الفجور في مسكنه بمقابل مادي"، لمجرد توجيه الاتهام إليه رغم أن القضاء الجنائي المصري لم يدنه. فهل أصبح اتهام الداخلية الآن بمثابة حكم محكمة؟ إن تتبع المسار القانوني لقضايا ممارسة الفجور في مصر، يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن أقسام الشرطة في كثير من الأحيان تلفق اتهامات ضد الأفراد دون التثبت منها، مما يعني أن الاعتماد على محاضر الأقسام فقط هو إهدار لحق الأفراد في العدالة. فيكفي أن تلقي نظرة واحدة على محضر الشرطة في القضية المعروفة إعلاميا باسم "قضية حمام باب البحر"، لتعلم مدى التلفيق الذي يمكن للشرطة أن تكيله للأفراد، لدرجة أن أحد الدفوع القانونية التي قدمها محامو الدفاع، كانت عدم معقولية المحضر، وفي النهاية حكم القاضي ببراءة جميع المتهمين ورفض طعن النيابة.
يضرب حكم ترحيل المواطن الليبي عصفورين بحجر واحد، فهو لا يذكي فقط من رهاب المثلية، ولكنه يزيد أيضًا حالة العداء الموجودة ضد الأجانب. ويتخوف الكثير- وخوفهم مشروع تمامًا- من إساءة استخدام الشرطة لهذه السلطة الممنوحة لهم لاستغلالها في إبعاد من يرغبون في إقصائهم من الأجانب بسبب نشاطهم السياسي أو آرائهم أو غيرها، فمن السهل أن تتحول هذه السلطة إلى أداة لعقاب غير المرضي عنهم من الأجانب.
وبالطبع لا يمكن تجاهل السياق الأوسع الذي تأتي فيه هذه الأحكام، فمنذ نهاية 2013، قامت شرطة الآداب بالقبض على العشرات من الأشخاص بدعوى ممارستهم الفجور،وبعيدًاعن الانتهاكات الصارخة التي سجلتها المنظمات الحقوقية في تعامل الشرطة مع المقبوض عليهم ابتداء من الضرب والإهانة وصولا إلى التحرشات الجنسية والتهديد بالعنف الجنسي، هذه الهجمة الأمنية ترافقها تغطية إعلامية تنتهك أبسط قواعد الخصوصية للمقبوض عليهم وتتعامل مع أخبارهم كمادة للإثارة، مع الاستهانة التامة بحياة الأفراد الخاصة وأمنهم وسلامتهم، فهناك العديد من الصحف والمواقع الإخبارية التي قامت بنشر رقم جواز سفر المواطن الليبي ومكان دراسته وسكنه وغيرها من التفاصيل التي تنتهك خصوصيته. هذه الانتهاكات قد تبدو هينة، أو محدودة الضرر، إلا أن فداحة آثار مثل هذه الانتهاكات تجعل منها جرائم إعلامية كارثية العواقب، فالأشخاص الذين يفتضح أمر تورطهم في قضايا مشابهة عادة ما يتم طردهم من أعمالهم، ومن منازلهم، وقد تدفعهم وطأة الشعور بالخزي للإقدام على محاولات انتحار، كما حدث مع أحد المتهمين الذين ثبتت براءتهم في "قضية باب البحر"، عندما حاول إشعال النار في جسده للتخلص من حياته بعد انتهاء المحاكمة.
الهجوم المستعر لوسائل الإعلام على المثليين والمتحولين جنسيًا يسهم بشكل كبير في ترسيخ الاعتقاد الشائع بأن المثلية الجنسية جريمة في مصر، في حين أن هذا غير صحيح؛ فالقانون المصري يجرم الفجور، والذي يحتم وجود العديد من الشركاء الجنسيين للرجل الواحد وأن يتقاضى الرجل مقابلًا ماديًا لهذه الممارسات، كما تكرس هذه الحملات الإعلامية للأفكار المغلوطة التي تتعامل مع المثلية الجنسية باعتبارها مرضًا نفسيًا يجب أن يتم علاجه.
المثلية ليست مرضًا!
المثلية ليست جريمة!
تم نشر هذا المقال عبر موقع مدى مصر الإلكتروني بتاريخ 17 مايو 2015