تقرير "لجنة تقصي حقائق جنينة" لا يستجيب لحق المواطن في المعرفة ويهدد ما تبقى من استقلالية للجهاز المركزي للمحاسبات
بيان صحفي
تعرب المبادرة عن قلقها البالغ من حملة التشويه والتقويض المستمرة للجهاز المركزي للمحاسبات، وهو الجهاز المعني بالمراقبة على أموال دافعي الضرائب، والتي اتخذت أشكالًا عدة في الآونة الأخيرة، منها ما هو حملة تشويه إعلامية مستمرة لرئيس الجهاز، بالإضافة إلى تشريعات صادرة عن رئيس السلطة التنفيذية في غياب برلمان ليعطي بها لنفسه الحق في إعفاء رؤساء الأجهزة الرقابية ـ ومنها الجهاز المركزي للمحاسبات ـ من مناصبهم وهو ما يعصف باستقلالية هذا الجهاز ويخالف الدستور ويمثل تعديًا واضحًا للسلطة التنفيذية على أعمال السلطة الرقابية، والتي من المفترض أن تخضع لرقابته، وهو ما يضرب مبدأ الفصل بين السلطات في مقتل.
شكل الرئيس عبد الفتاح السيسي في 26 ديسمبر لجنة لتقصي الحقائق (أصدرت تقريرها في 12 يناير 2016) للتحقيق فيما صرح به رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بأن تكلفة فاتورة الفساد تقدر بستمائة مليار جنيه في الأربع سنوات من 2012 إلى 2015. وكان من المتوقع احترامًا لاستقلالية الجهاز ومبدأ الفصل بين السلطات، أن تنظر هذه اللجنة في وقائع الفساد المذكورة وأن تتحقق منها، بدلًا من الاتهامات التي انتهت إليها اللجنة للجهاز ورئيسه بتضليل الرأي العام والمبالغة في تقدير تكلفة الفساد وعدم تعريف الفساد بدقة، مما يؤدي إلى الإضرار بالمناخ السياسي والاقتصادي للدولة، على حسب التقرير. وتساءل التقرير عن أهداف وجدوى ذلك التصريح مع تسليط الضوء على أن الدراسة معدة بالاشتراك مع جهات أجنبية. وقد يمهد هذا التساؤل الطريق لاستخدام قانون إعفاء رؤساء الأجهزة الرقابية من مناصبهم، الذي يسمح للرئيس بعزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات دون الرجوع إلى مجلس النواب. وانتقدت المبادرة في السابق هذا القانون لما يحمله من شبهات تعارض مع العديد من القوانين الأخرى والمبادئ الدستورية مثل المادة 215 من الدستور الحالي، التي تنص على تمتع الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية بالشخصية الاعتبارية وبالاستقلال الفني والمالي والإداري والمادة 216 التي تنص على ضمان استقلال الأجهزة الرقابية في القانون الخاص بها، وحماية أعضائها بما يكفل لهم الحياد والاستقلال وضرورة موافقة مجلس النواب على تعيين رؤساء الجهات الرقابية والأجهزة المستقلة من قبل رئيس الجمهورية ...
ويتعارض أيضًا هذا القانون مع المادة 20 من القانون رقم 157 لسنة 1998 بتعديل بعض أحكام قانون الجهاز المركزي للمحاسبات الصادر بالقانون رقم 144 لسنة 1988 والتي تنص على عدم جواز إعفاء رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات من منصبه.
التعدي على استقلالية الجهاز عن طريق تعيين جهة خاضعة لرقابة الجهاز المركزي لتراقب وتقيم عمل الجهاز ورئيسه
يضمن الإطار الدستوري والقانوني كما أسلفنا استقلال الجهاز المركزي للمحاسبات، حتى يستطيع ممارسة دوره بالرقابة على مجمل الأموال العامة وأموال الأشخاص العامة بفعالية وكفاءة.
جاء تشكيل هذه اللجنة في أغلبه وزاريًّا، يتشكل قوامها الأساسي من أعضاء بوزارة العدل والتخطيط والمالية والداخلية، وشكلت بتكليف من رئاسة الجمهورية وهي جميعها جهات حكومية تنفيذية خاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات بما فيها وزارة الداخلية ورئاسة الجمهورية. وجدير بالذكر أن وزارة التخطيط كانت طرفًا في الدراسة موضع الخلاف، وفي لجنة تقصي حقائق الأرقام التي آلت إليها الدراسة. كل هذه الأمور الهيكلية والتنظيمية تعصف باستقلال الجهاز المركزي للمحاسبات فكيف يمكن للجهاز أن يمارس عمله باستقلالية، والجهات التي يراقب عليها لديها القدرة للتحول إلى المراقبة عليه بل وتوجيه الاتهامات. ويشكل كل هذا انتهاكات لنصوص دستورية وقانونية واضحة تضمن استقلال الجهاز. كان من المتوقع أن يقتصر دور اللجنة على النظر في والتحقق من وقائع الفساد المذكورة بالدراسة، وتقديم توصياتها في هذا الضوء بعيدًا عن اللهجة العدائية والاتهامية التي استخدمها تقرير تقصي الحقائق.
معلومات منقوصة وصورة غير كاملة
نُشِر بيان لجنة تقصي الحقائق في عدد من وسائل الإعلام ومنها التليفزيون الرسمي للدولة، وتم توصيفه كـ "بيان للرأي العام"، ولكن الرأي العام حتى هذه اللحظة أمامه صورة غير كاملة ومعلومات منقوصة، ولا يصله منها إلا شعور بصراع دائر بين بعض المسئولين في الحكومة ورئيس الجهاز، فلا يوجد سبب معلن حتى الآن لعدم نشر تقرير لجنة تقصي الحقائق كاملًا، ونشر دراسة الجهاز المركزي للمحاسبات موضوع التقصي، حتى يكون أمام الرأي العام الحقيقة كاملة، وبخاصة أن البيان نصَّ على أن التقرير "بات ملكًا للرأي العام".
ولكن انتقاء ما يصل إلى الرأي العام وما يحجب عنه، ممارسة تتعارض مع مبادئ الشفافية وحرية تداول المعلومات وحق المواطن المصري في المعرفة، وهي المبادئ التي تلتزم بها مصر في دستورها وقوانينها والاتفاقات الدولية. ولطالما نادت المبادرة المصرية بجعل تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات متاحة للمواطنين من باب أنها معنية بالمال العام، وبالتالي فالمواطن دافع الضرائب صاحب مصلحة أصيلة في الوصول إلى هذه التقارير، وأيضًا من باب الاتساق مع الالتزامات الدستورية والقانونية والدولية.
فينص الدستور المصري في المادة رقم 68 على أن "المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية". وتحظر المادة 9 من قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996 "فرض أي قيود تعوق حرية تدفق المعلومات" أو "يكون من شأنها تعطيل حق المواطن في الإعلام و المعرفة".
يوجد أيضًا عدد من الاتفاقيات الدولية التي تُلزِم الحكومة المصرية بإتاحة المعلومات الرسمية للمالك الدستوري لها: المواطنين، ومنها على سبيل المثال اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والتي وقعت مصر عليها في 2003 وتم التصديق عليها من قبل رئيس الجمهورية والبرلمان عام 2004. في الاتفاقية العديد من المواد التي تلزم الدول الأطراف ومن بينها مصر على اتخاذ تدابير تتعلق بتعزيز الشفافية، و لكن تنص الاتفاقية صراحة في المادة 13 على: "تعزيز الشفافية في عمليات اتخاذ القرار وتشجيع إسهام الناس فيها" و"ضمان تيسر حصول الناس فعليًّا على المعلومات". أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المصدقة عليه مصر، فيقر في المادة 11 منه على أن "لكل إنسان حق في التماس مختلف ضروب المعلومات"، وأخيرًا المادة 9 من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، التي صدقت عليه مصر أيضًا يؤكد على حق كل فرد في الحصول على المعلومات.
يستحيل على الرأي العام معرفة ما إذا كانت الدراسة موضع التحقيق مضلِّلَة ومبالِغة، بدون عرضها على الرأي العام وجعلها متاحة للباحثين والمجتمع المدني والمهتمين، وبدء نقاش حول المنهجية المتبعة للوصول إلى هذا الرقم، وتعريف الفساد، خاصة بعد اتهام لجنة تقصي الحقائق جنينة بإساءة استخدام مصطلح الفساد، دون شرح لطريقة الإساءة ودون تقديم تعريف بديل. ويمكن استخلاص من بيان اللجنة أن الدراسة التي استند إليها تصريح جنينة قامت باحتساب المكسب الفائت والفرصة الضائعة على الدولة دون أن ينطوي ذلك بالضرورة على جريمة واضحة، وبخاصة في ملف التعدي على أراضي الدولة، وتخصيصها، ولكن هذه المنهجية في حساب تكلفة الفساد منتشرة ومستخدمة من قبل الحكومة المصرية والقضاء المصري والكثير من المنظمات الدولية.
فعلى سبيل المثال، استندت الكثير من أحكام بطلان عقود تخصيص الأراضي بالأمر المباشر في السنوات الماضية إلى نفس طريقة الحساب، وهي مقارنة ثمن تخصيص الأرض بالأمر المباشر بقيمتها السوقية، واعتبار الفارق بينهما إهدارًا للمال العام حتى لو لم يخالف ذلك القانون. وفي كل حالة من تلك الحالات، كانت تقدر قيمة المال العام المهدر بالمليارات أو مئات الملايين، وكان يوجد العشرات من قضايا تخصيص الأراضي بالأمر المباشر المنظورة أمام المحاكم، وحُكِم في العديد منها باستخدام هذا الأسلوب الحسابي.
يذكر أن هيئة الرقابة الإدارية استندت في إعدادها للإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في أواخر عام 2014، إلى أرقام التهرب الضريبي والجمركي (التي تستخدم أيضًا تقديرات الكسب الفائت أو الفرصة الضائعة حتى لو لم تَنْطوِ على جريمة واضحة) والتي قدرتها أيضًا برقم ضخم وهو 62 مليار جنيه في عام 2013 وفقًا للإستراتيجية، وإذا افترضنا وجود نفس القدر من التهرب الضريبي في الأربع سنوات من 2012-2015 وهي الفترة المغطاة في تقرير المركزي للمحاسبات، وفقًا لبيان صحفي رسمي من الجهاز المركزي للمحاسبات، فيكون فقط إجمالي التهرب الضريبي والجمركي 248 مليار جنيه عن نفس الفترة.
وبعد استخدام الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لأرقام واردة في دراسة: "تحليل تكلفة الفساد في مصر"، التي أقرها رئيس مجلس الوزراء وأعدتها مجموعة من الأجهزة الرقابية بقيادة الرقابة الإدارية، عادت بعد عام لجنةٌ، أغلب تشكيلها وزاري ويرأسها رئيس هيئة الرقابة الإدارية لتهاجم منهجية الدراسة التي استخدمتها الهيئة فيما قبل. ومن اللافت للنظر، التشابه بين عنوان الدراسة المذكورة في إستراتيجية مكافحة الفساد: "تحليل تكلفة الفساد في مصر"، والدراسة محل الخلاف وعنوانها: "تحليل تكاليف الفساد على بعض القطاعات في مصر"، وبخاصة أن الدراستين قام بإعدادهما أعضاء في الجهاز المركزي للمحاسبات. لا نستطيع أن نؤكد على مدى العلاقة بين الدراستين بسبب عدم توافر معلومات بشأنهما ولكن من المؤكد أنهما استخدمتا نفس منهجية قياس الفساد وتعريفه.
ومن ثم تنتهز المبادرة المصرية تلك الفرصة للتأكيد على حق المواطنين في المعرفة والوصول إلى المعلومات الاقتصادية، والتي أكدت عليها الدساتير والقوانين والمواثيق الدولية المختلفة كما أسلفنا الذكر، وأهمية استقلال الأجهزة الرقابية عن السلطة التي تقوم بالمراقبة عليها حتى يتسنى لها تأدية دورها في المراقبة على أموال المواطنين والحفاظ عليها بكفاءة وفعالية دون ترهيب أو تعويق أو تدخل غير دستوري وقانوني في عملها.
وتوصي المبادرة المصرية في الأخير بنشر تقرير لجنة تقصي الحقائق ودراسة الجهاز المركزي للمحاسبات موضوع التحقيق، صونًا لحق المواطنين في المعرفة والوصول إلى المعلومات ذات النفع العام، والتوقف مستقبلًا عن جميع أشكال تدخل السلطة التنفيذية في أعمال الأجهزة الرقابية ضمانًا لعدم تكرار الأزمة الحالية، وعلى رأسها إلغاء القانون رقم 89 لسنة 2015 والذي يجيز لرئيس الجمهورية عزل رؤساء الأجهزة الرقابية دون الرجوع إلى مجلس النواب.