ذوي الأمراض المستعصية والرعاية الملطَّفة للآلام في مصر

8 أبريل 2019

المقدمة

تعاني الكثير من الأسر المصرية من الألآم، والعبء المالي، والاستنزاف العاطفي المرتبط بفترة ما قبل وفاة أحد الأقارب أو المعارف بسبب عزوف الكثيرين عن الحديث عن الموت، متوهمين أنهم بذلك يفلتون من الآلام المرتبطة بفقدان شخص عزيز. ولكن مثل هذه القناعات الخاطئة تطيل فترة الحزن على أسرة المتوفى وأحبائه (Prater). وبسبب هذه المعتقدات وعدم تقبل النقاش حول الموت، فإن مرحلة نهاية العمر هي الأصعب نفسيًا وماديًا في حياة المواطن المصري. وفي الوقت نفسه، يتم استنزاف ميزانيات الدولة والأسرة لتقديم خدمات الرعاية الصحية، التي تفشل- في واقع الأمر- في توفير خدمة حقيقية ومُرْضِية للمرضى في كثير من الأحيان. ومع الأسف، يؤثر مثل هذا السلوك في التعامل مع مرحلة نهاية العمر سلبًا على مخرجات الأبحاث والسياسات الوطنية والأولويات الحكومية. فالبحث العلمي المتعلق بفترة نهاية العمر في مصر شبه منعدم، وعدد الباحثين في مجال الرعاية الصحية حول هذا الموضوع لا يزيد عن اثني عشر باحثًا. ولهذا السبب، تقدم هذه المقالة لمحة عامة عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية والصحية الناجمة عن عدم الاستعداد لهذه المرحلة الحتمية في حياة كل إنسان. وتشدد على الحاجة إلى أدوات وتدابير وسياسات وطنية مبنية على الأدلة، كي تعطي هذه المرحلة الحرجة الأهمية التي تستحقها.

الحاجة إلى الرعاية التلطيفية

إن غياب النقاش حول مدى جدوى العلاج، واللجوء إلى إخفاء نتائج التشخيص الدقيق للأمراض ذوي الحالات المستعصية قد يؤدي إلى تكلفة علاجية باهظة الثمن أو تدخل جراحي غير مطلوب أو مدروس؛ مما يؤدي إلى ألم زائد ومعاناة تلازم المريض حتى الموت. أحد الأمثلة التي تؤكد الحاجة لتطوير الرعاية التلطيفية والرعاية في نهاية العمر في مصر هي سبل استخدام الموارد الوطنية لمكافحة السرطان والتي توجه في الأغلب للعلاج، رغم أن معظم حالات السرطان يتم اكتشافها في مراحل متأخرة لا تستجيب عادةً للعلاج الشفائي (Elshamy، 2015). كما أن اﻟﺧطـأ اﻟﺷﺎﺋﻊ في التعامل مع وﺣدة اﻟﻌﻧﺎﯾﺔ اﻟﻣركزة (ICU) على أنها مكان للمرضى الميؤوس من شفائهم، وليس المرضى ذوي الحالات الحرجة، هو مثال آخر للحاجة إلى الرعاية التلطيفية Mokhtar, 2015))؛ ولهذا أصبحت عنصرًا لا غنى عنه للرعاية الشاملة في معظم أنحاء العالم. ولكنها ما زالت غائبة عن الساحة المصرية. وعلى الرغم من أهميتها، فقد صُنفت مصر في المرتبة 79 من بين 80 دولة فيما يتعلق بجودة بيئة الرعاية التلطيفية والرعاية الصحية، ووجود استراتيجية حكومية مفصلة وفعالة ومُنَفَّذة على نطاق واسع. وقد تم الوصول إلى هذا الترتيب، الذي أجرته وحدة الاستخبارات الاقتصادية في عام 2015، باستخدام مجموعة من المؤشرات القابلة للقياس مثل وجود سياسات حكومية ملائمة وقابلة للتنفيذ، من أجل تقديم خدمات الرعاية التلطيفية. واستنادًا إلى المادة 12.1 في إطار القسم الدولي لحقوق الإنسان في الصحة، ضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (ICESCR, 1996) يزداد الاعتراف بالرعاية التلطيفية كحق من حقوق الإنسان.

وعلاوة على ذلك، ففي مصر، غالبًا ما يتم تشخيص المصابين بأمراض مزمنة ومُهددة للحياة، مثل أمراض القلب وأمراض الجهاز التنفسي، في مراحل متأخرة. هذه الأمراض تمثل ما يُقَدر بـ 82٪ من جميع الوفيات، و67٪ من الوفيات المبكرة في مصر، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. وفي معظم الأحيان يتم تأخير إحالة المرضى إلى الأخصائيين الطبيين، مما يزيد من احتمالية عدم استجابتهم للعلاج. ولذلك، فإن محاولة علاج هذه الأمراض بالتدخلات الطبية المكثفة والمكلفة، غالبًا ما تؤدي إلى حياة مأساوية (بعد التدخل الجراحي)، ومعاناة نفسية واجتماعية للمرضى وذويهم. ورغم أن التقديرات تشير إلى أن 70-90 ٪ من مرضى السرطان يحتاجون إلى مسكنات (قوية أو متوسطة) لتخفيف آلامهم، فإنه يتم تهميش وإهمال بعض المرضى غير المستجيبين للأدوية والعلاج. وإذا ما قارنّا هذا الوضع بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، نجد أن ما يقرب من نصف مرضى السرطان في تلك المنطقة ​يقومون بزيارة الطبيب فقط عندما يصل السرطان إلى مرحلة غير قابلة للشفاء (Silbermann et al. ،2015). فالتركيز على الرعاية الأساسية لتحسين نوعية الحياة ذو أولوية وأهمية بالنسبة لهم. ولذلك، فإن خيارهم الوحيد للعلاج الواقعي هو الرعاية الملطفة والرعاية في نهاية العمر.

إن تعلق المرضى المصابين بأمراض مزمنة بأي أمل -حتى لو كان كاذبًا- يجعلهم أكثر هشاشة وعرضة للانتكاس نتيجة لهذا النظام الصحي المتهالك. وفي ظل تدهور خدمات الصحة العامة في مصر، فإن العيادات الخاصة ومقدمي الخدمات الصحية أصبحوا أكثر جاذبية، مما أدى إلى ارتفاع نفقات الرعاية الصحية الخاصة بمبالغ ضخمة، حيث بلغت 62٪ من إجمالي النفقات الصحية (WHO Global Health Expenditure Database). كما أظهرت دراسة أجريت في عام 2014 (قبل تعويم العملة) أن الإنفاق الشخصي على الأمراض المدمرة والرعاية الصحية، يقود أكثر من خُمس تعداد السكان إلى كارثة مالية ويدفع 4٪ منهم إلى فقر مدقع (رشاد، 2014).

واﻟﺟدﯾر ﺑﺎﻟذﮐر أﻧـه ﻋﻟﯽ اﻟرﻏم ﻣن اﻟزﯾﺎدة اﻟﻧﺳﺑﯾﺔ ﻓﻲ ﻣﯾزاﻧﯾﺎت اﻷﺳر اﻟﺗﻲ ﺗﻧﻔق ﻋﻟﯽ اﻟﺻﺣﺔ، ﻻ ﺗﺳﺗطﯾﻊ ﻧﺳﺑﺔ ﻣﺗزاﯾدة ﻣن اﻷﺳر ذات اﻟدﺧل اﻟﻣﻧﺧﻔض ﺗﺣﻣل دﻓﻊ رﺳوم اﺣﺗﯾﺎﺟﺎﺗﮭﺎ اﻟﺻﺣﯾﺔ (Christopher، 2011). ونتيجة لذلك، أصبح إجراء الفحوص الدورية والرعاية العلاجية الكافية أمرًا لا يمكن تحمله، مما يزيد من احتمالية تقدم المرض إلى مراحله النهائية. ولذلك ظهرت حاجة ماسة إلى الرعاية التلطيفية والرعاية في نهاية العمر، نظرًا لوجود مرض مستعصٍ على نطاق واسع بين المرضى من الأسر ذات الدخل المرتفع أو المنخفض.

لا تقتصر الرعاية التلطيفية على رعاية نهاية العمر فقط، بل تشمل أيضًا الحالات المستعصية من خلال الاهتمام بضمان جودة حياة مثالية للمرضى والقائمين على رعايتهم. ويتم إجراء ذلك جزئيًا بإدارة الألم وأعراض المرض، ومعالجة الاحتياجات الاجتماعية والنفسية خلال فترة المرض بأكملها. ويعتبر الكثيرون أن الرعاية في نهاية العمر لا تركز إلا على المرضى الذين يقتربون من نهاية حياتهم، وعادةً ما يكون ذلك خلال آخر 6-12 شهرًا من حياتهم. ولكن الهدف الأساسي للرعاية في نهاية العمر هو الحفاظ على نوعية الحياة وتمكين المرضى من نيل "وفاة صحية".

ما معنى "وفاة صحية"؟

إن مفهوم "الوفاة الصحية" ودورها في الحفاظ على كرامة وخصوصية المتوفى هو مفهوم غير مألوف في مصر. وتُعرِّف منظمة الصحة العالمية الصحة على أنها "تمام العافية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، وليست مجرد غياب المرض أو العجز". وبناءً على ذلك، فإن الهدف من أي نظام للرعاية الصحية هو التأكد من أن مرحلة نهاية الحياة صحية بقدر الإمكان. علاوة على ذلك، هناك إجماع عالمي على أن الوفاة الصحية تخلو من الألم وتتم في راحة، ويفضل أن تكون في المنزل، لإتاحة الفرصة لانخراط المرضى مع العائلة والأصدقاء. وعلى العكس فإن "الموت غير الصحي" في الغالب يتكون من عملية طويلة ومرهقة ومؤلمة، يكون فيها المريض خائفًا، ومغتربًا عمن حوله، ومثبتًا على أجهزة تعينه على البقاء على قيد الحياة أكبر قدر ممكن (هانكوك، 2015). كذلك تؤثر الظروف المعيشية للناس، ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي وتصوراتهم بشكل كبير على خياراتهم.

نهاية حياة كريمة وصحية 

هناك العديد من الدول المتقدمة والنامية التي طبقت سياسات وطنية لمعالجة عيوب الرعاية التلطيفية وخدمات الرعاية الصحية للحالات المستعصية. وعلى سبيل المثال، بلدان مثل المملكة المتحدة ورواندا وكينيا وناميبيا طورت ونفذت سياسات وطنية للرعاية في نهاية العمر نجحت في تحسين رفاه المرضى بشكل ملحوظ. كما قللت من التكاليف غير الضرورية التي لا تتطابق مع تفضيلات المرضى.

في مصر، تعمل المنظمات المحلية غير الحكومية وعدد محدود من مراكز الرعاية التلطيفية على توفير حد أدنى من الخدمات، لكنْ بالرغم من تعرضهم لإهمال المسؤولين الحكوميين منذ سنوات عديدة، وغير ذلك من الصعاب، تمكنت هذه المراكز من إحداث فرق في الطريقة التي يعيش بها الناس أيامهم الأخيرة. فمثلًا، الخدمات المقدمة من خلال وحدة الرعاية التلطيفية في كلية الطب في جامعة القاهرة تخفف من آلام حوالي 600 مريض كل عام. وبالتالي، يحسنون بشكل كبير وملحوظ من جودة حياة المرضى أثناء خضوعهم للعلاج. وقد أعانت هذه الجهود 73٪ من المرضى- الذين يعانون من أمراض مستعصية - على تحقيق رغبتهم في الموت بشكل مريح في المنزل (Alsirafy، 2010). كما تقدم المنظمات غير الحكومية المحلية مثل مؤسسة جوساب خدمات منزلية إلى مئات المرضى الذين يعانون من أمراض ليس لها علاج في جميع أنحاء مصر وتسمى Hospice Care.

ومع ذلك، فإن هذه المبادرات لا تكفي لمعالجة الضعف الحالي في إتاحة الخدمات الصحية لفترة نهاية العمر في مصر. ففي عام 2009 وبوجود 65 مليون نسمة في المملكة المتحدة، تم توفير ما يقرب من 3200 سرير للعناية التلطيفية. وباختصار شديد، لم تمتلك مصر مائة من هذه الأسرة في 2010 (توجد في كلية الطب بجامعة القاهرة 8 سرير مخصص لهذه الحالات المقيمين في المستشفى فقط، في حين أن البقية تأتي من المنظمات غير الحكومية) (Alsirafi، 2010).

الخلاصة

عدم طرح هذا الموضوع في النقاشات العامة وغياب الوعي يعني أن العديد من المرضى سيموتون وهم يعانون من آلام مبرحة، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي. لكن التركيز على الرعاية التلطيفية والرعاية في نهاية العمر قد يُسرع التقدم نحو تقليل المعاناة الممكن تجنبها. ولهذا السبب، يجب دراسة الطريقة التي يتم بها التعامل مع مرحلة نهاية العمر في مصر لغرس أي تغيير حقيقي بخصوص هذه المشكلة.

ومن أهم التغييرات المطلوبة إدراك أن دور مقدمي الرعاية الصحية ليس فقط إطالة العمر، ولكن أيضًا تحسين جودة الحياة (وخاصة عندما يكون الموت حتميًا). وبناءً عليه، يجب تنفيذ سياسات وطنية فعالة تستند إلى أدلة موثقة لضمان حصول المرضى على ما يلي: 1) معلومات دقيقة حول تقدم صحتهم، 2) خيارات فيما يتعلق برعاية نهاية حياتهم، و3) العلاج الذي يحسن نوعية حياتهم ويقلل من آلامهم. وبموجب هذا النظام، ستتم دراسة الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية بعناية وتقليلها إلى الحد الأدنى.

تم نشر هذا المقال علي موقع حلول للسياسات البديلة   بتاريخ 7 ابريل 2019