التسريبات السويسرية والسباق المحتدم إلى القاع أسامة دياب
أحدثت التسريبات التى قام بنشرها الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين بالاشتراك مع جريدة لوموند الفرنسية والتى تحتوى على معلومات عن حسابات مائة ألف عميل من عملاء بنك إتش إس بى سى البريطانى، رد فعل عالميا واسعا لما قدمته عن معلومات بنكية سرية خاصة منهم مشاهير وشخصيات أصحاب مناصب سياسية رفيعة. من ضمن تلك الشخصيات كان ملك الأردن عبدالله الثانى وملك المغرب محمد السادس والسلطان قابوس حاكم عمان.
ما تم عرضه حتى الآن من التسريبات التى حصل عليها موظف سابق فى الفرع السويسرى للبنك البريطانى لا يشمل الكثير من المعلومات الخاصة بشخصيات مصرية باستثناء رجل الأعمال الهارب ووزير الصناعة فى عهد مبارك وعضو مجلس إدارة نفس البنك فى مصر رشيد محمد رشيد، حيث كشفت التسريبات عن استخدامه للبنك مثله مثل كثير من الآخرين (وعلى رأسهم مبارك وابناه) وحصوله على عشرة حسابات سرية لم يدرجها فى إقرار الذمة المالية المقدم إلى جهاز الكسب غير المشروع فى 2011 مما يعنى قصد إخفاءها حسبما جاء فى جريدة الوطن التى كانت جزء من هذا المشروع الاستقصائى الضخم.
وفقا لموقع الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين، تحتل مصر المركز العشرين عالميا من حيث كمية الأموال الموجودة فى الملفات المسربة فقط الخاصة ببنك واحد عن فترة زمنية معينة بقيمة 3.5 مليار دولار منتمين لـ700 شخصية فى 1478 حسابا بنكيا، وتأتى مصر قبل دول مثل الإمارات المتحدة وتركيا والأرجنتين. من حيث الترتيب فى كمية الودائع. كما أن العميل المرتبط بمصر الذى يملك أكبر قدر من الأموال فى ملفات التسريبات يملك 856 مليون دولار، ولكن لم تفصح التسريبات عن شخصيته. من بين هذه الحسابات «المصرية» أيضا العديد من الحسابات المرتبطة بشركات «أوف شور» مسجلة فى الملاذات الضريبية، وهى عادة ما تكون شبكات من الشركات والحسابات المصرفية السرية المصممة خصيصا لتضليل مأمور الضرائب أو إخفاء الأموال عن أعين السلطات أو بغرض غسيلها أو تبييضها.
● ● ●
ومن بحثى على مدى أكثر من سنتين فى قضية الملاذات الضريبية وإخفاء الأموال بغرض التهرب الضريبى أو غسيلها، لم أجد أى من الشركات الكبيرة فى السوق المصرى التى لا تستخدم هذا النظام الضريبى لدرجة إنها تحولت لممارسة شبه عادية يتورط فيها الجميع. ففى بيانات صادرة عن وزارة الاستثمار عن حجم الاستثمارات الأجنبية فى الـ43 عاما من 1970 لـ2013، جاءت الدويلات الصغيرة التى تشتهر بكونها ملاذات ضريبية فى مراكز متقدمة جدا من حيث حجم الاستثمارات بشكل لا يتناسب مطلقا مع حجمها مما يثير العديد من علامات الاستفهام. ففى المركز السادس من حيث الدول المستثمرة فى مصر تقع جزيرة حجم سكانها بضع العشرات من الآلاف تدعى جزر كايمان فى المركز السادس (قبل دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا) بنحو 85 شركة إجمالى رأس مالها نحو 6 مليار دولار، وتستثمر هذه الدويلات الصغيرة فى نحو 479 شركة مصرية رأسمالها يتخطى الـ12 مليار دولار. والسبب فى استثمار هذه الدويلات الصغيرة هذه الاموال الطائلة هو تسجيل رجال اعمال مصريين وغير مصريين شركاتهم فى هذه الدول لتحويل الأرباح لها وتفادى دفع الضريبة المستحقة على أرباحهم مما يؤدى إلى إخفاء بيانات المساهمين الحقيقيين بما فيها جنسياتهم.
لو فرضنا أن هذه الأموال تدر عائدا على رأس المال بنسبة 20%، فيكون إجمالى الأرباح نحو 20 مليار جنيه مما يجعل الضرائب المستحقة على المبلغ أكثر من خمسة مليار جنيه سنويا وهو جزء صغير مما تكلفه هذه الممارسة على الاقتصاد القومى. فبالإضافة إلى ذلك، تقدر منظمة النزاهة المالية العالمية (Global Financial Integrity) حجم الأموال غير الشرعية المهربة من مصر بنحو 132 مليار دولار (أى ما يزيد على تريلون جنيه مصرى) فى الثلاثة عقود ما بين 1981و 2010، وتؤكد منظمة النزاهة العالمية على أن هذا التقدير قد يكون محافظ بشكل كبير نظرا لأن بعض البيانات—خصوصا الأقدم منها—كانت غير متوافرة بالشكل المطلوب، ومن هذا المبلغ يتضح أن نحو نصفه أو 61.66 مليار دولار (مصرى) ذهبوا نتيجة لنوع من أنواع التهرب الضريبى الناتج عن «ضرب الفواتير» باستخدام شبكة من الشركات المسجلة فى الملاذات الضريبية.
هذا على مستوى الهدر على صعيد مصر، فماذا على الهدر على الصعيد العالمى؟ قدرت شبكة العدالة الضريبية حجم الثروة الموجودة فى ٨٠ ملاذا ضريبيا بما يتراوح ما بين ٢١ إلى ٣٢ تريليون دولار، ويمثل هذا الرقم الخيالى نحو ثلث الناتج المحلى الإجمالى العالمى السنوى، وسدس إجمالى الثروة فى العالم. كما قدرت منظمة أوكسفام الدولية حجم الاستثمارات الموجودة فى تلك الملاذات ٢٠١٣ بنحو ١٨,٥ تريليون دولار سنويا، وهو مبلغ توفر الضرائب المستحقة عليه فقط ضعف المبلغ المطلوب للقضاء على الفقر تماما فى جميع أنحاء العالم، وفقا لمنظمة أوكسفام.
السؤال الملح هنا هو ماذا تفعل مصر لمواجهة هذه الظاهرة، خصوصا أن الحكومة قد أقرت أخيرا فى استراتيجيتها لمكافحة الفساد بخسارة 68 مليار جنيه سنويا نتيجة للتهرب الضريبى وهو رقم أكبر كثيرا من الميزانية الإجمالية لقطاع الصحة (42 مليار) والاسكان (32 مليار) فى مصر سنويا؟
● ● ●
المشكلة أن بالرغم من كل هذه الممارسات والأرقام، فإن الحكومة ما زالت تتسابق حتى تمنح الشركات العملاقة المزيد من الدعم و"الأجازات الضريبية" بهدف جذب رأس المال الجديد والحيلولة دون هروب رأس المال الموجود إلى أماكن تقدم المزيد من الاعفاءات الضريبية، مما يؤدى إلى أن جميع الدول «تِنَزِل على بعض» مما يؤدى إلى صراع إلى القاع قد يكون مؤداه انهيار الدول والحكومات وقدرتها على تقديم الخدمات العامة لذا فالبديل الوحيد الفعال والمستديم لابد أن يكون ذا بعد دولى، ولا بد أن يكون دور مصر هو الانضمام إلى التيار الذى يسعى ويضغط لحل المشكلة، وليس للتيار الذى يعمق من المشكلة بتشجيع ممارسات تزيد من احتدام السباق إلى القاع.
وأذكر ما قاله خبير بريطانى متخصص فى شئون العدالة الضريبية فى محاضرة فى لندن قد شرفت بحضورها بأن المنافسة المحتدمة بين الشركات التى تؤدى لانهيار الأسعار قد تؤدى لخروج بعض الشركات من السوق، وبتطبيق نفس المبدأ قد تؤدى أيضا تلك "المنافسة" بين الدول إلى إعلان إفلاس بعضها و«خروجها من السوق» خصوصا الدول الفقيرة التى تعانى من أعباء ديموغرافية مثل مصر، فإن لم تتخذ إجراءات حاسمة قد تكون مصر من أول الدول التى تصل إلى خط النهاية فى هذا السباق المشئوم.
تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 14 فبراير 2015