الأقباط: اصطفاف المصلحة والطاعة والخوف
انتهت مظاهرات أقباط المهجر أمام مبنى الأمم المتحدة للترحيب بالرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء إلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي. انتهت المظاهرات لكن أصداءها لم تنته بعد، في ظل الجدل الذي ترتب على دور الكنيسة ورجال الدين المسيحي في الحشد والتعبئة لدعم رئيس الجمهورية، خصوصًا أن هذه الممارسات تورِّط الكنيسة في لعب أدوار سياسية، وهى محل نقد قطاع واسع من عموم المصريين.
وكانت الكنيسة الأرثوذكسية قد أصدرت بيانًا دعت فيه أقباط المهجر إلى الخروج للترحيب ودعم الرئيس المصري، ورغم وجود أسقف مقيم لرعاية كنائس نيويورك ونيوجرس، هو الأنبا دافيد، فقد أرسل البابا تواضروس الثاني أسقفَيْن مندوبين عن الكنيسة، هما الأنبا بيمن مسؤول لجنة الأزمات بالكنيسة، والأنبا يؤانس أسقف أسيوط. استخدم الأسقفان في لقاءاتهما بأقباط المهجر أسلوب العصا والجزرة، تارة بالحديث عن أرض الميعاد التي تفيض لبنا وعسلًا وعطايا النظام الحاكم، وتارة أخرى بالاستعطاف ودغدغة مشاعر الجماهير والتخويف من عواقب عدم التظاهر.
كان أداء الأسقفين كارثيًا، وتضمنت كلماتهما عددًا من المغالطات الفجة، فقد حمَّل الأنبا بيمن الأقباط مسؤولية الاعتداءات الطائفية قائلًا إن 60% منها سببها الأقباط أنفسهم، وأشار لضرورة موافقة الأكثرية العددية على إنشاء كنيسة أو مبنى ديني للأقلية، ثم ارتكب خطأ جسيمًا بإهانة أهالي أحد قرى محافظة قنا باستخدامه مفردات للتمييز الطبقي والاجتماعي، وذلك في سياق الحديث عن واقعة تجديد كنيسة بالقرية، وهو ما ترتب عليه أزمة جديدة بعد مطالبة أهالي القرية بمحاسبة الأسقف. أما الأنبا يؤانس فقد تعامل مع حقوق الأقباط المكفولة دستوريًا وكأنها سلعة يقايض على سعرها، أو منح من الحاكم يعطيها لمن يحسن المديح له، وهى ممارسات لا تمت لدولة المواطنة والقانون بصلة.
يطرح هذا الدعم التساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي تجعل قيادات الكنيسة تتورط إما طواعية أو تنفيذًا لتعليمات سياسية، باتخاذ مواقف تحسب عليها وتضعها في موضع النقد، باعتبارها داعمًا لنظام يرى قطاع من المصريين أنه يكرر نفس الممارسات القديمة بانتهاك حقوق الإنسان ودعم الليبرالية الاقتصادية على حساب العدالة الاجتماعية، خصوصًا وأن الكنيسة، وإن لم تملك في 3 يوليو 2013 خيار رفض المشاركة في مشهد عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، إلا أنها تملك الآن الابتعاد عن المشهد، لا سيما أن الضغوط الخارجية على النظام ضعفت، وتحسنت علاقاته بمعظم دول العالم.
لا يمكن عزل هذه الممارسات من جانب قيادات الكنيسة عن المستفيدين من الوضع، وهناك أسباب حقيقية لاصطفاف قطاع كبير من الأقباط خلف النظام الحاكم من أبرزها:
أولاً: اصطفاف المصلحة، خلقت العلاقة بين النظام الحاكم وقيادات كنيسة وقبطية -ولا تزال- مصالح مشتركة تستفيد منها مؤسسات الحكم باستخدام الأقباط في الحشد السياسي ودعم النظام وتحسين صورته خارجيًا، كما يستفيد قطاع صغير من الأقباط يحقق مكاسب ضيقة أو شخصية، كبناء كنيسة هنا أو رضا أولى الأمر، ما يفتح لهم الأبواب المغلقة للوصول إلى المناصب العليا. وهو ما اتضح خلال عملية اختيار مرشحي قائمة "في حب مصر"، لكوتة الأقباط في انتخابات مجلس النواب ( 24 عضوًا) بالتوافق بين الكنيسة وأجهزة الدولة، أو من خلال إتاحة مساحات إعلامية لبعض الكتاب قد لا يستحقونها. وتحقق أجهزة الدولة عدة أهداف لها بذلك، منها ضمان تأييد رجال الدين واستخدامهم وقت الحاجة، وكذلك أن يكون أداء المستفيدين ضعيفًا وغير فاعل ويصب في مصلحة ما تطلبه هذه الأجهزة، ولنا عبرة في أداء أعضاء مجلس النواب، باستثناء عضو أو اثنين لم يكن لهم دور أثناء أحداث العنف الطائفي التي شهدتها مصر خلال الفترة الماضية، كما لم يكن لهم تأثير على قانون بناء الكنائس الذي أقر في نهاية الدورة البرلمانية.
ثانيًا: اصطفاف الخوف، فأثناء حكم الإخوان المسلمين تعرض الأقباط لأنواع متعددة من الانتهاكات وصلت لتهديد حياتهم وممتلكاتهم وتغيير نمط حياتهم، وهناك عشرات القصص جرت لأهلنا في الصعيد عن الرعب الذي عاشوه خلال عام حكم الإخوان المسلمين وصناعة الخوف التي أنتجها أنصارهم، وهو ما تعزز أعقاب فض اعتصامي رابعة والنهضة من عقابات جماعية وقعت في عدد كبير من محافظات الجمهورية، عبر حرق عشرات الكنائس والمباني الدينية واستهداف الأقباط وممتلكاتهم. ما دفع المواطن للمقارنة بين السيئ والأسوأ، لاسيما في ظل الخوف من غياب البديل. ويفسِّر هذا دعم الأقليات لأنظمة الحكم التي تضطهدها، لأن الحاجة إلى الأمن والحماية لديها تسبق الحريات.
في هذا السياق، يؤكد تيار الإسلام السياسي أنه لم يتعلم الدرس بعد، وأنه لا يزال يمارس أداءه الطائفي بالتحريض على الأقباط والتمييز ضدهم، والتهديد بمعاقبتهم، ومحاولة ترسيخ الفكرة الشريرة التي بمفادها فالأقباط هم وحدهم من يدعمون النظام الحالي، وأنهم هم من قاموا بعزل الرئيس الإخواني، وللأسف فكثير من القوى المدنية، بدلًا من دراسة أسباب فشل دمج الأقباط سياسيًا في سياق مدني يروجون لنفس ما يدعيه تيار الإسلام السياسي.
ثالثًا: اصطفاف الطاعة العمياء لرجال الدين، وهو موروث وقديم وقائم على فهم خاطئ لعلاقة رجال الدين بأعضاء الجماعة الدينية، بما يتجاوز دورهم في التوجيه الديني إلى التوجيه المجتمعي والعام، في ظل الجهل والفقر يصبح رأي رجل الدين حاكمًا. هذا القطاع يلغي عقله ويضع بدلًا منه عقل قيادته الدينية، ويستوى في ذلك إذا كان التوجه سلفيًا أو إخوانيًأ أو مسيحيًا. أصحاب هذه الاتجاه يخلطون عمدًا بين الدين وما يصدر عن رجال الدين، بين دور رجال الدين السياسي ودورهم في تقديم الخدمات الدينية، وبالتالي، ووفقًا لهذا المفهوم، يصبح نقد رجال الدين نقدًا للدين نفسه، لاسيما في ظل ضعف مؤسسات الدولة وعدم قيامها بدورها في تقديم الخدمات التنموية والاجتماعية للبسطاء، ولعب الجمعيات الدينية لهذا الدور.
ورغم أن هذا التيار الداعم للنظام والذي يرحب بالدور السياسي لرجال الكنيسة يحظى بدعم وتأييد قطاع واسع من الأقباط، لكن هناك قطاعًا أخر لا يقل أهمية يرفض الزج بالكنيسة في معترك السياسة، ويرفض ما يقوم به رجال الدين، وهذا التيار يضم أقباطًا يعلنون موقفهم بشجاعة، كما يضم كثيرًا صامتين لكنهم غير راضين عن أداء رجال الدين ومؤسسات الدولة.
في هذا السياق نشير إلى البيان الذي صدر في البداية عن الشباب القبطي، ثم انضم إليها أكاديميون وكتاب ومهنيون، حتى وصل عدد الموقعين عليه لما يزيد عن 850 توقيعًا معظمهم من الأقباط. حمل هذا البيان رسالةً للدولة والكنيسة والمجتمع المدني لرفض أية أدوار سياسية للمؤسسات الدينية، ومحذرًا من خطورة هذا النهج. وتناول عدة قضايا رئيسية من أبرزها أن نظام ما بعد 3 يوليو 2013 يستحسن الزج بالكنيسة في المعادلة السياسية، ويعتبرها الوكيل الحصري لتمثيل عموم مسيحيي مصر، وهو نمط من التعامل يضر بمواطنة الأقباط، وقد انعكس هذا على طريقة إصدار قانون بناء الكنائس الذي أعاد إنتاج القيود المفروضة على بناء وترميم الكنائس.
وأكد البيان أن انتقاد مظاهرات أقباط المهجر جاء نتيجة حشد الكنيسة، فحرية الرأي والتعبير والتظاهر لدعم النظام أو للاحتجاج عليه مكفولة دستوريًا ، لكنها يجب أن تأتي في سياق سياسي مدني.
وأشار البيان إلى أنه بالرغم من العلاقة الدافئة والودية بين قيادات الكنيسة ومسؤولي الدولة، فقد تواصلت طريقة معالجة التوترات الطائفية على حالها، من اللجوء للجلسات العرفية وعدم تطبيق القانون إلى مساعدة المتورطين على الإفلات من العقاب، محملًا الدولة والكنيسة المسؤولية عن أية تداعيات سلبية لهذا الحشد في المستقبل، لاسيما أن بسطاء الأقباط في الأقاليم والمناطق الريفية هم الأكثر عرضة للاعتداءات والمضايقات.
وأكد البيان أخيرًا على دور المجتمع المدني بمفهومه الواسع، أحزابًا ونقابات وجمعيات أهلية، في دمج الأقباط في إطار النظام من أجل الديمقراطية. وهذه النقطة هي مربط الفرس، إذا أردنا من الجميع الانحياز للمواطن وحقوقه.
الأقباط ليسوا كتلة واحدة، فهم مختلفون في تواجهاتهم السياسية، وفي حاجة شديدة لاهتمام القوى المدنية بهم حتى يخرجوا من عباءة الكنيسة إلى مظلة الوطن.
تم نشر هذا المقال عبر موقع مدى مصر بتاريخ 26 سبتمبر 2016