يمكن استعادة أموالنا المنهوبة .. ولكن ليس عن طريق الجهود الحالية*
لم ألتق أو أتواصل خلال أبحاثى على ملف استرداد الأموال المنهوبة من مصر مع أى مسؤول فى الدول، التى توجد بها أصول مصرية مهربة لعلاقتها المحتملة بالفساد، وتم تجميدها لهذا السبب، إلا وعبّر عن أسفه من تواضع جهود الحكومة المصرية فى العمل على هذا الملف المهم. فى حالات لم يستطع المسؤولون عن الملف ملء استمارات طلبات المساعدة القانونية بشكل سليم، وتم إرسال بعض الأسماء بشكل خاطئ باللغة الإنجليزية، لدرجة أن الحكومة البريطانية أرسلت مسؤولة من النيابة البريطانية للقاهرة تقيم بشكل دائم لتساعد المسؤولين المصريين على تنفيذ هذه الإجراءات اليسيرة.
ينبع هذا الفشل الذى أدى جزئيا إلى عجزنا عن استرداد مئات الملايين من الدولارات -وربما أكثر بكثير- من إصرار صناع القرار المصريين على مر الحكومات المتعاقبة على الاستعانة بشكل حصرى بوزارة العدل لإدارة هذه الملف. المشكلة الأولى فى هذا التوجه هى أن وزارة العدل جهاز يتبع السلطة التنفيذية، والسلطة التنفيذية عادة ما تكون سياسية ولها حساباتها، خصوصًا فى ظل التقلبات السياسية على مدار السنوات الثلاث ونصف الماضية. وكيف يمكن أن تدير الحكومة ملف الأموال المنهوبة بشكل مطَّرد ومستقر، وقد تم تغيير الحكومة تسع مرات ووزير العدل سبع مرات منذ اندلاع الثورة، ورأينا وزراء العدل من خلفيات سياسية وأيديولوجية مختلفة، من أول ممدوح مرعى المنتمى إلى عصر مبارك، حتى أحمد مكى عضو تيار الاستقلال فى عصر مبارك والقريب من الإخوان. وعلى سبيل المثال، عندما عُين أحمد مكى وزيرًا للعدل أطاح بالمستشار عاصم الجوهرى رئيس لجنة استرداد الأموال وقتها، وعين بدلا منه المستشار يحيى جلال. والمشكلة الثانية هى استبعاد أصحاب الكفاءة والخبرة لا لشىء إلا حظهم العسر الذى لم يجعلهم خبراء فى وزارة العدل أو فى الأجهزة الحكومية.
التغير المستمر فى المسؤولين عن هذا الملف المهم وتعدد اللجان التى تعمل على هذا الشأن الدولى، يضرب العملية برمتها فى الصميم، ويقدم ذريعة لحكومات أجنبية مفتقدة للإرادة السياسية للمماطلة فى رد تلك الأموال. فبالإضافة إلى الشكوى المستمرة من هذا الأمر من قبل سلطات الدول الأخرى، قررت محكمة سويسرية وقف التعاون المتبادل مع مصر لرد ما يزيد على 700 مليون دولار (نحو خمسة مليارات جنيه) مجمدة فى ديسمبر 2012، بسبب عدم استقرار الوضع المؤسسى بالبلاد وهو ما كان له أبلغ الأثر على العملية برمتها.
ووفقا لتقارير صحفية وتصريحات حكومية غربية يعتقد أن هناك نحو مليار دولار (أو ما يزيد قليلًا على سبعة مليارات من الجنيهات المصرية) من الأصول المجمدة المملوكة لمصر أو لمصريين فى أنحاء العالم، والمشتبه فى أنها من عوائد الفساد الخاصة بنظام مبارك، بما فى ذلك أصول موجودة فى سويسرا والمملكة المتحدة وإسبانيا وهونج كونج وفرنسا. وكانت الحكومة الكندية قد أعلنت أنها قامت بتجميد 4,3 مليار دولار من الأصول الخاصة بالحكومات الديكتاتورية فى مصر وتونس وليبيا وسوريا، دون تقديم كشف حساب لكل بلد على حدة. ولا شك أن لجنة جادة، ومجهودًا مستمرًّا منها فى تحديد حجم ومكان الأصول والثروات المتحصلة عن طريق الفساد، قد يكشف عن مليارات أكثر من الجنيهات فى مصارف أخرى فى تلك الدول أو دول أخرى، وهى أموال تحتاج إليها، وتستحقها، مصر، ولا سيما الفقراء والشباب الذين يمكن أن يستفيدوا من توظيف مثل هذه الأموال المستردة فى مشاريع تنموية جادة.
ولكن نخشى أن هذا الأمل لن يتحقق. وقد عبرنا عن تخوفنا هذا فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية منذ أوائل عام ٢٠١٣، حيث عملنا على هذا الملف بجدية لصلته الوثيقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ونعتقد أن مصر لن تحرز تقدما يذكر فى استرداد هذه الثروات، إذا استمرت فى العمل بنفس الطريقة. وأعربنا ساعتها عن دهشتنا من أن مشروع قانون لاسترداد الأموال مقدمًا من وزارة العدل آنذاك يعطيها جميع الصلاحيات فى إنشاء لجنة تتبعها، وقد قلنا نصًّا: «تقترح المبادرة المصرية.. تشكيل لجنة مستقلة لا تتبع وزارة العدل، ولا تترأسها شخصية حكومية، ويتسم عملها بالثبات والمنهجية، فلا يتغير أعضاؤها وعملها بسبب التغييرات الوزارية أو الاضطرابات السياسية التى لا تتوقف. وتحذر المبادرة المصرية أن المضى قدما فى تمرير وتطبيق مشروع القانون المُقدم من وزارة العدل من شأنه (…) الحيلولة دون استرداد أموالنا المنهوبة فى الخارج».
ولم تكن المبادرة المصرية وحدها هى من تطالب بذلك، فقد تم رفع دعوى أمام محكمة القضاء الإدارى تطالب بندب قضاة مستقلين، يتولون ملف استرداد الأموال المهربة فى الخارج، وقد ورد فى الدعوى وفقا للتقارير الصحفية أن: «هذه الهيئة يجب أن تتضمن قضاة مستقلين بمعزل عن وزارة العدل، يتولون تنفيذ السياسات التى نصت عليها (اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد)، والتى من شأن إعمالها عودة الأموال المهربة إلى خارج مصر قبل وبعد ثورة 25 يناير».
وعلى الرغم من ذلك فما زال الإصرار على نفس الأسلوب، الذى أثبت فشله قائما. فقد باغتتنا الصحف منذ عدة أيام بأخبار عن إعداد قانون جديد لرد الأموال المنهوبة من قبل وزارة العدل مرة أخرى، لا يختلف كثيرًا عن سابقيه، ولا يختلف كثيرًا عن قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة رقم 52 لسنة 2011 بتأسيس لجنة لاسترداد الأموال المنهوبة يرأسها مساعد وزير العدل لشؤون الكسب غير المشروع.
إن أى لجنة تريد تحقيق نجاح فى استرداد مليارات الجنيهات المهربة تحتاج بشكل أساسى إلى الاستقلالية عن الجهاز التنفيذى وإلى الاستقرار. ويجب أن تضم مثل هذه اللجنة خبراء مستقلين متخصصين فى مكافحة غسل الأموال والقانون الدولى وأيضا متخصصين فى العلاقات العامة لتنظيم حملات عامة لدعم استرداد هذه الثروات من البلاد التى توجد بها. وستستفيد أى لجنة فى هذا المضمار من ضم أعضاء من المنظمات الأهلية والمجتمع المدنى. تشكيل اللجنة بهذه الطريقة سيعطيها مصداقية أكبر عند تعاملها مع الجهات الأجنبية، التى تتعامل فى هذا الملف بكثير من الحيطة لقناعتها بالتسييس المحتمل لهذا الملف، واللجنة التى تعمل على إدارته.
وإضافة إلى ذلك، لم يشمل أى من القوانين السابقة مصير الأموال بعد استردادها، ونصيحتنا ونصيحة الكثير من العاملين فى هذا الملف فى الداخل والخارج بناء على خبرات سابقة، هى إنشاء صندوق لمتحصلات الفساد يخصص لضحايا الفساد من أفراد ومجتمعات وضحايا النظام السابق بشكل عام على شكل تعويضات وجبر ضرر ومشاريع لخدمة المجتمعات الأكثر فقرًا وتهميشًا، ويخضع لرقابة برلمانية وشعبية. وتقوم هذه الاقتراحات على مقارنة مع أفضل الممارسات الدولية فى هذا المجال فى ما يتعلق بإدارة ما يجرى استرداده من أموال وأصول تم تهريبها من البلاد عن طريق الفساد. وسيخدم هذا قدرتنا على استرداد هذه الأموال، حيث تشترط قوانين بعض الدول التى توجد بها ثرواتنا المهربة، مثل سويسرا، أن تنفق الأموال المستردة فى خدمة الصالح العام.
وتنبع أهمية هذا المبدأ من الاتجاه المتزايد فى أدبيات استرداد الأموال المنهوبة، وهى أن ضحايا الأنظمة القمعية الفاسدة، سواء أفرادًا أو مجتمعات، هم الأولى بالحصول على ما يستدل عليه، ويتم استرجاعه من هذه الأصول المستردة، لأن عودة الأموال إلى خزينة الدولة تعرضها إلى احتمالية ضياعها مرة أخرى فى قنوات الفساد وخضوعها لانحيازات الدولة الحالية فى الإنفاق العام، ومن ثم إنفاقها على أغراض غير مناصرة للفقراء وغير تنموية، وبالتالى تقلل من فرص تعظيم منافعها الاجتماعية والاقتصادية. فرجوع الأموال إلى خزينة الدولة وصرفها على أشياء من قبيل سد عجز الموازنة وخدمة الدين العام، سيقلل من فرص تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية فى إنفاق تلك الأموال. كما أن رد الأموال إلى الخزينة العامة يعنى اختفاءها مرة أخرى فى دهاليز الإنفاق الحكومى المفتقر إلى الشفافية، بينما وضعها فى صندوق مستقل له أهداف واضحة، وخاضع للرقابة الشعبية، ويتحلى بالشفافية هو الخيار الأفضل. وعلى سبيل المثال، فقد أعلن عديد من الصحف الرسمية عن رد 9 مليارات جنيه إلى النيابة العامة فى نوفمبر 2012، ومن غير الواضح، حتى الآن، كيف ومن استفاد فى الدولة بهذه الأموال؟
* تم نشر هذا المقال علي موقع جريدة التحرير علي جزئين بعنوان "هل يمكن استعادة أموال مصر المنهوبة؟ «1 ـ 2»" و"هل يمكن استعادة أموال مصر المنهوبة «2 – 2»" بتاريخ 8 سبتمبر و15 سبتمبر 2014