وقفة أقباط المهجر التي أقلقت النظام
نجحت المسيرة السلمية لأقباط المهجر المقرر تنظيمها غدًا الثلاثاء في تحقيق بعض أهدافها قبل أن تبدأ؛ بغض النظر عن الأعداد التي ستشارك فيها، أو حجم المنظمات الداعمة لها، فقد ألقت حجرًا في المياه الراكدة، وكشفت عن الشروخ الموجودة في علاقة النظام الحاكم بالأقباط، فقد أتاح الجدل حول المظاهرات لمساحة للغضب المتزايد أن تصل إلى المسؤولين.
عكست ضغوط النظام الحاكم والكنيسة لمنع إتمام المظاهرة، وحملة الهجوم الشرسة ضد القائمين عليها من أطراف عدة، مستوى القلق من الرسالة التي ستقدمها هذه المسيرة للخارج والداخل.
تبنت منظمة "التضامن القبطي" الدعوة للمسيرة والحشد لها، وقد أُنشئت المنظمة في العام 2010، بهدف مناصرة المواطنة والمساواة للأقباط المسيحيين في مصر والأقليات في الشرق الأوسط، وهي تعمل على تحقيق ذلك وفقًا لموقعها الرسمي على الإنترنت، من خلال زيادة الوعي بأوضاع الأقباط في مصر، والحصول على تأييد الرأي العام الدولي، وتعزيز التطورات الإيجابية في مصر لتحقيق العلمانية والمساواة والحرية.
تعقد المنظمة مؤتمرًا سنويًا في العاصمة الأمريكية واشنطن يحضره عدد من السياسيين والخبراء ومراكز التفكير والبحث في أمريكا وقادة المنظمات القبطية في المهجر. ونُظِّم مؤتمرها هذا العام خلال يونيو الماضي تحت عنوان "مستقبل الأقليات الدينية في الشرق الأوسط.. وأوضاع الأقباط بعد ثورتين"، وقُدِّمت خلاله عدة أوراق تناقش أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط والانتهاكات التي يتعرض لها الأقباط وتعامل السلطة معها.
وقد شاركت المنظمة في حشد أقباط للتظاهر لدعم النظام المصري عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، في عدة مناسبات، من أبرزها مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة – سبتمبر 2015- وهى مظاهرات حظت بتغطية إعلامية مصرية، وبتشجيع من النظام الحاكم، وإشادة من جانب كبار المسؤولين الذين التقوا بممثلين عن المتظاهرين.
ولكن منذ انطلاق الدعوة للتظاهر والمسيرة في 19 يوليو الماضي ردًا على تكرر الاعتداءات ضد أقباط المنيا، تعاملت أجهزة الدولة معها على مستويين، الأول تحرك مؤسسات الدولة لحصار الداعين للوقفة ومنع مشاركة أعداد كبيرة فيها، عن طريق زيارة وفد من اللجنة الدينية بمجلس النواب إلى الكاتدرائية المرقسية واللقاء بالبابا تواضروس الثاني، الذي أكد خلال اللقاء أنه خاطب أقباط المهجر وأرسل للكنائس القبطية في أمريكا، لوقف التظاهر ضد أحداث المنيا. وقال البابا: "أرسلت لهم في كنائسنا بأمريكا مباشرة، مفيش مظاهرات تتعمل، وأعلم أن مش كلهم هيسمعوا الكلام".
ويبدو أن رسالة البابا - الذي لا يترك مناسبة إلا وأعلن فيها دعمه للنظام الحاكم - عن تزايد غضب الأقباط تجاه تعامل مؤسسات الدولة مع الاعتداءات الأخيرة، وصلت للقيادات العليا، حيث استقبل رئيس الجمهورية وفدًا كنسيًا برئاسة البابا تواضروس، أكد خلاله الرئيس على أن الوطن يواجه تحديات عدة، ولكننا لن نتغلب عليها إلا بوحدة الصف المصري، مشيرًا إلى أن هناك من يسعون لتفتيت هذه الوحدة، ولذا يجب أن يكون الجميع على درجة كافية من الوعي لتفويت الفرصة على هؤلاء. ومن جانبه، عبَّر قداسة البابا عن شكره وامتنانه للرئيس على دعوته الكريمة لعقد هذا اللقاء، معربًا عن ثقته في حسن إدارة الرئيس لشئون البلاد، وأكد قداسته أننا يجب أن نتكاتف معًا من أجل إعلاء مصلحة الوطن.
أما المستوى الثاني لتعامل الدولة مع المسيرة، فقد جاء من خلال توجيه خبراء النظام الحاكم وإعلامييه وبعض الشخصيات القبطية، ومنهم نواب أقباط الناجحون عن طريق "الكوتة"، انتقادات حادة للمشاركة وتحذيرات منها، وصلت لدرجة تخوين الداعين للوقفة.
وانقسمت أوجه الاعتراض على المسيرة إلى ثلاث مجموعات:
- المعترضون على تنظيم الوقفة من الأصل، ويرى أصحاب هذا الرأي أن ما يحدث في مصر لا يرقى لمرتبة الاعتداءات الممنهجة، وإنما هي حوادث فردية على حد وصفهم، ويقولون إن المظاهرات في الخارج ستصب في مصلحة التدخل الخارجي، ويرفعون شعار ضرورة التظاهر داخل مصر لا خارجها.
- وجه الاعتراض الثاني هو على الشخصيات الداعية للوقفة السلمية، بحجة أنها معارِضة للنظام، وعليها علامات استفهام، دون تحديد ماهيتها.
- أما المجموعة الثالثة من المعترضين فليس لديهم اعتراض على الوقفة والتظاهر، ولا يخوِّنون الداعين إليها، لكنهم يعترضون على مكان انعقادها أمام البوابة الرئيسية للبيت الأبيض، ويقولون إنه كان من الأفضل تنظيمها أمام السفارة المصرية.
قد تكون لبعض الاعتراضات مبرراتها، وهذا حق لأصحابها طالما التزموا بعدم التخوين وتوجيه الاتهامات والتحريض ضد القائمين على المسيرة. وفي كل الأحوال، لا يؤثر ذلك على حق أقباط المهجر، وأي مصري في أية بقعة في العالم، في التظاهر سواء لانتقاد أوضاع داخلية، أو لرفع مطالب يعتقد فيها، أو حتى لدعم النظام الحاكم، خصوصًا أن المؤسسات التي من واجبها التحرك والتدخل في حالتنا لم تفعل شيئًا، بل كان تعاملها مستفزًا للمشاعر الغاضبة. فعلى سبيل المثال، رفض رئيس مجلس النواب، الذي يضم نحو أربعين نائبًا قبطيًا، تنظيم جلسة عامة لمناقشة الاعتداءات الأخيرة على الأقباط، كما رفض تشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق، بينما انطلقت تصريحات المسؤولين المحليين من ثقافة تمييزية واضحة، تصل لحد التواطؤ مع هذه الاعتداءات.
يخشى النظام الحاكم من هذه الوقفة، لأنها تضرب في سمعته الدولية التي طالما تغنى بها، حيث قدم نفسه باعتباره مخلِّص مصر من الدولة الدينية، والضامن لحقوق الأقليات الدينية، وهو لا يريد أن يخسر قطاعًا معتبرًا من مؤيديه، دون أن تكون لديه نية حقيقة لتغيير طريقة التعامل مع هذا الملف.
كما أن تنظيم الوقفة، ورغم رفض قيادات الكنيسة لها، كان مؤشرًا مهمًا على أن قبضة الكنيسة على الأقباط لم تعد محكمة، كما كانت في سابق عهدها، خصوصًا في ما يتعلق بعلاقة اﻷقباط بالدولة وحقوقهم تجاهها. هذه المعادلة مقلقة للنظام الذي كان يعتمد على الكنيسة لتهدئة الخواطر، ويخشى استمرارها، ﻷنها تعني أن جهوده لخلق نخبة قبطية موالية لها، غير غاضبة من الممارسات التمييزية تجاه الأقباط، لم تعد كافية لإسكات أصواتهم.
النظام الحاكم مطالب الآن بتحويل الخطاب الذي يكرره باستمرار عن حقوق المواطنة والمساواة إلى واقع فعلي، وهو طريق وعر، لا سيما أن حليف النظام الثاني هو التيار السلفي ذو الموقف المتشدد تجاه حقوق الأقباط، كما أن بعض مؤسسات الدولة تستفيد من حالة التمييز ضد الأقباط، وليس من مصلحتها تغيير ذلك.
تم نشر هذا المقال عبر موقع مدى مصر بتاريخ 1 أغسطس 2016