وماذا عن قطار التقشف الذي لا يتوقف؟
عقب مصرع 22 شخصًا وإصابة 45 آخرين في حادث محطة قطار رمسيس الأسبوع الماضي، ثارت حالة من الجدل عن أسباب المأساة، واتسع ذلك النقاش العام أحيانا ليثير أسئلة عن مفهوم السببية ذاته. كيف لنا أن نُثبت بدون أي شك أن أحد تلك الأسباب هو بعينه المسؤول عن تلك النتيجة؟ وإذا كانت العلاقة السببية مجرد احتمال، فكيف لنا أن نعرف متى يؤدي السبب إلى نتيجة في بعض الحالات دون غيرها؟ متى يعني الارتباط بين ظاهرتين أن بينهما علاقة سببية؟ ومتى تسقط هذه الفرضية؟ ومتى يبدأ الأثر المضاعف للحدث؟ ومتى ينتهي؟ وهل ينتهي أصلًا؟ وما هي حدود سياق أي حادث التي يجب أن نذهب لها حتى لا ننتزع الأحداث من سياقها؟
ما هي أسباب ظواهر اجتماعية مثل الفقر والتطرف والتمييز الجنسي؟ ولماذا تظهر في سياقات مُعينة دون غيرها؟ لسوء الحظ، ليس هناك –ولن يكون- إجماع حول إجابة هذه الأسئلة عن تلك الظواهر الاجتماعية متعددة الأوجه. وتُعد قضية السببية من أصعب الأمور في البحث الاجتماعي والعمل الإحصائي.
ومع ذلك، فإن إدارة كافة أوجه الحياة تقتضي مواجهة تلك الإشكالية المعرفية. فكيف لنا أن نواصل الحياة من دون محاولة تحديد ما يتسبب في قتلنا أو يجعلنا فقراء،.. إلخ؟ يُذكرنا الجدل المحتدم حول مسؤولية حادث محطة القطارات في مصر بأن قضية السببية لا تخلو أيضًا من انحياز سياسي وأيديولوجي.
من وجهة نظر مؤيدي النظام الحاكم، يرجع سبب المأساة إلى إهمال سائق القاطرة، ما يحصره في المستوى الجزئي ويعزله عن قضايا هيكلية كلية. وتمادى البعض إلى حد اعتبار الحادث عملًا إرهابيًا من تدبير جماعة الإخوان المسلمين. وجاء التفسير الأعمق من معسكر مؤيدي النظام الحاكم بأن مشكلة السكك الحديدية في مصر مشكلة قديمة، وتحتاج إلى مزيد من الوقت لإصلاحها، ولا يمكن إلقاء اللوم فقط على الإدارة السياسية الراهنة.
من جهة أخرى، انصب تركيز منتقدي النظام السياسي على الأسباب الهيكلية الكُبرى «السياق العام»، وغير المباشرة بطبيعة الحال. وألقوا باللوم على قلة الاستثمارات، والافتقار إلى المُحاسبة، وسوء ترتيب الأولويات، بل واعتبروا أن الرئاسة تتحمل المسؤولية السياسية عن الحادث.
ومع ذلك، لم تضع أغلب الأسباب المطروحة للحادث –حتى التي وضعت السياق العام في الحسبان- في اعتبارها البُعد العالمي، ما يجعلها أسبابًا لا تاريخية وخارجة عن السياق، أو على الأقل لم تتجاوز السياق الوطني التاريخي. على سبيل المثال، لم أصادف تحليلًا يعزو الحادث إلى النزعة العالمية التاريخية للتقشف، على الرغم من دورها الواضح في تدني مستوى الخدمات العامة. وأعتقد أن هذا القصور يرجع إلى سببين رئيسيين: الأول، هو أن هذه الرؤية تضيف المزيد من العوامل والأبعاد (الجغرافية والتاريخية) إلى النقاش، ما يزيده تعقيدًا. ثانيًا، أن استدعاء الأبعاد العالمية يبدو كمساحة خطابية غير آمنة، لأنها لا تتماشى مع الخطابات والتحيزات الراسخة منذ زمن طويل عن دول الجنوب العالم وما تعانيه من استبداد وفساد وانعدام للمحاسبة، والتي تُعَلِمنا التعامل مع مشاكلنا محليًا، حتى إن كان العديد من أسبابها عالميًا. ولقد نتج هذا عن الهيمنة النيوليبرالية. فعلى الرغم من رؤيته العالمية، يعتبر الخطاب النيولبيرالي أن الفساد والاستبداد قضايا محلية في الغالب، ويحصرها في دول الجنوب العالمي بشكل كبير.
في مصر، من المتوقع أن ينخفض الإنفاق الاستثماري العام، والذي يتضمن الإنفاق على تحسين البنية التحتية بما فيها مرفق السكك الحديدية إلى 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2020-2021، بعد أن كان 4.4% في السنة المالية 2016-2017، وهي نفس السنة التي شهدت تعويم الجنيه المصري وتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي التقشفي، برعاية صندوق النقد الدولي. أما بالنسبة للإنفاق الحكومي العام، فمن المتوقع أن ينخفض بنسبة 8% من الناتج المحلي الإجمالي عن مستويات 2016-2017، ليصل إلى 22.7% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2020-2021.
دعونا نلقي نظرة على بعض الإحصائيات أو «الحقائق» عن تأثير سياسة التقشف على مرفق السكك الحديدية المصرية. استنادًا إلى أرقام نشرتها «مدى مصر»، انخفضت موازنة السكك الحديدية التي كانت تعاني بالفعل من نقص الموارد من 21.3 مليار جنيه مصري في السنة المالية 2015 -2016 (قبل تعويم الجنيه) إلى 20.6 مليار جنيه في السنة المالية 2019- 2018. وإذا حسبنا المبلغ بالدولار الأمريكي، سنرى أن الموازنة انخفضت من 2.7 مليار دولار في 2016- 2015 (بحسب سعر الصرف في ديسمبر 2015) إلى 1.17 مليار دولار (بحسب سعر الصرف الراهن) في 2018-2019. وإذا وضعنا التضخم في الاعتبار، سنصل إلى نفس الاستنتاج بأن القيمة الحقيقية للإنفاق قد انخفضت إلى النصف في غضون ثلاث سنوات فقط.
بطبيعة الحال، لا يجب تبسيط الوضع واختزال كل الأسباب في السياسات التقشفية وضعف الإنفاق؛ فيُمكن أن تزيد الحكومة من إنفاقها على السكك الحديدية، ولكن الفساد قد يلتهم الزيادة، أو تُستخدم الموارد الإضافية في تزيين مكاتب كبار الموظفين، لكن من جهة أخرى سيؤدي استمرار ضعف الإنفاق حتمًا إلى استمرار هذا النوع من حوادث تصادم القطارات، وموت الأبرياء من الركاب والمارة. بالطبع يمكننا إلقاء اللوم في كل مرة على السائقين أو الحكومة أو نُرجع الحادث إلى القضاء والقدر كما أشار عدد من مقدمي البرامج التلفزيونية. ولكن يجب ألا ننسى في لعبة اللوم تلك أن يحصل من خلقوا الظروف العالمية والأيديولوجية المُتسببة في هذه الأوضاع –عبر عمل متواصل لأكثر من نصف قرن- على نصيبهم العادل من اللوم.
بالطبع الوضع ليس كاريكاتيري إلى الحد الذي يطالب فيه صندوق النقد الدولي الحكومة صراحة بخفض الإنفاق على البنية التحتية للسكك الحديدية التي يستخدمها ملايين المواطنين، وإنفاق المليارات على العاصمة الإدارية التي لن يعيش فيها أحد. ولكن الصندوق غض البصر عن أولويات الإنفاق الحكومي، واستخدم كامل نفوذه للدفع في اتجاه سياسات التقشف، حتى عندما أبدت الحكومة استعدادها للتراجع –أو على الأقل تأجيل- بعض البنود التقشفية، كما حدث عند تنفيذ ضريبة القيمة المضافة، ورفع دعم الوقود. ولقد ساد اعتقاد واسع بأن الدفعة الخامسة من القرض تأخرت لأن الحكومة أرادت تأجيل قرار رفع الدعم عن الوقود، واتضح هذا بمجرد أن وعدت الحكومة بعدم التأجيل. أما بالنسبة لضريبة القيمة المضافة، فقد تأجل الاتفاق الأوليّ للقرض لحين انتهاء الحكومة من فرض الضريبة وتحرير سعر صرف الجنيه، وهما قراران ترددت الحكومة في تنفيذهما لأسباب معروفة، إلا أن الصندوق أوضح أن القرض مرهون بتطبيقهما.**
لم يبدأ الانخفاض الكبير في الإنفاق مع برنامج التقشف الأخير ولكنه نتيجة محاولات مستمرة منذ أربعة عقود على الأقل، حيث شيطن الخطاب الأيديولوجي التقشفي أي شكل من أشكال الاستثمار العام أو الملكية الجماعية بدعم أصحاب مصالح لديهم نفوذ واسع.
في كتابهما « اقتصاد الجسد: لماذا يُعتبر التقشف قاتلًا»، أشار الكاتبان دافيد ستاكلر وسانجي باسو إلى أن التقشف ليس مجرد سياسة اقتصادية ذات عواقب مالية ونقدية فقط، ولكنه يؤدي إلى وفاة عدد كبير من الناس. لقد رصدا تأثير التقشف على الصحة العامة، ومن بين النتائج التي توصلًا إليها أن معدل الإصابة بالأزمات القلبية في مدينة لندن ارتفع بواقع ألفي شخص نتيجة اضطرابات السوق بسبب الأزمة المالية. كما زادت معدلات الوفاة كذلك نتيجة الانتحار وإدمان الكحول.
ولقد أدى تعاطي المخدرات والانتحار إلى انخفاض متوسط العمر المُتوقع في الولايات المتحدة لمدة ثلاثة أعوام على التوالي، وهو أطول انخفاض في متوسط العمر خلال قرن. ومن الصعب ربط الأمر مباشرة بسياسات التقشف، ولكن تعاطي المخدرات والكحول والانتحار هي من الظواهر الاجتماعية الأكثر ارتباطًا بالصعوبات الاقتصادية. وتحتل بريطانيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، إذ شهدت شبه ثبات في زيادة متوسط العمر، ما يُعد أسوأ تباطؤ في أخر 120 عامًا، ويعزوا البعض هذا التباطؤ إلى سياسات التقشف التي طبقتها بريطانيا مؤخرًا.
ووفقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية، انخفض متوسط العمر المتوقع للنساء في مصر في السنوات القليلة الماضية. وعلى حد علمي، لم يناقش أحد أو يبحث عن أسباب هذا الانخفاض، ولكنني لن أندهش إذا علمت أن أحد هذه الأسباب هو الظروف الاقتصادية الصعبة. ولكي نتحاشى انتقائية البيانات، تجدر الإشارة إلى أن هذا النمط ليس دائمًا واضحًا، فمن المُحتمل وجود زيادة في متوسط العمر في مناطق خاضعة لبرامج تقشفية، ولكن من الضروري كذلك أن نوضح أن التقشف لا يؤثر في الجميع بنفس القدر داخل الدولة الواحدة، ومن دولة لأخرى. تُقاس نسبة متوسط العمر على المستوى القومي، ولا تُصنف حسب مستوى الدخل، والمنطقة، إلخ. ويذكرنا هذا بضرورة إجراء مسوحات أكثر تفصيلًا للعلاقة بين التقشف ومتوسط العمر المتوقع، خصوصًا بين السكان الأكثر فقرًا وتضررًا من التقشف.
وأخيرًا، يجب أن نلاحظ في حادث محطة القطار، حتى إن ألقينا بالمسؤولية على السائق، أن تكرار المسؤوليات «الفردية» عن الحوادث ينتزع منها صفة الفردية، وتصبح المشكلة بطبيعة الحال هيكلية، ترتبط بنظام المُحاسبة، وتدريب السائقين، وسلامتهم العامة، ومن بينها سلامتهم النفسية. ويحق لنا أن نتساءل إذا ما كان عدم اكتراث السائق وإهماله ليسا نتيجة للضغوط الاقتصادية الشديدة والمتزايدة عليه، أو على الأقل بسبب ضعف التدريب وعدم ملاحظة الحالة النفسية للسائقين، نتيجة نقص الإنفاق على هذا المرفق الحيوي.
عندما يقتل التقشف، فإنه يقتل ببطء وهدوء، على المستوى الفردي، في حوادث صغيرة ومتفرقة، لا تتصدر عناوين الصحف، ولا تنطوي على دلالة رمزية أو تعطينا مؤشرًا تراكميًا. ولكن أحداث الموت الجماعي المأساوية والموثقة جيدًا، مثل مأساة حادث محطة مصر، أكثر قدرة على فتح نقاش حول تأثير سياسات التقشف.
ولا يقتصر ضعف الإنفاق على السكك الحديدية فحسب، بل ينطبق كذلك على التعليم والصحة وجوانب أخرى من الاستثمارات العامة، كما أظهر بحث المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. لكن بما أن المدارس والمستشفيات لا تتحرك بسرعة كبيرة على قضبان ثم تصطدم بالمباني وتنفجر، فإنها لا تسبب هذا الشكل من الموت الجماعي الدرامي، بل تؤدي إلى النوع الآخر من الموت الهادئ والمتفرق.
نشر هذا المقال في موقع مدي مصر بتاريخ 3 مارس 2019