الذي اقترب فرأى..في محمد محمود
آفة حارتنا النسيان.
"أعيش أعمى بكرامة أحسن ما اعيش شايف وعيني مكسورة"
عرفت أحمد حرارة للمرة الأولى من مقولته هذه. كنت أشاهد له –هو وأحمد عبد الفتاح ومالك مصطفى- لقاء في برنامج آخر كلام بعد أن فقد بصره تماما في 19 نوفمبر 2011. يومها كان حرارة يتحدث ببساطة عن كل شيء، بدا راضيا مطمئنا مبتسما بشكل أذهلني. لا يعرف حرارة أنني ربما لم أخشى الموت يوم جمعة الغضب، ولكن الرعب كان يتملكني من مجرد فكرة أن أصاب بأي شكل في عينيّ. يومها، بعد أن شاهدت ذلك اللقاء لحرارة طبيب الأسنان الذي تغيرت حياته للأبد يتحدث عما منحته له الثورة لا ما ضحى به من أجلها، وعن أن بصره ثمن رخيص للكرامة والحرية، شعرت بالخجل.
اليوم –عامين بعد أن فقد بصره للأبد- لايزال حرارة يتحدث بنفس البساطة ولازلت أشعر بنفس الخجل.
في غرفة التدخين بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية -حيث يعمل حرارة مسئول عن ملف حقوق ذوي الإعاقة بوحدة العدالة الاقتصادية والاجتماعية- يدخن حرارة سيجارة ويتحسس الطاولة أمامه بحثا عن طفاية، يتجاذب أطراف الحديث مع الموجودين، ويطلق النكات. ثم يسأل: "يعني إحنا دلوقتي عندنا قضية مرفوعة لشهداء محمد محمود؟" أبتلع أنا ألمي بينما يرد زميل من المحامين "أنهو محمد محمود؟" لا يقصد الزميل تهكما بالطبع، ولكنه يعني منطوق سؤاله حرفيا، هو يقصد محمد محمود 2011 التي استشهد فيها 50 شخصا غير آلاف المصابين، أم محمد محمود 2012 التي استشهد فيها جابر صلاح "جيكا" –أول شهيد في عهد الرئيس المدني المنتخب- ثم استشهد بعده آخرون فيما سيلي من أحداث الإعلان الدستوري ثم فواجع الاتحادية.
أي محمد محمود؟
يقصد حرارة محمد محمود الأولى. حين سقطت كل الأقنعة ورأينا وجه الحقيقة: حلف العسكر والداخلية يقتلنا، تنظيم الإخوان يعقد صفقات على حساب دمائنا والسياسيون يحدثوننا عن العقل. بينما هؤلاء الغرباء الوحيدون على خط النار في محمد محمود صامدين يرددون "إثبت" في محاولة لفرض شروط معركة الحرية وإعلاء راية الثورة على ما سواها. هم من يدفعون الثمن عن طيب خاطر ودون خوف، ونحن في ظهورهم ننقل الإمدادات أو نضمد الجراح أو نملأ الميدان بالهتاف.
لا يعرف من انضموا للثورة بعد أن تحولت كرنفالا معنى الاقتراب من خط النار. كل من اقترب في محمد محمود انكسر خوفه ورأى. هم لا يعرفون ما تعني "اثبت" أمام وابل الغاز.. او"ارجع" حين يتحول الغاز رصاصا. لا يعرفون معنى أن نظل بعد زيارة للمستشفى الميداني محبوسين في منزل مطل على محمد محمود نسمع أصوات رصاص لا يتوقف حول المستشفى يتخلله هتاف "الشعب يريد اعدام المشير". لا يعرفون دوي سارينات الاسعاف ولا وقع رائحة الغاز، ولا مشهد شباب دون العشرين يبحث عن جرادل مياه حتى "يصطاد" قنابل الغاز، ويطلب كشافات نور تعينه على نقل المصابين بعد أن أطفأت الداخلية أعمدة الكهرباء في محمد محمود. بالطبع لا يعرفون وظيفة حامل بخاخات الخميرة ولا معنى الماكوجيل.
قطعا في الكرنفال لم يكونوا مهددين بفقد أعينهم. بالهم مطمئن كونهم نور عين قائد الجيش.
***
"الداخلية كانت في النص والشرطة العسكرية ع الشمال والبلطجية ع اليمين"
"جدع يا باشا"
في التحقيقات اعترف الباشا "قناص العيون" الملازم أول محمود الشناوي بأنه هو من ظهر في لقطات الفيديو التي عُرضت على المحكمة، كان دفاعه عن نفسه أنه كان يؤدي عمله. حُكم على الشناوي في مارس 2013 بالحبس ثلاث سنوات "لارتكابه أفعالا إجرامية يعاقب عليها القانون ضد المتظاهرين خلال أحداث شارع محمد محمود في نوفمبر 2011". يومها اعتبرت المحامية هدى نصر الله أن الحكم خطوة أولى على طريق إنهاء الإفلات من العقاب.
اليوم لا يبدو "انهاء الافلات من العقاب" على قائمة أولويات من هم في الحكم باسم الثورة. هم اليوم حولوا الثورة إلى حرب على الإرهاب يهتف فيها الهاتفون "جدع يا باشا" للمذابح ويهاجمون من يطالبون بالمحاسبة. هم يطلبون محاسبة حسب الطلب على جرائم معينة. من الممكن أن يفتحوا ملفات نظام الإخوان، وأن يحاسبوا رئيسهم على جرائمه-وعلى غير جرائمه. سيُفتح ملف الاتحادية وسيُحاسب مرسي على قتل جيكا، لكن من سيفتح ملفات محمد محمود ويحاسب الداخلية التي لازلت "هي هي" عن محمد محمود 2011 ومحمد محمود 2012، و جرائم يناير 2013؟ وماذا عن كل ما جرى بعد 30 يونيو في الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة؟
أين تقرير تقصي حقائق محمد محمود؟
بل أين الحد الأدنى من احترام الحقائق التي شاهدناها بأعيننا؟
في 18 نوفمبر2011 –جمعة تسليم السلطة- دخلت إلى التحرير وأنا اهتف مع الألتراس على إيقاعهم الشهير "هنشيل حسين طنطاوي بتاعكو". بعد عامين عاد حسين طنطاوي ضيفا في المقصورة الرئيسية على يمين قائد الجيش الذي يحدثنا عن أننا "نور عينيه"، بينما يشكك مجاذيبه في حقيقة أن حرارة فقد البصر.
يقول الإخوان المسلمون أنهم سيدعون إلى "النزول" في ذكرى محمد محمود التي هي نفسها ذكرى "جيكا" أول شهداء حكم رئيسهم. يتناسون تلك الحقيقة، كما يتناسون مشهد اللافتة العملاقة التي علت مدخل محمد محمود طوال أسبوع في 2011: "ممنوع دخول الإخوان".
هل كان سيتغير شيئا اليوم لو لم يكن الإخوان احترفوا صفقات الصناديق بينما كنا نحن نتعلم أدبيات الحرب ودماؤنا تسيل في الشارع؟ أو لو لم يجبن السياسيون يومها عن التصعيد لأنهم رأوا الانتخابات أولى من دماء "شوية العيال بتوع محمد محمود"؟
لا أعرف.
***
"حملات داعمة للسيسي تحشد لذكرى محمد محمود"
أفرك عيني وأنا أقرأ الخبر مرة تلو الأخرى؟ كيف يمكن يا تُرى أن يحتفل مريدو السيسي بذكرى محمد محمود؟!
يشرح لنا المتحدث الرسمي باسم حملة "كمل جميلك" في الخبر المنشور في جريدة الشروق بتاريخ 14 نوفمبر تصوره عن الاحتفال بذكرى محمد محمود: "الحملة ستشارك في إحياء ذكرى محمد محمود، وستحتفل في الوقت نفسه بعيد ميلاد الفريق عبدالفتاح السيسي داخل ميدان التحرير، وبعدها سنقف دقيقة حدادا على الشهداء، ثم نحتفل بعيد ميلاد الفريق السيسي من خلال تورتة كبيرة تحمل صورته".
لو أن لي قريبا من شهداء رأيناهم جميعا يُسحلون في ميدان التحرير يوم 19 نوفمبر2011 على يد أفراد الجيش –حين كان قائد الجيش الحالي عضوا في المجلس العسكري- أو كنت ممن فقدوا عينا أو ممن لايزالوا يحملون رصاصا اخترق أجسادهم في محمد محمود، هل كنت سأبكي أم أضحك أم أفقد عقلي وأنا أقرأ هذا الخبر؟
ثم يخرج علينا أحمد حرارة يتحدث بنفس البساطة، وحزم أكثر، وأمل لا أعرف كيف يقدر على الإمساك به دون كلل، يسرد الحقائق في سلاسة ويتحدث عن الآية المقلوبة فيعدلها.
يصمم أن يسرد مضيفه أسماء وأعمار شهداء محمد محمود 2011، ومحمد محمود 2012.
أشعر من جديد بالخجل. احسم ترددي: فأضعف الإيمان أن يكون كتفي في كتف هؤلاء في محمد محمود 2013.