الأقليات الدينية غير المعترف بها في مصر: الفيل الذي لا يراه المسؤولون

20 June 2021

تعاني بعض الأقليّات الدينية في مصر من عدم الاعتراف الرسمي من قبل مؤسسات الدولة، ممّا يترتب عليه الحرمان من مجموعة من الحقوق الدستورية الأساسية أبرزها حريّات الدين والمعتقد والرأي والتعبير، إلى جانب تعرضّ أتباع هذه الأقليّات للمراقبة والملاحقة القضائية بحجّة أن نشاطها غير شرعي. وتحظى مصر بتنوّع ديني واضح، فإلى جانب الأغلبية المسلمة والمسيحيين واليهود المعترف بهما، توجد أقليّات أخرى غير معترف بها من بينها البهائيون وشهود يهوه، وبعض الأقليّات المسلمة كالشيعة والقرآنيين والأحمديّين الذين لا يُعترف بوجودهم من قبل المؤسسات الرسميّة والدينية.

يُعد  البهائيّون أكبر الجماعات الدينية المستقلّة غير المعترف بها. ويرجع انتشار البهائية في مصر إلى أوائل القرن العشرين، حيث سُجّل المحفل المركزي لهم في ديسمبر 1924، وخُصّصت لهم مبانٍ لعقد محافلهم الدينية، كما قامت دار نشر خاصة بالجماعة بطباعة ونشر مطبوعاتهم وتوزيعها. بينما يرجع وجود أتباع شهود يهوه في مصر إلى ثلاثينيّات القرن العشرين، حيث كانوا قادرين على التسجيل القانوني في محافظتي القاهرة والإسكندرية. وقد تدهور وضع أعضاء الطائفتين منذ 1960، حيث صدر قانون رئاسيّ يقضي بغلق المحافل والمراكز البهائية ووقف نشاطها ومصادرة ممتلكاتها، كما أوقفت مصر الاعتراف رسمياً بطائفة شهود يهوه بعد انتشار اتهامات تدّعي أنها تدعم الصهيونية. وفي حين، ظهر التيار القرآني في مصر نهاية السبعينيات من القرن العشرين. ويرى أتباع هذا التيار أن القرآن هو المصدر الوحيد للشريعة والمرجعيّة الدينيّة ولا حاجة لباقي المصادر وأهمّها الأحاديث والسنة النبوية. ويُعدّ الدكتور أحمد صبحي منصور الأبَ الروحي لهذا التيار. وبسبب ذلك فُصل من جامعة الأزهر سنة 1987 وسُجن شهرين في نهاية نفس العام بتهمة إنكار السنة. وهو يعيش حالياًّ في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أسّس (المركز العالميّ للقرآن الكريم)، كما أسّس موقعاً إلكترونياً بعنوان أهل القرآن.

الإطار القانوني المنظِّم للحريات الدينية

يكفل النظام القانوني لمصر نظريّاً المساواة وحرية الاعتقاد لجميع المواطنين، لكنّ تطبيق ذلك ليس مكفولًا لكافة الطوائف الدينية أو يخضع لاعتبارات معينة قد تقوّض هذه الحقوق. إذ لا يُقرُّ النظام القانوني إلا الديانات الإبراهيميّة الثلاث المعترف بها: الإسلام والمسيحية واليهودية، وليس للمواطن المصري أن يختار أيّ ديانة أخرى غيرها. كما يحدد الدستور الإسلام بأنه دين الدولة وأنّ مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسيّ للتشريع. ويُلزم الدستور في المادة السابعة الأغلبيّة المسلمة نفسها باتّباع مذهب واحد وتفسير حصريّ للإسلام من قبل المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر)، وتُستخدم هذه المادة لتبرير الانتهاكات البالغة ضد المواطنين المصريين من غير أتباع هذا المذهب. كما ينصّ الدستور في المادة (64) على أن حرية الاعتقاد مطلقة، لكنّه يقيّد حق ممارسة الشعائر الدينية بقيدين: الأول بقصرها على أتباع الديانات الثلاثة، والثاني في أنّ المادة تعاملت مع ممارسة الشعائر الدينية وبناء دور العبادة كأنها شأنٌ واحد. وقد تمّ ربط هاتين الناحيتين بالقانون المنظم، ممّا سمح بمنع تجمّعات المواطنين في مناسبات دينية أو اجتماعية بحجة مخالفتها للقانون.

ويجب على أيّة جماعة دينية ترغب في الحصول على اعتراف رسمي بأن تقدم طلباً إلى إدارة الشؤون الإدارية والدينية بوزارة الداخلية، والتي تقرر ما إذا كانت تلك الجماعة تشكّل تهديدًا للوحدة الوطنية أو السلّم الاجتماعي، وتُستشار المؤسسات الدينية الرئيسية القائمة كجزء من هذا القرار.

موقف القضاء من الطوائف الدينية غير المعترف بها

جاءت أحكام القضاء مؤيّدة لقرارات المسؤولين الرسميين بإلغاء الاعتراف بالبهائيّين وشهود يهوه وبتقييد الاعتراف بالطوائف الدينية الجديدة كما في حالتي رفض الاعتراف بطائفة القديس بولس الرسول وكنيسة القديس اثناسيوس التابعة للكنيسة الأرثوذكسية. حيث اعتمدت المحاكم المصرية على مفهوم النظام العام لحماية مصالح الأديان السماوية، وخصوصاً الإسلام وبدرجة أقل المسيحية للحدّ من الاعتراف بالجماعات الدينية المنشقّة عنها، أو تلك التي ظهرت في سياق الديانات التقليدية. فعلى سبيل المثال، في العام 1975، أيّدت المحكمة الدستورية العليا استمرار غلق المحافل البهائيّة، وجاء في حيثيّات الحكم أنّ البهائيّة ليست من الأديان التي شرعها الله، وأنّها تخرج عن دائرة الإسلام، وأنّ الحماية الموجودة في الدستور هي للأديان السماوية المعترف بها، وأنّ إقامة الشعائر الدينية لأي دين من الأديان تخضع للنظام العام. بينما رفضت المحكمة الإدارية إثبات البهائيّة في الأوراق الرسميّة باعتبار أنّ ذلك يمثّل خروجاً على النظام العام وأنّ المصلحة العامة تقتضي وضع علامة (-) أمام خانة الدين لمن يتبعون ديانة غير الديانات السماويّة، وذلك تمييزًا لهم ودرءاً للمخاطر التي قد تنتج عن سلوكيّاتهم وعلاقاتهم مع أفراد المجتمع.

وفي نفس السياق، رفضت محكمة القضاء الإداري الطعن المقام من أحد أتباع طائفة شهود يهوه ضد قرار الحكومة الذي يتضمن حظراً على مكاتب التوثيق والذي مفاده “عدم إجراء أيّ توثيق لعقود الزواج التي يقرّ فيها أحد الزوجين أو كلاهما أن ديانته مسيحي (شهود يهوه)، وكذلك عدم جواز قبول القيام بأي إجراء من إجراءات التصديق على التوقيعات أو إثبات تاريخ أيّ أوراق صادرة من جمعية (برج المراقبة للكتاب المقدس)، والتي هي نفسها جمعية شهود يهوه“. وكان أحد أفراد الطائفة قد تقدّم بطلب تأسيس جمعية تدعى (جمعية شهود يهوه المسيحية الثقافية لتنمية المجتمع) ورفضت مصلحة الشهر العقاري إثبات تاريخ عقد إيجار شقة باسم الجمعية ـ تحت التأسيس ـ فأقام الدعوى المشار إليها .

موقف المؤسسات الدينية الرسمية

بالرغم من اختلاف البهائية في عقيدتها وشعائرها بشكل واضح عن الإسلام سواء السنيّ أو الشيعيّ، يعتبر غالبية فقهاء المسلمين البهائية جماعة مارقة عن الإسلام، ويُعد أتباعها مرتدّين وتمثّل شعائرها تهديدًا للنظام العام. وقد أصدرت المؤسّسات الدينية في مصر مثل الأزهر ودار الإفتاء عدّة فتاوى رسمية ضد البهائية، واعتبرت أتباعها مرتدّين وقامت بالتحذير منهم. وجاء في فتوى صادرة عن دار الإفتاء، وهي الجهة الرسمية لإصدار الفتوى، أنّ البهائية من الفرق المنحرفة عن الإسلام، والتي يجب على الناس أن يحذروا منها، وينتبهوا إلى شرورها وغيّها وسعيها للفساد والإفساد. كما نظّمت وزارة الأوقاف التابعة للحكومة عدة ورش عمل خلال 2015 لكشف مخاطر البهائية. 

وفي سياق متصل، صدرت فتوى رسمية عن حكم الشريعة الإسلامية في الانتماء إلى الجماعة الإسلامية الأحمديّة، فقد ذكرت دار الإفتاء بأنّ “القاديانية أو الأحمدية ليست إلا حركة هدّامة ولعبة استعمارية خبيثة لا علاقة لها بالإسلام ولا تنتمي إليه، وإنّما هي ديانة مستقلة وعقيدة فاسدة كفريّة. وما يعتقده أصحابها يُعدّ كفرًا بواحًا، فاعتناق المسلم لها وتبنّيه إيّاها عن علم واختيار يُعدُّ ردةً عن دين الإسلام، والقضاء هو المختص بهذا الحكم“.

وبطبيعة الحال، تعتبر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أتباع شهود يهوه هراطقةً، وتحذّر من التقارب منهم. وقد شكّل الأنبا بطرس، الأسقف العام والمشرف على قناة أغابي الفضائيّة التابعة للكنيسة، فريقاً من شباب الكنيسة أسماه (غرفة العمليات الحرجة لمقاومة المد الإنجيلي و“شهود يهوه“). كما استعرضت بعض التقارير التلفزيونية المعروضة على القناة تاريخ الجماعة تحت اسم «الثعالب الصغيرة». وقد صرّح البابا الراحل شنودة (1970-2012) عدة مرات أن الجماعة محظورة بأمر القانون المصري.

الآثار الناتجة عن عدم الحصول على الاعتراف

يترتّب على عدم الاعتراف بطائفة دينية ما عدم وجود شخصية اعتبارية لها، وبالتالي لا تسمح السلطات بوجود دور عبادة تتبعها، ولا تعترف بالرئاسة الدينية لها، مما يؤدّي إلى غياب قدرة الطائفة على تنظيم شعائرها الدينية، وإتمام الزواج وفقاً لمعتقدتها، إذ لا يمكن الحصول على دفاتر توثيق الزواج باسم الطائفة. وكذلك يفقد أتباعها الحق في استخراج أوراق رسمية مدوّنٌ فيها ديانتهم أو معتقداتهم الحقيقية، أو قدرتهم على التعبير عن أنفسهم بحرية ودون ملاحقة أمنيّة.

ونتيجة لذلك، يتعرّض أتباع الأقليّات الدينية غير المعترف بها لحملات من المضايقات الأمنية والمراقبة والاستدعاءات التي قد تصل إلى الإحالة إلى المحاكمة بتهمة ازدراء الأديان السماوية وتهديد السلّم الاجتماعي. وبحسب شهود يهوه استجوبت السلطات العديد من أعضائها بسبب وضعهم غير المعترف به في محافظتي القاهرة والمنيا. كما تحظر الحكومة استيراد وبيع مطبوعات البهائيين وشهود يهوه وتجري مصادرة المواد الدينية الخاصة بهم. ولا يملك كل من الشيعة وأتباع الطائفة الأحمدية بيوتًا للصلاة داخل مصر. وبسبب الحملات الأمنيّة عليهم، لا يعلنون عادةً عن أنفسهم، فيما عدا بعض القيادات، وتعتبرهم المؤسسات الدينية الإسلامية خارجين عن الإسلام. في حين يستمر حبس رضا عبد الرحمن المدوّن والباحث في “الفكر القرآني” منذ 22 أغسطس 2020، على ذمة التحقيقات، بسبب الانتماء للفكر القرآني.

هذا وقد أدّت التغيرات السياسية التي شهدتها مصر خلال عام 2011 والأعوام القليلة التي سبقته إلى إعلان عدد من قيادات تلك الطوائف غير المعترف بها عن حقوقها ومطالبها واشتبكت مع الاستحقاقات الوطنية والسياسية التي شهدتها مصر وخاطبت المؤسسات الرسمية لتصحيح وضع تلك الطوائف. لكنّ هذا التوجه تراجع إلى الحذر خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً مع غلق المجال العام وتراجع الحقوق بشكل عام. وبالرغم من ذلك، شجّعت تصريحات رئيس الجمهورية خلال النسخة الثانية من منتدى الشباب العالمي في شرم الشيخ عن احترام التنوع الديني للمواطنين المنتمين إلى هذه التنوعات الدينية على التفاعل معها. وكتب حاتم الهادي، وهو مواطن بهائي، مقالًا بعنوان :”نعم يا سيادة الرئيس هناك ديانات أخرى في مصر“، مشيرًا إلى وجود إشكاليات تعيق حق البهائيين في المواطنة كغيرهم من المصريين، منها ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية وعدم تخصيص أراضٍ لدفن موتاهم. وقد أصبحت هذه الاحتياجات مُلِّحة الآن قبل أن تأمل الطائفة ببناء دور عبادة لها. كما تقدم النائب السابق محمد فؤاد بطلب إحاطة إلى كل من رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء بشأن حق المواطنين المصريين في إقامة شعائرهم الدينية، وأوضح أن البهائيين تعترضهم مشاكل منها ما يتعلّق بالثبوت في الأوراق الرسمية أو بقانون الأحوال الشخصية، بالإضافة إلى رفض الدولة تخصيص أراضٍ لهم لدفن موتاهم وعدم وجود دور عبادة لهم ولغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.

تستند الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع الطوائف الدينية غير المعترف بها أو الجديدة إلى عدة معايير أهمها الحفاظ على مصالح الديانات الراسخة المعترف بها خصوصاً الإسلام والمسيحية. إذ تلعب المؤسسات الدينية الرسمية لهاتين الديانتين دورًا بارزًا في تحديد طريقة تعاملها مع الطوائف الجديدة والتي عادة ما تتّسم بالرفض تجاهها باعتبارها خارجة عن الإطار الديني المحدد من قبلها. وبالتزامن مع ذلك، يروج لصورة نمطية لأتباع هذه الطوائف كمنحلين أخلاقياً، كما هو سائد شعبيًا عن البهائيّين، أو على أنّ لديهم أجندات خارجية مرتبطة بنظرية المؤامرة، كما هو الحال فيما يخص شهود يهوه. 

وفي النهاية، تنتهك هذه السياسات والممارسات حقّ الأفراد في حريّة العقيدة، كما يترتّب عليها الحرمان من طائفة واسعة من الحقوق والحريّات المدنيّة والاجتماعيّة.

*نُشر هذا المقال على موقع معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط