المسيحيون في الرياضة: التمييز برخصة رسمية
يفتح أداء اللاعبين المصريين المتميز في أولمبياد طوكيو 2020 النقاش مجددًا حول غياب الوجود المسيحي في مختلف الألعاب التنافسية بشكل عام، سواء على مستوى اللاعبين أو الكوارد الفنية والإدارية، وتكشف قراءة أسماء البعثة المصرية في آخر ثلاث دورات أولمبية أنها قد تتضمن مسيحيًا واحدًا هو يوسف حلمي مقار في دورة طوكيو في الرماية، من بين ما يزيد عن 370 لاعبًا، بحسب حصر قمت به كباحث (1)، وأن تخلو قوائم المنتخبات في الألعاب الجماعية من وجود مسيحيين رغم أن نسبتهم تقدر بنحو 10% من السكان، وهى ظاهرة لم تحظ باهتمام المسؤولين أو الجهات المعنية بحقوق المواطنة، كما تغيب الدراسات المتعمقة لتحليل أسباب هذه الظاهرة، وأدوار الفاعلين في المجال الرياضي، وكيفية معالجة جذورها.
يملك المسيحيون تاريخًا مشرفًا لعدد من الأسماء الكبيرة التي مثلت مصر في مختلف الرياضات الجماعية والفردية، وحققت انجازات ملموسة على الصعيدين المحلي والعالمي، خصوصا خلال العقود التي سبقت سبعينيات القرن الماضي، قبل تراجع تمثيل المسيحيين في جميع قطاعات الرياضة، خصوصًا في مراحل الناشئين، وفي الألعاب الجماعية مثل كرة القدم، وكرة السلة، والكرة الطائرة، وكرة اليد. فعلى سبيل المثال، يوجد لاعب واحد فقط هو مجدي جرجس مسجل في قوائم الاتحاد المصري لكرة القدم بمسابقة الدوري الممتاز رغم أن عدد اللاعبين المسجلين سنويًا في قوائم الاتحاد يبلغ 540 لاعبًا يمثلون ثمانية عشر ناديًا، بينما لا يوجد لاعبين مسجلين في منافسات كرتي الطائرة واليد.
يعلل قطاع واسع من المسؤولين عن الرياضة استمرار هذه الظاهرة بحجة سلبية المسيحيين، وعدم وجود لاعبين مسيحيين بمراحل الناشئين، حيث الأسر المسيحية تهتم بالتعليم، ولا تشجع أبنائها على ممارسة الرياضة، ومن ثم الوصول إلى مرحلة الاحتراف. تمثل هذه الحجة جزءًا من الحقيقة، لكنها ليست سببًا رئيسيًا في منع المسيحيين من احتراف الرياضة وغيابهم عن المستويات التنافسية، لاسيما أن الرياضة لم تعد نشاطًا ترفيهيًا، بل أصبحت مجالًا للعمل والترقي الاجتماعي والمهني، وهو ما أدى لتنامي وعي الأهالي بأهمية ممارسة الرياضة.
كما يدحض هذه الحجة انتشار الأكاديميات الرياضة التي أسسها مسيحيون مؤخرًا ومسابقات الكنائس التي تشهد مشاركة واسعة للمسيحيين، تحت لافتة "مهرجان الكرازة"، حيث إن سلبيتهم في هذا السياق قد تعود بالأساس إلى خوفهم من المضايقات التي يتعرض لها أبناؤهم إلى جانب الخوف من المشاحنات والمناقشات في الأمور الدينية في هذا السن الصغير.
تتضافر عدة أسباب تؤدي إلى تفاقم هذه الظاهرة، بعضها ديني وتمييزي وبعضها اجتماعي وثقافي. يأتي في مقدمتها تديين المجال الرياضي، وهو اتجاه يشارك في تعزيزه مسؤولون كبار وأغلب العناصر المرتبطة بالرياضة، بداية من نسب أي إنجاز رياضي إلى الالتزام الديني، بعيدًا عن أية معايير للكفاءة والجدارة والموهبة الرياضية، ومرورًا بالحديث المتكرر عن المواظبة على أداء الشعائر الدينية واختيار اللاعبين طبقا لالتزامهم بحسب تصريحات لمدرب المنتخب الوطني لكرة القدم الكابتن حسن شحاتة، وانتهاءً بحرص الكثيرين على التعامل مع بعض المسابقات الرياضية على أنها مبارزة دينية من خلال تشجيع الفريق الذي ينتمي إليه دين الأغلبية، أو مباركة أسلمة اللاعبين الأجانب والاحتفاء بـ "اجتياح الإسلام للدوري الإنجليزي".
يترتب على هذه الممارسات فقدان المنتخبات الوطنية جزءًا من هويتها باعتبارها تمثل كل أطياف المجتمع، ويصبح وجود لاعب مسيحي وكأنه استثناءً، في الغالب غير مرحب به، خصوصًا في الألعاب الجماعية، فهو سيكون مختلفًا عن المجموع، لن يشارك في الاجتماعات والممارسات الدينية التي ينظمها اللاعبون. في أحد حوارته عبّر لاعب الزمالك السابق أشرف يوسف عن ذلك، وقال "بعض اللاعبين كانوا يضايقونني بسبب ديانتي، فمثلًا البعض كان لا يحب الأكل معي".
بطبيعة الحال، من تداعيات تديين المجال الرياضي وجود ممارسات تمييزية فجة تفرز اللاعبين المسيحيين، وتمنعهم من الوصول إلى المشاركة في الأندية، خصوصا في قطاعات الناشئين للألعاب الجماعية، وتحدث كثيرون عن اجتيازهم الاختبارات الأولية قبل أن تتراجع الأندية عن ضمهم، لأسباب دينية واضحة، بل أن بعض المشاهير في كرة القدم حكوا عن معاناتهم وأشكال من التعنت ضدهم بسبب دياناتهم.
في هذا السياق تحدث أحمد حسام، ميدو، لاعب منتخب مصر لكرة القدم والزمالك السابق، في لقاء تليفزيوني عن وجود "عنصرية" ضد المسيحيين في ملاعب الكرة المصرية، قائلًا "هل يُعقل ألا يكون هناك في تاريخ الكرة المصرية سوى خمسة لاعبين أقباط فقط في التوب ليفل في الكرة المصرية. هناك الكثير من اللاعبين الأقباط يتوقفون عن لعب الكرة في سن صغيرة بسبب العنصرية التي يواجهونها في فرق الكرة، ولا بد من مواجهة هذه المشكلة. العنصريون لا يخفون عنصريتهم، وعندنا عنصرية حول الديانة واللون والعِرق".
يجادل البعض بنفى وجود هذه الممارسات التمييزية عن طريق الحديث عن العديد من المدربين واللاعبين الأجانب غير المسلمين، في مختلف مجالات الرياضة، والذين لم يتعرضوا إلى أية مشكلات بخصوص ديانتهم، وبعضهم حقق جماهيرية كبيرة مثل مدرب النادي الأهلى الأسبق البرتغالي مانويل جوزيه. هذا الطرح مردود عليه بأن عقدة الخواجة لا تزال تسيطر على عقول قطاع كبير من المصريين، فهو يقبل بأجنبي يتحدث بلغة مختلفة ولا يرضى بمصري من نفس الأصل العرقي والتركيب الجسماني.
كما ينقلنا هذا الطرح إلى الأسباب الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالبعد الديني، فلا شك أن الفرز الديني والطبقي أحد سمات المجتمع المصري، في ظل عدم وجود بيئة تشريعية تجرم أية ممارسات تمييزية وعنصرية، وهو ما يترتب عليه أن يتم التعامل مع المواطنين على درجات، هناك من هم في أعلى درجات سلم المواطنة وهناك من في أسفله بسبب انتمائهم الجغرافي أو الاجتماعي أو الديني، وبطبيعة الحال يحتل المسيحي أدنى درجات المواطنة، خصوصًا لو كان من مستوى اجتماعي أدنى، وهو ما يسمح بممارسة آخرين الهيمنة الاجتماعية عليه، ويستخدم هذا التمييز الديني لمنع أي تمرد على هذه الهيمنة، خصوصًا أن مجال الرياضة أحد المساحات التي تسمح بالترقي الاجتماعي والمالي، وبوجود نفوذ وجماهيرية لدى المتميزين فيه، ومن ثم يكون التمييز والمنع لأسباب اجتماعية أكثر منها دينية.
يؤدي تجاهل المسؤولين لهذه الظاهرة إلى استمرارها وتفشيها، حيث تصبح هذه الممارسات المجرمة قانونًا وكأنها سلوكًا مقبولًا لا غبار عليه، وعلى الرغم من وجود وقائع محددة، أطرافها معروفون، وذكروا بالأسم في تحقيق صحفي نشره موقع مصراوي، لكن لم يبادر أي مسؤول بالتحقيق فيها، أو اتخاذ أية اجراءات لمنع تكرارها مع آخرين. وهو ما يضع علامات استفهام حول المستفيدين من هذا الوضع، وبدلًا من استخدام الرياضة وقيمها في مكافحة التمييز والتعصب وتعزيز التنوع تصبح هى أحد ساحات التمييز الممنهج المستعصي على العلاج.
لا تترك اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم فرصة بدون التأكيد على محاربتهما الممارسات العنصرية والتمييزية في المجال الرياضي، باعتبارها تهدد قيم الرياضة وجوهرها، ولذا تدعم الجهود الوطنية الساعية لوضع حدًا للممارسات التمييزية. وقدمت منظمة التضامن القبطي، ومقرها واشنطن، عدة شكاوى إلى المنظمتين الدولتين المسؤولتين عن الألعاب الأولمبية وكرة القدم بشأن التمييز الديني ضد الرياضيين المسيحيين، التي حالت دون مشاركتهم في المنافسات الدولية، متضمنة 25 حالة تمييز في عدد من الأندية المصرية. وكان على الجهات المسئولة في مصر أن تبادر أولًا بدراسة هذه الشكاوي والتحقيق فيها، ومناقشة السياق الأوسع الذي يسمح بهذه الممارسات، وسبل تحقيق قيم التنوع والمساواة والتكافؤ التي هي أساس التنافس الرياضي.
هذا، ولم تنجح الأندية الرياضة التي أسسها مسيحيون كناديي الجونة ووادي دجلة في توفير فرص أكثر عدالة للمواهب الرياضية من المسيحيين، لعدة أسباب يأتي في مقدمتها أنها أندية خاصة تهدف للربح المادي، وليست معنية بالاستثمار طويل الأجل في إعداد الناشئين، والبحث عنهم في الأقاليم والقرى. كما يخشى ملّاك هذه الأندية، في الغالب، من الاتهام بالطائفية، ودعم المنتمين لنفس ديانتهم، وحتى لو قرروا منح فرص متساوية للكفاءة، فإن تطبيق ذلك سيكون صعبًا وتأثيره محدودًا، حيث إن التمييز والمنع غالبا ما يكون خلال المستويات المتوسطة والأدني من الإدارة الفنية، والتي تتحكم في اختيار اللاعبين دون معايير واضحة، ومن السهولة التعلل بأسباب أخرى غير التعصب الديني.
دوري التمييز
في سياق متصل، تلعب مسابقات الكنائس دورًا مهمًا في إتاحة مساحة آمنة لممارسة الرياضة، ويسد العجز الذي يجب أن تلعبه أندية الشباب والأندية الرياضية، لكنها لن تكون بديلًا عنها، ولن تعوض دور الأندية في زيادة تواجد المسيحيين في الأنشطة الرياضة، ولن تخلق كوارد فنية أو مواهب رياضة متميزة، فمعايير العمل الاحترافي والأكاديمي غائبة عن تلك المسابقات، خاصة أنها تقام على مستوى الفرق الخماسية، دون تقيد بمساحات الملاعب القانونية، أو التدريب الاحترافي. يضاف إلى ذلك، أنه دوري تمييزي من الأساس، يعمل على ترسيخ المظلومية والحلول السهلة بخلق تجمع لمن تعرضوا للتمييز أو لديهم هواجس منه. فدور الكنيسة الذي يجب أن تلعبه هو تشجيع المواطنين على ممارسة الرياضة، وعدم السلبية بقبول الظلم، والنضال من أجل الحصول على الحقوق، وحث أعضاءها على إرسال الأبناء المتميزين إلى الأندية الرياضة.
علاج هذه الظاهرة يبدأ بإدراك مؤسسات الدولة لخطورتها، فلا وجود لحلول لمواجهة التمييز والممارسات العنصرية في مجال الرياضة بدون الدولة، لذلك عليها وضع التشريعات والسياسات المعززة للمساواة ومنع التمييز. وفي هذا الصدد أعود لحديث أحمد حسام، ميدو، "قدمت اقتراحًا وأنا في لجنة إعداد قانون الرياضة إنه لازم يبقى فيه 10% من اللاعبين الأقباط في فرق الناشئين".
يمثل هذا المقترح أو بعضًا منه مساحة مناسبة للبدء بها، خصوصًا أن الدستور المصري نص في إحدى مواده على وجود كوتة للمسيحيين في المجالس التشريعية، وجرى تطبيقها بسهولة وتوافق منذ العام 2014، ويمكن للدولة أن تبدأ بمراكز الشباب ودوري المدارس. وفي نفس السياق، تضع الدولة ضوابط واجراءات معززة للتنوع الاجتماعي والديني، وأن تراقب أداء الأندية الرياضة على كافة المستويات ومعايير قبول أو رفض المواهب المتقدمة إليها، مع إنشاء جهات يمكن التظلم أمامها، وتوقيع عقوبات معلنة على المخالفين مهما كانت مناصبهم، وهو ما سيفرز بعد عدة سنوات أبطال حقيقيين في مختلف المجالات.
نُشر في موقع المنصة بتاريخ 9 أغسطس 2021