تعليق على الاستراتيجية القومية للصحة الإنجابية
يمكننا النظر إلى الاستراتيجية القومية للصحة الإنجابية، التي أطلقها المجلس القومي للسكان ـ التابع لوزارة الصحة - يوم الإثنين الموافق 12 يناير 2015، على أنها بادرة تنم عن حسن النوايا وعودة اهتمام وزارة الصحة وبخاصة المجلس القومي للسكان بقضايا الصحة الإنجابية، إلا أن النظر في الاستراتيجية نفسها وبنودها المختلفة يثبت من جديد أن هذه الإجراءات لا تعدو إلا أن تكون إجراءات تجميلية، فالاستراتيجية التي تحدد أولويات العمل في قضايا الصحة الإنجابية في الخمس سنوات القادمة (2015- 2020) تتكون من بضع صفحات من القَطع الصغير، تبدو للوهلة الأولى كأنها كُتيِّب دعائي صغير لمنتج ما، وليست استراتيجية قومية لقضايا الصحة الإنجابية في دولة يتجاوز عدد سكانها الثمانين مليونًا.
تبدأ الاستراتيجية بعرض الرؤية والهدف الخاص بها، ثم تنتقل إلى استعراض التحديات التي تواجه خدمات الصحة الإنجابية، مثل: عدم تفعيل بروتوكولات تقديم الخدمة، وضعف الشراكة بين الجهات التي تعمل في مجال الصحة والسكان، وعدم وجود مفهوم واضح للصحة الإنجابية لدى مقدمي الخدمة. إلا أنه من الصادم أن نجد أن الاستراتيجية لا تتحدث عن الوضع الحالي لقضايا الصحة الإنجابية، فالأرقام غائبة تمامًا عن هذه الوثيقة، فعلى سبيل المثال لا يجد القارئ أثرًا لمعدلات وفيات الأمهات الحالية، هل انخفضت أم ارتفعت خلال السنوات السابقة؟، كما لا يوجد أي ذكر لنسبة إجراء ختان الإناث أو معدلات الخصوبة الكلية أو نسب استخدام وسائل منع الحمل والوعي بها. كيف يمكن للاستراتيجية تحديد أولوياتها إذن إذا لم تبدأ بذكر الإحصائيات الحالية للقضايا التي تتبناها. هذا بالإضافة إلى التجاهل التام للأوضاع السياسية خلال السنوات السابقة، رغم أن الظرف السياسي قد أثر تأثيرًا بالغًا ـ بما لا يدع مجالًا للشك- ليس فقط في تقديم خدمات الصحة الإنجابية وإنما في برامج وزارة الصحة نفسها في هذا الشأن وفي الحملات القومية المختلفة لتوعية المواطنين بقضايا الصحة والحقوق الإنجابية، فخلال الأربع سنوات الماضية توقفت حملات الدولة القومية لمنع ختان الإناث وكذلك لتنظيم الأسرة، كما تعثر إصدار المسح الصحي الديموغرافي، وإغفال تأثير الشأن السياسي في مثل هذه القضايا يعكس من جديد غياب الإرادة السياسية للتناول الجاد لمشكلات الصحة الإنجابية والقضية السكانية في مصر.
وعلى الرغم من أن القائمين على الاستراتيجية قد أعلنوا أنها كُتبت اتساقًا مع التزامات مصر ببرنامج عمل مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية (1994) إلا أننا لا نجد التزامًا حقيقيًا ببرنامج العمل، فمن ناحيةٍ لم تحدِد الاستراتيجية أي أهداف كَمية تسعى للوصول إليها، كخفض وفيات الأمهات أو ختان الإناث بنسبة معينة، في حين أن أجندة برنامج عمل مؤتمر القاهرة قد عُنيت بتبني أهداف واضحة يمكن من خلالها قياس مدى التقدم الذي تحرزه الدول في قضايا السكان والتنمية. ومن ناحية أخرى ـ وكما هو معروف لدى الجميع ـ فالفارق الجوهري الذي أحدثه مؤتمر القاهرة كان التأكيد على أن قضايا الصحة الإنجابية هي قضايا حقوقية وليست صحية فقط، إلا أن الاستراتيجية قد تجاهلت الأبعاد الحقوقية وغلَّبت البُعد الصحي في أجزائها المختلفة، وظهر ذلك بوضوح من خلال غياب محاور جوهرية عن حزمة الخدمات التي ذكرتها وزارة الصحة، ففي الوقت الذي ركزت فيه الوزارة على خدمات تنظيم الأسرة، والفحص الوقائي لأورام الثدي، والاكتشاف المبكر وعلاج عدوى الجهاز الإنجابي، ورعاية الأمومة والطفولة، وخدمات صحة المراهقين، فإننا نجد أنها قد أغفلت تمامًا أي ذكرٍ لخدمات علاج العقم وعدم الإنجاب، وكذلك رعاية ما بعد الإجهاض، وهي الخدمات التي يجب إفراد بنود خاصة لها حتى لا يتم الادِّعاء بأنه يمكن دمجها في خدمات الأمومة والطفولة. كما كان من المتوقع أن تمتد مظلة الخدمات لتشمل السرطانات الإنجابية بشكل عام ومنها سرطان عنق الرحم وسرطان البروستاتا وغيرها.
اعتمدت الاستراتيجية ثلاثة محاور رئيسة، هي: دعم وتعزيز النظام الصحي بما يضمن تحقيق الاستدامة المالية والسياسية والمؤسسية، ورفع الوعي المجتمعي بالحقوق الخاصة بالصحة الإنجابية، وتطوير ودعم برامج الصحة الإنجابية الخاصة بالشباب. اتسمت هذه المحاور بعمومية معيبة، إذ لم تُفصِّل في أجزاء كثيرة منها الخطوات الواجب اتخاذها لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها، كما غاب عنها التحديد لأهم الأولويات والقضايا التي ستركز فيها وزارة الصحة والمجلس القومي للسكان، فعلى سبيل المثال ذكرت الاستراتيجية الوطنية أن دعم البحوث الميدانية والعلمية في مجال الصحة الإنجابية، وتطوير نظم المعلومات ومراجعة اللوائح والقوانين والقرارات الوزارية الخاصة بالصحة الإنجابية هي جزء من الآليات التنفيذية الخاصة بالمحور الأول: "تعزيز النظام الصحي"، إلا أنه لم يتم تحديد المجالات التي ستجرى فيها هذه البحوث أو الموضوعات التي تغيب فيها البيانات والإحصاءات وتحتاج إلى إنتاج معرفي، ولم يبين المسئولون أي قوانين أو لوائح هى التي ستتم مراجعتها.
كما جاء تناول الاستراتيجية لفيروس نقص المناعة المكتسبة مخيبًا للآمال، إذ اقتصر على مراجعة التشريعات والسياسات الخاصة بفيروس نقص المناعة المكتسبة، وعلى الرغم من أهمية مراجعة التشريعات التي لا يمكن إنكارها إلا أنه تم تجاهل العقبة الأهم في هذا الشأن وهى الوصم والتمييز الذي يواجهه المتعايشون مع الفيروس، سواء داخل القطاع الطبي أو خارجه، وهو الشيء الذي يعيقهم عن طلب الخدمات التي تقدمها الدولة أو الوصول إليها والحصول عليها بشكل يحفظ كرامتهم وخصوصيتهم، وكان يجدر بالاستراتيجية أن تتبنى خطة لتقليل الوصم الاجتماعي، ضمن محور رفع الوعي المجتمعي بالحقوق الخاصة بالصحة الإنجابية.
أما فيما يخص التثقيف الجنسي الشامل، فلم يأتِ ذِكره إلا على استحياء من خلال التركيز في دمج الصحة الإنجابية في المناهج التعليمية، وهو ما يختلف عن منظور التثقيف الجنسي الشامل، فالخبرات السابقة مع محاولات دمج الصحة الإنجابية في مناهج التعليم تنتهي إلى ذكر معلومات قليلة عن البلوغ والأجهزة التناسلية، التي عادة ما يتم تجاهلها من قِبَل المدرسين وعدم شرحها. في الحقيقة لا أجد سببًا لعدم تبني الاستراتيجية لمفهوم التثقيف الجنسي الشامل، رغم أنه من ضمن المفاهيم التي وافقت عليها مصر خلال جلسة لجنة السكان والتنمية السابعة والأربعين لتقييم حالة تنفيذ برنامج عمل مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية، التي انعقدت العام الماضي بالأمم المتحدة.
ربما يكون المحور الثالث الخاص بتطوير ودعم برامج الصحة الإنجابية للمراهقين والشباب هو النقطة المضيئة في هذه الوثيقة، إذ ركز هذا المحور على تعريف الشباب بخدمات الصحة الإنجابية وتيسير الحصول عليها وهو ما يعد تطورًا في منهج وزارة الصحة التي اعتمدت طويلًا على إتاحة خدمات التوعية والمعلومات فقط، فيما يخص هذه القضايا، وتجنبت طويلًا الاعتراف بحق المراهقين والشباب في خدمات الصحة الإنجابية مثل وسائل منع الحمل أو علاج الأمراض المنقولة جنسيًّا.
من المحبط جدًّا أن وزارة الصحة والمجلس الأعلى للسكان لم ينظرا إلى هذه الاستراتيجية كفرصة ذهبية لإعلان عودة العمل على الحملات القومية التي تبنتها الدولة فيما سبق، وخصوصًا حملات تنظيم الأسرة وختان الإناث، من خلال مراجعة الأخطاء التي شابت الحملات القومية السابقة والعزم على تفعيلها مجددًا، مع تبني منظور حقوقي يستهدف المفاهيم المغلوطة في هذه القضايا ويستهدف إشراك الجمهور المعني في نقاشات جادة حول هذه الموضوعات، عوضًا عن المنظور الفوقي الذي طالما تبنته الدولة. وقد تجاهلت الاستراتيجية تمامًا الحديث عن هذه الحملات أو كيفية استئناف العمل عليها. في النهاية فشلت الاستراتيجية في التعامل بشفافية كبيرة فيما يخص أولويات المجلس القومي للسكان وكيفية تعامله مع القضية السكانية والآليات التي سيضمن بها المجلس وصول خدمات الصحة الإنجابية للفئات والمناطق الجغرافية المختلفة، وكذلك إدماج الرجال في قضايا الصحة الإنجابية وعدم التعامل معها على أنها مسئولية النساء وحدهن.
تم نشر هذا المقال عبر موقع مدى مصر بتاريخ 10 فبراير 2015