دستور مصر الجديد.. ترتيب الأوراق القديمة

5 يناير 2014

سيحدد الناخب المصرى فى منتصف شهر يناير القادم مصير مسودة الدستور الجديدة، والتى من الممكن اعتبارها أفضل نسبيا مقارنة بسابقتها ذات العمر القصير، رغم انها لم ترقَ للمستوى المأمول واقعيا فيما يتعلق بتحسين أوضاع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية للمواطن المصرى. خيبت المسودة تطلعات مؤيدين لحقوق الإنسان، ربما لأنهم أفرطوا فى التفاؤل وتوقع بعضهم خطأ أن تكون الوثيقة الجديدة افضل كثيرا من سابقتها التى سيطر الإخوان المسلمون على صياغتها فى نفس الفترة العام الماضى.

حاول العديد من المصريين، بقدر الإمكان، التأثير فى عملية صياغة نص الدستور الجديد من خلال النوافذ القليلة التى أتاحتها لجنة الخمسين ــ المكلفة بصياغة الدستور ــ للمشاركة المجتمعية. كان لتلك المحاولات تأثير هامشى على بعض المواد التى تتناول الحريات المدنية، والحق فى الحصول على المعلومات، والحق فى الغذاء، وحقوق ذوى الاحتياجات الخاصة على سبيل المثال وليس الحصر. فيما عدا ذلك، يمكن أن نعتبر الوثيقة الدستورية الجديدة، فى أغلبها، إعادة ترتيب لقواعد دولة تريد أن تحكم رعاياها عوضا عن دولة تخدم مواطنيها وتحافظ على حقوقهم.

•••

وللأسف، تحتوى المسودة على مواد تقنن ممارسات شاعت على مدى سنوات طويلة تتحول معها بعض مؤسسات الدولة دستوريا إلى ما يشبه الطوائف أو الإقطاعيات مما يضعف مفهوم الصالح العام، كما أنه يقوض أحد أسس الديمقراطية وهو أن توجد توازنات واجراءات رقابة متبادلة بين السلطات والمؤسسات المختلفة لمنع تغول احدها على الأخرى. وتعكس مسودة الدستور قناعة بأن منح صلاحيات واسعة للقوات المسلحة والاعتراف بسلطات على الحياة الخاصة للمؤسسات الدينية الرسمية هو الضمان الرئيسى لحماية الدولة المصرية.

ورغم وجود بعض التحسن فى هذه المسودة مقارنة بدستور 2012، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والحريات، فإنها مع الأسف، تضع المدنيين صراحة تحت طائلة المحاكمات العسكرية، وهو الأمر الذى قارب على الاختفاء فى جميع أنحاء العالم، حيث إن مثل تلك المحاكمات يمكن ان تنعقد استنادا لأسباب مطاطة وغير محددة، ويمكن بسهولة أن يتم استغلال مثل تلك البنود الدستورية ضد خصوم سياسيين للنظام الحاكم، أو حتى ضد مواطنين أبرياء. على سبيل المثال، ليس هناك تعريف واضح للمنشآت العسكرية أو العمليات التى قد يتسبب التعدى عليها فى عقد محاكمة عسكرية للمدنى المتهم، علما بأن المحاكم العسكرية لا تتوافر فيها عوامل كثيرة لضمان المحاكمة العادلة. فمثلا، صرح مسئول كبير فى القضاء العسكرى فى حوار تليفزيونى بأن مجندى القوات المسلحة العاملين فى محطات الوقود المملوكة لها (وهى جزء من المؤسسة العسكرية الاقتصادية)، يؤدون مهمة وهم يقدمون الخدمات للعملاء من المدنيين فى جميع أنحاء الجمهورية، وبالتالى يتمتعون بحماية ذلك البند الدستورى. ويمكن أن يعنى ذلك، أنه فى حالة نشوء أى خلاف بين أحد المواطنين وأحد العاملين بالمحطة ــ أثناء ملئه لخزان الوقود ــ فقد يتعرض ذلك المواطن إلى محاكمة عسكرية. لا يمكن لنا إلا أن نعتبر دسترة مثل هذه المحاكمات سوى انتكاسة لمؤسسة العدالة فى مصر.

وجدير بالذكر أن القوات المسلحة لم تكتسب وحدها تلك الاستقلالية فى تحديد شئونها الخاصة، أو تنقل بعضها من خانة الممارسة والعرف إلى خانة الشرعية الدستورية، بل أن ذلك امتد إلى عدد من مؤسسات الدولة الأخرى، فى محاولة لتطبيق مبدأ فصل السلطات، ولكن بطريقة ملتوية، بتحويلها لنطاقات شبه مستقلة وتغييب أى رقابة خارجية عليها.

•••

ورغم حذف بعض الصياغات الغامضة لمواد أقحمها الإخوان المسلمون من أجل استرضاء العناصر الأكثر محافظة فى صفوفهم، ومن أجل استمالة أنصارهم من السلفيين (على سبيل المثال، احتوت مسودة دستور 2012 على مادة تجرم أى قول أو فعل يمكن تفسيره على أنه إهانة لأى نبى من الأنبياء أو الرسل) فإن النص الجديد لم يخلُ من محاولات استرضاء للسلفيين عن طريق نصوص هى فى نهاية الامر غير واضحة وتفتح بابا للألتباس بشأن تفسير الشريعة الإسلامية والطبيعة «المدنية» للدولة.

وبينما يُفصّل الدستور الجديد ويوفر بعض الضمانات عن كيفية تطبيق بعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية (مثل تخصيص نسبة معينة من الناتج القومى للصحة والتعليم فى الموازنة العامة للدولة)، إلا أنه لم يُعنَ بمعالجة مشكلات العدالة الاجتماعية، وحقوق العمال بشكل مختلف عن الإطر القانونية القديمة. واخضع الدستور مطالب العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصادية للمواطن المصرى لرحمة قوى السوق دون الضوابط التى تلجأ لها اعتى الرأسماليات، حيث تبنت المسودة منهج الليبرالية الجديدة التى لا يمكنها معالجة مشكلة انعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية الراسخة والمتزايدة فى مصر. ويبدو أن مثل تلك الصياغة تراهن على أن تستطيع قوى السوق، التى لا تخضع لنظام محدد، احتواء تلك المشكلات متجاهلة أن ذلك المنهج هو ذاته الذى أدَّى إلى قيام ثورة يناير 2011.

•••

وأخيرا يفتقر الدستور لأى ضمانات من شأنها منع أى عضو برلمان منتخب من تقويض الحقوق الواردة فيه. وتشير العديد من البنود الدستورية إلى أن البرلمان هو الذى سيتولى تنظيم ممارسة حقوق مختلفة من خلال القانون، بما يفتح الباب أمام تقويض أو تقليص العديد من الحقوق مثل إنشاء النقابات أو حتى إنشاء دور العبادة.

خلال السنوات الثلاث الماضية، أكد المصريون مرارا رغبتهم الملحة فى أن تقوم دولة تحترم حرياتهم، وتحمى كرامتهم، وتحقق مشاركة سياسية فعالة، وتدعم حقوقهم الاجتماعية والثقافية بما لا يعطى المجال لأى نظام حاكم بتقويضها أو بالمساس بها. هذا الدستور، رغم كل التعديلات التى طرأت عليه، يوضح لنا أن العالم القديم يموت إلا أن العالم الجديد لم يولد بعد.

تم نشرها في الشروق يوم ٣ يناير

 اقرأ المزيد هنا.