بلد المليون مخبر
زرت محافظة المنيا خلال الأيام الماضية مرتين سنحت خلالهما فرصة لقاء عددا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ومن بينهم محامي بعض المتهمين في القضية المعروفة اعلاميا باعتداءات مطاي التي اصدرت محكمة جنايات شمال المنيا حكمها فيها اليوم الاثنين بإعدام ٣٧ من المتهمين بعدما كانت قد أحالت أوراق 528 منهم لفضيلة مفتي الجمهورية. كذلك قابلت شقيقة أحد المتهمين المحبوسين والذي تضمنه قرار الإحالة إلى المفتي. ومن حسن الحظ قابلت أيضا بعض ضحايا الأقباط الذين تعرضوا للخطف والإجبار على دفع الإتاوات. وتبين من مجمل اللقاءات أن الجميع غير راض عن الأداء الأمني، ولكن لكل طرف أسبابه الوجيهة التي ساقها للدفاع عن وجهة نظره ومبررات انتقاده للأجهزةالأمنية.
"مطاي بلد المليون مخبر"، بهذا الوصف انتقدت شقيقة أحد المتهمين في الاعتداءات على مركز مطاي، وبالرغم من المبالغة التي قد تظهر من هذا الوصف الناتج عن علاقة القرابة بين المتحدثة وأحد المتهمين وكذلك تأثير انتماءها السياسي، لكن هذا لاينفي وجود حالة التربص الواضحة ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، والناتجة عن الشحن والتحريض الإعلامي الدائم ضدهم،ودون التفريق بين مرتكبي الجرائم وبين من انتمى سياسيا للجماعة دون التورط فى أى من الجرائم المعاقب عليها بمقتضى نصوص قانونية محددة. انتج هذا الخلط المتعمد سلوكيات تصب في صالح إعادة انتاج الدولة البوليسية، فقد زرعت الأجهزة الأمنية بما تملك من خبرات طويلة رجالها ومخبريها في كل ارجاء المحافظة، إضافة لتبرع البعض بتقديم خدماته لهذه الأجهزة انتظاراً لما تسفر عنه الأوضاع في المستقبل خصوصا من أعضاء الحزب الوطني السابقين والعائلات الكبيرة التي تضررت من صعودجماعةالإخوان وسلوكيات قادتها وأعضاءها وأنصارها وهى في السلطة مناستعلاء واستعراض للقوة وممارسة أشكال من الفساد السياسى أبرزها الربط بين تقديم الخدمات الأساسية للمواطن وبين تأييده للجماعة وحلفائها.
هذه الحالة شجعت قطاع أخر من المواطنين على محاولة إلصاق تهمة الانتماء للإخوان لآخرين لتصفية خلافات شخصية، لدرجة أن شخصا أبلغ عن أخيه متهماً إياه بالانتماء للجماعة لخلاف على المواريث، وأن آخر ابلغ عن مسيحي بتهمة الانتماء للإخوان نتيجة خلاف شخصى كذلك. فى المقابل فمتهمين اثنين ضمن قائمة المتهمين في أحداث مطاي كانا خارج البلاد -في ليبيا- وقت الاعتداء على قسم الشرطة. بالطبع هذه الممارسات تضعف من مهنية الأجهزة الأمنية وتجعل تكلفة بسط الأمن التي يطالب بها المواطنون مرتفعة جدا وعلى حساب حقوقهم وحرياتهم، كما تعطى لما يسوقه بعض أنصار الإخوان إعلاميا، وهو غير صحيح على أرض الواقع، جانب من المصداقية مثل ما يقال بأن الدولة تحارب الإسلام وتقبض عشوائيا وبدون تهم على أصحاب اللحى والمواظبين على الصلاة.
وبالرغم من أن للمسجونين على ذمة التحقيقات والمحاكمة أو الصادر بحقهم أحكاماً نهائية، حقوقاً ضمنتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وكفلها الدستور المصري إلا أن الواقع يقول غير ذلك، فكثير من الشهادات المتواترة تؤكد أن المتهمين المحبوسين في أماكن الاحتجاز القريبة من منازلهم أو في السجون العمومية يواجهون صنوفا متدرجة من المعاملة غير الإنسانية والمهينة، كالسب والإهانة، وحشرهم بالعشرات في اماكن ضيقة غير آدمية، وغياب الرعاية الصحية وحرمان الطلبة من أداء الامتحانات. وفي نفس السياق يواجه أهالي المتهمين متاعب شتي لزيارة ذويهم في السجون التي تبعد مئات الكيلو مترات عن محال إقامة الأهالي، مما يكبل أهالي المسجونين مبالغ مالية تفوق قدرتهم لاسيما أن عدد منهم من أسر فقيرة لا تملك قوت يومها. وبعد قطع هذه المسافة ليلا للوصول صباحا تبدأ رحلة التنكيل بالأهالي من عدم السماح لهم بمقابلة ذويهم ثم الظفر في نهاية المطاف بعشر دقائق فقط ومن خلف حواجز، ومنعهم من ترك مبالغ مالية أو أغراض كالملابس والمأكولات لذويهم، وتنتهى الزيارة بمزيد من أوجاع ومخاوف الأهالي بدلا من الإطمئنان على ذويهم.
وبطبيعة الحال قد أدت هذه الحالة إلى إنكار كثير من أعضاء الإخوان والجماعة الإسلامية أو من أنصارهما المعروفين محليا ب "بتوع الدعوة والتبليغ" الانتماء إلى الإخوان أو المشاركة في المظاهرات والاحتجاجات المناهضة للنظام الحالي، بل أن بعضا ومنهم متهمين معروف انتمائهم للجماعة حصلوا على شهادات موثقة بالشهر العقاري من مواطنين آخرين غير معروف انتمائهم لتيارات الإسلام السياسي ومسيحيين بأنهم شاهدوهم يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة أغسطس الماضي وأنهم لم يكونوا متواجدين خلال الاعتداءات التي تعرضت لها أقسام الشرطة والمحاكم والكنائس والمباني الدينية وغيرها من ممتلكات الأقباط.
على الجانب الآخر أبدى كثير من المواطنين مسلمين ومسيحيين ممن قابلتهم خلال أجازة عيد القيامة سعادتهم بوجود الشرطة، التي فرضت سيطرتها على كثير من المناطق مما انعكس على سلوكيات المواطنين، فاختفت مظاهر الافتخار العلني وإعلان القوة بالسلاح، والتي كانت تشهدها المحافظة، والتي شاهدتها بنفسي بوضع بعض المواطنين أسلحة ثقيلة ورشاشات متعددة الطلقات أعلى السيارات التي يقودوها إضافة إلى الأسلحة الآلية التي كانت أطفال لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات يحملونها ويسيرون بها في الشوارع دون رقيب، كما أشادوا بسلوك رجال الأجهزة الأمنية عند خروج حملات للقبض على المتهمين من منازلهم، وأنهم لا يتعرضون إلا لأسماء محددة في كشوف معدة لديهم مسبقاً ودون الإساءة لأهل المنزل.
إلا أن هذا التواجد الأمني والشرطي لم يضع حدا لحالات خطف الأقباط وابتزازهم وإجبارهم على دفع الإتاوات للدرجة التي جعلت محامي أحد المخطوفين من رجال الأعمال الأقباط الذي أطلق سراحه بعد دفع إتاوة قيمتها ٣ ملايين جنيها يقول أن أجهزة الأمن تحمي المنشآت ولا تحمي المواطنين. وفي حالتنا هذه فقد حرر أهل المخطوف محضراً بالواقعة وطالبتهم الشرطة بالتفاوض مع الخاطفين والاتفاق معهم على مبلغ الإتاوة من اجل ضمان سلامة المخطوف، ولم تقوم أجهزة الأمن بدورها في التحري وجمع المعلومات ومحاولة الوصول للمتهمين، بل قامت بغلق المحضر وتقييد الواقعة ضد مجهول.
هذه لم تكن الواقعة الوحيدة، بل هناك حالات شبه يومية بمحافظة المنيا، قدرها الأنبا مكاريوس أسقف المنيا بما يزيد عن المائة حالة، فقد شجع الأداء الأمني الرخو وعدم التعامل بجدية مع هذه الظاهرة التي باتت تستهدف أمن المواطنين الأقباط وممتلكاتهم إلى تعدد العصابات الإجرامية التي ترتكب هذه الجرائم تحت وضح النهار، وبالقرب من تجمعات الأمن، ففي أحدى الحالات بقرية دلجا التي تشهد وجوداً أمنيا مكثفاً من قوات الشرطة والجيش، ارتدى بعض المجرمين ملابس شرطية ودخلوا منزلين لأقباط، وطلبوا شخصا من كل منزل بحجة تسجيل بياناتهم، ثم خطفوهما في سيارتين واختفوا. وتكشف هذه الحالة الاستهانة برجال الأمن الناتجة من الضعف والعجز، وغياب الإرادة للتعامل مع هذا الملف ووضع نهاية له. فقد أدى فشل الأجهزة الأمنية خلال الفترة الأخيرة إلى تعرض أهالي المخطوفين للنصب، ودفع مبالغ مالية لغير الخاطفين، وعدم عودة ذويهم أو معرفة أخبارهم، كما تكون ما يمكن تسميته ب "سماسرة الخطف" أي أشخاص معروف عنهم تعدد العلاقات ومعرفة العصابات يتفاوضون كوسطاء بين الأهالي والعصابات مقابل مبالغ مالية، وبالرغم من أن أسماء هؤلاء وكثير من أعضاء العصابات معروفة للقاصي والداني وللأجهزة الأمنية إلا أنهم أحرار يتحركون بين قرى ومدن المحافظة دون قيود.
تلك الوقائع وغيرها الكثير تدفعنا للتشديد على أنه لو وجدت الرقابة والمحاسبة من قبل الدولة والمجتمع على أداء الأجهزة الأمنية ومدى نجاحها في القيام بدورها لما رأينا التقصير والفشل في منع حالات الاختطاف وفرض الإتاوات، ولما رأينا انتهاك القانون بالقبض العشوائي والمعاملة المهينة للمتهمين. فلا يجوز التحجج بالإرهاب لارتكاب هذه الجرائم التي يجب على النيابة العامة بوصفها محامي الشعب أن تتحرك وتحقق فيها.
تم النشر بمدي مصر بتاريخ 28 أبريل 2014