إعدام أم قتل خارج إطار القانون؟
تنقل إلينا شاشات التليفزيون بعض مشاهد من "سوريا" لأشخاص مقيدين، يقف أمامهم شخص قائلًا لهم: "أنتم متهمون بالقتل والإفساد في الأرض، وقد حكمنا عليكم بالإعدام"، ثم يستل سيفه ويبدأ في قطع رقابهم. هل يمكننا وصف ذلك بالمحاكمة؟، هل يمكننا إطلاق وصف "المحاكمة المنصفة" على مشهد آخر يقف فيه عشرات الأشخاص داخل قفص، ويقال لهم: "أنتم متهمون بالقتل والتخريب، وقد قررنا النطق بالحكم في حقكم الأسبوع بعد القادم"، ثم يتقرر حرمانهم من الحياة سواء عبر إعدامهم أو عبر سجنهم حتى الموت؟
الإعدام في حقيقته كفعل، هو قتل نفسٍ عمدًا، وذلك الفعل مجرَّم ولكنه في هذه الحالة مشروع، والسبب الوحيد لكون الإعدام جريمة مشروعة، أن القتل يأتي في إطار القانون ووفقًا لإجراءات وشروط وضوابط وأسس قانونية، ولذا يمكننا وصف الإعدام الذي يكون بالمخالفة الواضحة والصريحة والمتعمدة للقوانين؛ وبخاصة تلك الجوهرية والأساسية للمحاكمة العادلة، متى نُفِّذَ بـ : "القتل خارج إطار القانون".
يحق لرجل الشرطة القتل في حالات يجب أن تكون محددة وواضحة في القانون، وتحت رقابة ومراجعة جهة أخرى مستقلة، فإذا ما خرق القانون عمدا وبوصفه ممثل للدولة وقتل شخصًا ما، تكون فعلته قتل خارج إطار القانون. وكذلك يحق للمحاكم القتل القانوني ويكون ذلك في حالات يحددها القانون، وعبر إجراءات وشروط ومعايير قانونية تسمى بـ"المحاكمة العادلة"، فإذا ما خرج عنها القاضي واعيا مدركاً متعمدا وأمر بقتل شخص عبر إعدامه ونُفِّذَ قراره، يكون ذلك "قتلاً خارج إطار القانون".
تطالبنا الدولة عبر قوانينها وقراراتها باحترام القائمين على شئون العدالة واحترام القضاء والأحكام القضائية، وهو أمر هام، ولكنه يتطلب ـ بالبديهة ـ احترامهم للعدالة والقانون. فكلما صانوها واحترموها، إزداد احترام وتقدير الناس لهم، وكلما أهانوها، أهانوا أنفسهم، فأهانهم الناس، ولا يمكن فرض احترام الناس للقضاء عبر تخويفهم من عقوبات بالحبس، فالناس في أغلبهم يحترمون الطبيب ويعاملونه بتقدير، نظرًا إلى الدور الهام الذي يلعبه في حياتهم، وليس خوفًا من أنه من الممكن أن يحقنهم بمادة سامة تودي بحياتهم؛ ومدرسو المدارس منذ عقود يحاولون فرض احترام التلاميذ لهم عبر الضرب والتخويف، إلا أن محاولاتهم تبوء دائمًا بالفشل. من الممكن تسمية فرض احترام القضاء عبر العقوبة بخوف القضاء لا احترامه، وهما ليسا سيان، ولكلٍّ نتائجه.
ومن المعايير التي يجب أن تكون متوفرة في أي محاكمة حتى يمكننا تسميتها بالمحاكمة العادلة: أن يتولى المحاكمة جهة مستقلة محايدة مشكلة وفقًا للقانون وتلتزم به، نزيهة، يكون الناس أمامها سواء لا فروق بينهم، ومنها: التجريم الواضح لأفعال محددة بالقانون، محاكمة "شخصية" لمتهمٍ لا يطالب فيها بتقديم أدلة براءته، ومحاكمة يُكْفَلُ فيها لكل متهم ضمانات الدفاع عن نفسه وبشكل فعال، ويكون للمتهم الحق في الإستعانة بمحامٍ يطمئن إليه ويثق فيه ويختاره بحرية، محام له حقوق تحترم، ويكون للمتهم الحق في الإنفراد بمحاميه، والمحافظة على سرية الإتصالات فيما بينهم، واطلاع دائم على أدلة الإثبات وعلى كل كبيرة وصغيرة في ملف القضية، ومناقشتها وتفنيدها والرد عليها ونفيها، والحق في مناقشة شهود الإثبات وطلب وسماع شهود النفي، والحق في قت كافٍ لتجهيز الدفاع وإعداده وإبدائه، والإدانة تكون "شخصية" وبأدلة قاطعة واضحة، وإلا فالأصل البراءة، هذه بعضٌ من عناصر وشروط ومعايير المحاكمة العادلة.
ولنلقي نظرة سريعة على بعضٍ من تلك العناصر والمعايير والشروط: إن الناس سواء أمام القضاء لا فرق بينهم بسبب الثروة أو النفوذ أو المعتقد أو الانتماء السياسي. عندما نشاهد إجراءات محاكمة مبارك ونجليه وحبيب العادلي وأحمد عز ورجال الشرطة وغيرهم من أصحاب النفوذ ورجال الأعمال، ونقارنها بمحاكمة أي أشخاص آخرين، بما فيهم أولئك المكدسين في الأقفاص، هل نرى المساواة أمرًا واقعًا! هل جميع الإجراءات والحقوق والفترة الزمنية والمعاملة واحدة! هل نرى الناس سواء أمام القضاء؟
الحق في الدفاع تقول عنه محكمة النقض المصرية: "حق المتهم في الدفاع عن نفسه أصبح حقًّا مقدسًا يعلو على حقوق الهيئة الاجتماعية"، الطعن رقم 154 لسنة 59 قضائية الصادر بتاريخ 6 من أبريل 1989. و"إنكار ضمانة الدفاع أو فرض قيود تحد منها، إنما يخل بالقواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة، والتي تعكس نظامًا متكامل الملامح يتوخى صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، نظامًا يحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها"، نقلًا عن المحكمة الدستورية العليا من الطعن رقم 6 لسنة 13 الصادر بتاريخ 16 من مايو 1992.
القاضي الذي لا يعي ولا يقدر ولا يحترم، بل لا يقدس ـ كما تقول محكمة النقض ـ الحق في الدفاع، لا يمكننا وصفه أبدًا بقاضٍ، والمحاكمة التي يحرم فيها المتهم من الدفاع عن نفسه، من الخطأ تسميتها محاكمة، ولا يمكننا وصف ما يصدر عنها بالحكم القضائي. ومعظم القصص المتداولة عن سبب ارتداء المحاميين للسواد، تدور حول قاض حكم بالإعدام دون أن يسمع دفاع وثبت بعد زمن خطأ حكمه، ومنذ ذلك اليوم يرتدي المحاميين الروب الأسود حدادا ولتذكير القضاة بفداحه فعلتهم.
عندما كان يحدث شغب في فصل مدرسي ما ويدخل المدرس، كان يقرر ضرب جميع التلاميذ بالعصا مبررًا فعلته قائلًا: "المساواة في الظلم عدل". يبدو أن هناك من قضاة اليوم من هم ضحايا لمدرسي الأمس. شخصية العقوبة مبدأ هام من مبادئ المحاكمة العادلة، شخصية العقوبة تعني ألَّا يعاقب بها إلا الشخص الذي يثبت أنه ارتكب الفعل المجرّم، وإثبات ارتكاب شخص ما لفعل مجرّم يتطلب مواجهته بالأدلة على ارتكابه، فهناك اتهام بفعل محدد وهناك قدرة لهذا الشخص على الرد عليها، ولن يتأتَّى هذا إلا من خلال إعطاء كل متهم على حدة الوقت الكافي للدفاع عن نفسه ودحض الأدلة المقدمة ضده ومناقشة شهود الإثبات وتقديم أدلة وشهود نفي، أي محاكمة عادلة بكافة عناصرها وشروطها وضوابطها لكل متهم. فالمحاكمة العادلة حق عين وليست حق كفاية، وإعطاء الحق للبعض لا يسقطه عن الباقي، وكذا إعطاء بعض من الحق في المحاكمة لا يكفي لصحتها. ولذا لا يمكننا وصف المحاكمات الجماعية التي لا تتوافر فيها الشروط السابقة بـ"المحاكمة العادلة".
وإلى من يقول إنه "لا يجوز مطلقًا التعليق على أحكام القضاء"، أقول إن ذلك يعني وبشكل قاطع، أنه لا يجوز لك أن تعلق على الحكم الصادر من محاكمة "دنشواي" سنة 1908. أما إذا قلت إنه حكم قديم ولذا يجوز التعليق عليه وإدانته، أقول لك: إذًا أنت معي في أنه يجوز التعليق على أحكام القضاء؛ ونختلف في متى يكون جائز، هل في أي وقت وكل وقت أم بعد ثلاثة أيام من صدور الحكم!! أم بعد سقوط النظام؟ علماً بأن القانون المصري لا يمنع التعليق ولم يحدد لنا متى يجوز التعليق أو لا يجوز. أما إذا ما قلت إن محاكمة "دنشواي" لم تكن محاكمة أصلًا، أو أن أحكامها باطلة، أو أنها محكمة شكّلها الاحتلال وما صدر عنها ليس حكمًا، فأهلًا ومرحبًا بك في عالم التعليق على أحكام القضاء. وإن كنت ترى أنه لا يجوز التعليق على محاكمة "دنشواي" أو حكمها فسأدعو لك بالشفاء العاجل.
وفي النهاية ليست كل ورقة تبدأ باسم الشعب وتنتهي بتوقيع قاضٍ حكمًا صحيحًا وعادلًا، فهناك الحكم المنعدم والحكم الباطل والحكم الفاسد والحكم الظالم والحكم الصادر بعد رشوة. والتواجد داخل مبنى مكتوب على لافتته "محكمة" والوقوف في قفص حديدي أمام أشخاص خلفهم رسم لميزانٍ لا يعني بالضرورة أن ما يحدث محاكمة، و"دنشواي" مثال.
تم النشر بمدي مصر بتاريخ 27 يونيو 2014