قل انتهاكات الحقوق الاقتصادية ولا تقل جرائم الفساد

2 نوفمبر 2014

كنتُ قد حضرتُ ورشةَ عمل مؤخراً في كيب تاون في جنوب أفريقيا، وهي المدينة التي قضى فيها مانديلا سنوات سجنه السبع وعشرين، قبل أن يُطلق سراحه عام 1990 ليقود مفاوضات مع نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) حتى يصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا عام 1994، لينتهي بعدها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. لكن برغم انتهاء نظام الفصل العنصري رسمياً وقانونياً، ما زالت التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الجنوب الأفريقي كما كانت قبل سقوط النظام، ويعتقد كثير من المهتمين بالشأن العام في جنوب أفريقيا أن الديمقراطية الوليدة في خطر بسبب التوتر الاجتماعي ما بين الفئات ذات الأصل الأوروبي، التي تشكل أغلبية الطبقة الوسطى والطبقات الغنية والأوفر حظاً، والمواطنين السود و"الملونين" الذين يشكلون أغلبية الطبقة العاملة والمهمشة اقتصادياً واجتماعياً، وهي التركيبة التي لم تتغير كثيراً منذ سقوط نظام الفصل العنصري.

يوجد اعتقاد سائد في جنوب أفريقيا بين الذين شاركوا في التحول من نظام الفصل العنصري إلى نظام ديمقراطي، الذي أدى إلى وصول الأغلبية ذات البشرة السمراء إلى سدة الحكم، أن من أهم أسباب غياب الحراك الاجتماعي هو القرار التي اتخذته لجنة الحقيقة والمصالحة التي شكلتها حكومة الوحدة الوطنية عام 1995 لكشف الحقيقة عما جرى من انتهاكات لحقوق الإنسان خلال فترة حكم الأبارتايد بهدف المصالحة وتعويض الضحايا وكشف الحقيقة بنية غلق صفحة الماضي، وكانت اللجنة تنظر فقط في انتهاكات حقوق الإنسان وتمنح التعويضات وتعيد تأهيل الضحايا بشكل فردي، وكان هناك قرار واع بعدم النظر في انتهاكات الحقوق الاقتصادية وجرائم الفساد التي أحياناً يُنظر إليها على أنها "جرائم بلا ضحايا" بعكس جرائم الانتهاكات الجسدية، ولكن في الواقع إن السبب الحقيقي، وفقاً لكثيرين ممن عملوا بالقرب من لجنة الحقيقة والمصالحة، هو أن هذا النوع من الجرائم يكون ضحاياه كثيرين ويشكلون مجتمعات كاملة وهو ما نذر بفتح صندوق الشرور وخروج الأمور عن السيطرة.

وبعد 20 سنة يندم الكثيرون في جنوب أفريقيا على عدم سلوك الطريق الصعب وإن شق عليهم. ومن الممكن اعتبار أن وضع مصر أفضل لغياب التوتر العرقي-الطبقي الموجود في جنوب أفريقيا حيث تتشكل أغلب الطبقة الوسطى والعليا من ذوات البشرة البيضاء وأغلب الطبقة العاملة والفقيرة من ذوات البشرة السوداء ومن يطلق عليهم اسم الملونين (coloured).

التفاوت الرهيب في مستوى المعيشة والدخل، يجعل أي ديمقراطية وليدة شكلية ومهددة وفي أحيان كثيرة قصيرة الأجل، وقد يتم تدريس مصر بعد سنوات من الآن كنموذج ومثال لهذه القاعدة. فمن الصعب نجاح أي محاولة للتحول الديمقراطي في مصر أو أي جزء من العالم بدون التعامل مع انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بنفس القدر من الجدية مثل انتهاكات حقوق الإنسان فيما يتعلق بالمصارحة والمكاشفة والتعويضات الجماعية.

لكن من أكبر العوائق في وجه تحقيق هذا الهدف هو التعامل مع انتهاكات الحقوق الاقتصادية الممنهجة كجرائم جنائية يتم التعامل معها بشكل فردي برغم منهجيتها فتجد قضية هنا ضد مبارك عن هدايا وأجندات تلقاها من الأهرام، وقضية هناك عن استخدام ميزانية قصور الرئاسة لتطوير العقارات الخاصة بعائلة مبارك، أو حتى القضايا المتفرقة للاستيلاء على أراضي الدولة بدون محاولة فهم آليات الفساد والحكم التي حولت تلك الجرائم إلى ممارسات ممنهجة تقودها شبكات مصالح من داخل النظام السياسي أو شديدة القرب منه.

التعامل بشكل فردي مع ممارسات ممنهجة ذات طابع سياسي كجرائم جنائية فردية لا يغير من الأمر شيئاً على المستوى الكلي، ولا يعالج أسباب تفشي تلك الممارسات من المصدر حتى إن وقع عقاب على الجاني أو تم إلزامه بدفع غرامة، لأنه يفشل في التعامل مع آليات وشبكات وبنية الفساد، لكن الأخطر في التعامل مع تلك الممارسات كجرائم جنائية هو خضوعها لنفس القوانين التي مررها مشرع غير منتخب كان من أهم وظائفه تمرير قوانين تمنح الحصانة لتلك الممارسات، فمن أكثر أشكال الفساد خطورة هو الاستحواذ على مؤسسات الدولة وعلى رأسها السلطة التشريعية من قبل شبكات مصالح اقتصادية ضيقة، مقارنة بالفساد الذي يتحرك في الخفاء بعيداً عن مؤسسات الدولة.

كثر الحديث في مصر بعد ثورة يناير عن قوانين الفساد التي تسهل من عملية الاستيلاء على الأراضي والاحتكارات وإنشاء صناديق خاصة غير خاضعة للرقابة، ولذلك التعامل مع الفساد كجريمة جنائية قد يصلح في الدول التي لا تمر بمرحلة انتقالية، والتي يكون نهب المال العام فيها حالات فردية متفرقة تمارس بعيداً عن مؤسسات الدولة وليس برعايتها، ولا يسيطر عليها قلة من رجال المال يستطيعون بنفوذهم وتوغلهم في مؤسسات الدولة أن ينفوا صفة الجريمة الجنائية عن ممارسات تعتبر جرائم في الدول التي تتمتع بقدر أعلى من سيادة القانون والديمقراطية، ولذلك إن توصيف انتهاكات الحقوق الاقتصادية كجريمة جنائية فقط يجعل المرجعية في التعامل مع تلك الممارسات هي نفس القوانين التي وضعها من يحاكم بها بهدف التحصن ضد الملاحقة القضائية، وأما توصيفها كانتهاكات للحقوق الاقتصادية فيجعل مرجعيتنا هي الاتفاقات والأعراف الدولية الموقعة عليها مصر، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ومن فوائد إرساء هذا المبدأ هو تفعيل أطر جديدة لاستعادة أموال الديكتاتوريات المنهوبة التي حتى يومنا هذا تعتمد بشكل كبير على قوانين ومؤسسات الدول التي تم نهبها، والتي وضعتها وشكلتها السلطة السياسية الفاسدة وفقاً لمصالحها، فبالإضافة إلى القدرة على تسهيل إعادة الأصول المنهوبة، إن التعامل مع المسألة من منظور حقوقي وليس جنائي فقط سيعظم من الاستفادة من الأموال المنهوبة عند استعادتها، لأن عند الاعتراف بمنهجية الفساد، سيكون الاعتراف بتأثيره الواسع على المجتمع والسلم الاجتماعي، ويفترض حينها أن تنفق الأموال المستردة كتعويضات لضحايا الجرائم الاقتصادية لتطوير المجتمعات الأكثر فقراً وتهميشاً كجزء أصيل من عملية التحول الديمقراطي وبناء مجتمع أكثر عدالة وسلماً.

الفائدة الأخيرة من التوصيف الحقوقي للجرائم الاقتصادية الممنهجة في عمليات العدالة الانتقالية والتحول الديمقراطي هو تعظيم فرض تطوير منظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مقارنة بمنظومة الحريات السياسية والمدنية على المستوى الوطني والدولي، مما يجعل أي مكتسبات حقوقية للنظام الوليد غير مهددة مثلما رأينا في مصر بعد مصادرة المجال السياسي والإعلامي وقرب مصادرة المجال الحقوقي، بعد تحقيقها لبعض المكتسبات والانتصارات بعد ثورة 25 يناير، ومثلما حدث في جنوب أفريقيا عندما ذهب نظام الفصل العنصري القمعي أدراج الرياح على الورق، لكنه باق على أرض الواقع يطل برأسه مهدداً أي مكتسبات للديمقراطية الحديثة نسبياً.

تعاملت في مصر الحكومات المتعاقبة بشئ من التهاون فيما يتعلق بانتهاكات الحقوق الاقتصادية مقارنة بانتهاكات حقوق الإنسان "التقليدية" مثل القتل والتعذيب (على الأقل على المستوى الخطابي)، فأغلب الحكومات تعاملت بتهاون مع جميع الحقوق، لكن ينظر أحيانا لجرائم المال العام على أنها جرائم بلا ضحية من الممكن فيها العفو والتصالح، في حين أن جرائم الانتهاكات الجسدية يكون فيها المجني عليه واضحاً بحيث يصعب في بعض الأحيان التنصل من المحاسبة حتى مع وجود رغبة في ذلك، ولنا في فيديو قناص العيون خير دليل على ذلك، فعندما تم التقاط فيديو له لم تجد المحكمة سبيلاً إلا إدانته بسبب وضوح أركان الجريمة من الفعل والجاني والمجني عليه.

ورأينا—كمثال على التفاوت في الخطاب بين المحاسبة على الجرائم الاقتصادية وانتهاكات حقوق الإنسان— المجلس العسكري الأول يصدر مرسوماً بقانون عرف إعلامياً ب "قانون التصالح" ينص على إجازة التصالح في جرائم المال العام، وتمت "طمأنة" المصريين أن هذا القانون سيتم تطبيقه على جرائم الفساد فقط وليس جرائم القتل. ورأينا نفس الفلسفة تتكرر في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، فصرح النائب العام حينها طلعت عبد الله، والذي عُين بأمر رئيس الجمهورية يعلنها صراحة أنه مع التصالح الذي لا يشمل جرائم الدم لأنها جرائم ذات طبيعة مختلفة. ورأينا النسخة الأخيرة من الدستور تنص في مادتها ال52 أن جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم في حين حكمت المحكمة بانقضاء الدعوة الجنائية في قضية فيلات شرم الشيخ المتهم فيها حسني مبارك وأسرته بقبول عطايا من رجل الأعمال الهارب حسين سالم في أواخر التسعينيات بتهمة استغلال النفوذ وقبول عطية لمرور عشرة أعوام على وقوع الجريمة، حسب المادة 15 من قانون العقوبات التي تنص على "انقضاء الدعوى الجنائية فى مواد الجنايات لمضي عشر سنين من يوم وقوع الجريمة وفى مواد الجنح بمضي ثلاث سنين وفى مواد المخالفات بمضي سنة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك".

وهذا بالرغم من وصف منظمة الشفافية الدولية إسقاط تهم الفساد بالتقادم بأنه "عد تنازلي نحو الإفلات من العقاب”. وتقترح المنظمة بعض الإجراءات، حتى لا يكون هذا القانون حصانة للموظف العام الذي قد يمضي في منصبه عدة عقود بعد ارتكاب الجريمة، أهمها المرونة في تحديد مدة التقادم في الوظائف التي تمنح أي نوع من أنواع الحصانة وقت ارتكاب الجريمة، فكلنا يعلم إنه لم يكن من الممكن كشف هذه الواقعة وإجراء التحقيقات بشأنها حين كان الرئيس مبارك لا يزال في الحكم خلال مدة التقادم.

وينظر تيار متصاعد داخل حركة حقوق الإنسان للفساد وانتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على أنه البيئة الحاضنة التي تترعرع فيها انتهاكات حقوق الإنسان والصراعات والحروب الأهلية، فأي تحسن على مستوى الحقوق السياسية والمدنية غالبا ما سيكون مؤقتاً وغير مستدام إذا لم تصاحبه سياسات عدالة اقتصادية تضيق الفجوة الاقتصادية بين شرائح المجتمع وتعمل على مكافحة الفساد كأداة مثلى للقضاء على الفقر. فمن الخطأ النظر لجرائم الفساد الممنهج والكبير على أنها جرائم لا تقتل ولا تؤذي.

إن سد هذه الفجوة الخطابية الخاص بتراتبية الحقوق قد يسمح مستقبلاً بإنشاء محاكم دولية للجرائم الاقتصادية على غرار المحكمة الجنائية الدولية والتي يقتصر نطاق عملها على: جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب وجرائم العدوان، وهي كلها جرائم ترتبط بالحقوق المدنية والسياسية. بدأ بالفعل العديد من العاملين في مجال حقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية المطالبة بإنشاء محكمة دولية تنظر في الجرائم الاقتصادية.

يطالب البعض أيضاً بتوسيع نطاق الولاية القضائية الدولية universal jurisdiction في مختلف الدول، والتي عادة ما تشمل حتى الآن الجرائم المرتبطة بانتهاكات الحقوق السياسية والمدنية فقط لتشمل أيضاً انتهاكات الحقوق الاقتصادية الجسيمة وواسعة النطاق.

إن الولاية القضائية الدولية هي الأداة القانونية التي تم بها صدور أمر بالقبض على وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني عام 2009 في بريطانيا لتورطها في جرائم حرب في غزة، و القبض على الديكتاتور التشيلي بينوشيه عام 1998 في بريطانيا أيضا لتورطه في انتهاكات حقوق إنسان عندما كان يتولى مقاليد الحكم في تشيلي، بالرغم من عدم حملهم للجنسية البريطانية أو ارتكابهم أي جرائم على الأراضي البريطانية. وحتى ذلك الحين، دعونا نقضي وقتاً سعيداً مع المكاسب الديمقراطية الشكلية قصيرة الأجل التي سرعان ما تختفي خلف ستار مكافحة الإرهاب والأمن القومي والاستقرار.

تم نشر هذا المقال على موقع جدلية بتاريخ 1نوفمبر 2014