لابد من ضمان استقلال النيابة العامة لتحقيق العدالة
بيان صحفي
في أحد محاكم مصر مؤخرا، طالب ممثل الادعاء بتوقيع أقصى العقوبة على ثلاثة صحفيين استناداً إلى أدلة تضمنت صوراً لإجازة عائلية، ومقاطع من نشرات إخبارية دولية، وأغنية مصورة للمغني الأسترالي "غوتيي". وحصل صحفيو الجزيرة الثلاثة على أحكام بالسجن ترواحت بين سبعة وعشرة أعوام في محاكمتهم ذائعة الصيت والتي تلقت انتقادات بسبب انعدام الادلة وعدم سلامة الإجراءات. وقد تكررت هذه الانتقادات كثيرا في الأونة الأخيرة، وتبدأ عادة بالنظر في دور النيابة العامة في منظومة العدالة الجنائية، وهو محور دراسة تنشرها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اليوم.
وتفحص الدراسة التي تحمل عنوان "لصالح من يعمل محامي الشعب؟" كيف يساهم عمل النيابة العامة في مصر في خلق عدالة انتقائية باتت تثير مخاوف العديدين.
وقد تم التصدي للأسئلة التي تطرحها الدراسة في حلقة نقاشية يوم 21 يونيو. وقد أدار الحلقة المستشار هشام روؤف من محكمة استئناف القاهرة، وشارك فيها عدد من القضاة والمحامين والخبراء القانونيين. ولم يرد مكتب النائب العام على دعوة المبادرة المصرية لحضور الحلقة النقاشية.
ومنذ ثورة يناير 2011 التي خلعت الرئيس الأسبق حسني مبارك، أظهر سلوك النيابة العامة وجود مؤشرات على الإنحياز السياسي. فقد أُحيل الآلاف من المعارضين السياسيين إلى المحاكمة استناداً إلى أدلة واهية، دون جهد يذكر للتثبت من المسؤولية الجنائية الفردية. وفي إحدى الحالات قامت النيابة بإحالة 545 شخصاً إلى المحاكمة بتهمة قتل ضابط شرطة واحد في القضية المعروفة إعلامياً بقضية مطاي. ومن جهة أخرى، أخفقت النيابة العامة مراراً في إجراء تحقيقات جدية في مزاعم القتل والتعذيب المتهم فيها مسؤولين في الأجهزة الأمنية، مما يرسخ ثقافة الإفلات من العقاب. وقد نتجت أحكام البراءة للأغلبية العظمى من رجال الشرطة المتهمين بقتل متظاهرين أثناء السنوات الثلاث الأخيرة جزئياً بسبب قصور التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة.
ومنذ عزل الرئيس السابق محمد مرسي، دأبت النيابة العامة أيضاً على استجواب المشتبه بهم في القضايا السياسية داخل أماكن الاحتجاز، بدلاً من مقار النيابات أو المحاكم، وأخفقت في ضمان حضور المحامين في كافة الحالات، بل رفضت في بعض الحالات السماح للمحامين بالاطلاع على جميع المعلومات ذات الصلة، مما يقوض الحقوق المرعية في سلامة الإجراءات.
وتعكس هذه الانتهاكات في جزء منها قصور التشريعات المعمول بها، والتي تكل إلى النيابة العامة سلطتي التحقيق والاتهام على السواء، دون الفصل بينهما. إن الجمع بين هذين الدورين يقوض الحيدة اللازمة لتقصي الحقائق، إذ ينشأ تضارب واضح للمصالح لدى أعضاء النيابة، الذين يضطلعون بدور المترافع الذي يلاحق المتهم، وكذلك بدور المحقق المسؤول عن جمع كافة الأدلة سواء كانت تدين المتهم أو تبرئه. وبغية التصدي لهذا القصور، تدعو دراسة المبادرة المصرية إلى إصلاحات تشريعية لضمان حماية أعضاء النيابة العامة من التدخلات، او التبعية، اثناء إجراء التحقيقات ـ وهي التوصية التي رحب بها كافة المشاركين في الحلقة النقاشية. كما تدعو الدراسة إلى تدعيم دور قضاة التحقيق وتوفير التدريب الكافي للقضاة بهدف تمكينهم من إجراء التحقيقات.
ويتمتع أعضاء النيابة العامة بسلطات تقديرية واسعة في سير القضايا، فلهم سلطة اصدار قرار بحفظ التحقيق فيها، أو إحالتها للمحاكمة، أو الأمر بأنه لا وجه ﻹقامة الدعوى. وهذه السلطات الواسعة مقرونة بمخاطر الانحياز السياسي، يمكن أن تؤدي إلى المعاملة غير العادلة للمشتبه بهم، والانتقائية في إصدار لوائح الاتهام، مما يثير تساؤلات جدية حول حيدة القضاء. وعلي سبيل المثال، فقد اختارت النيابة العامة، في 10 سبتمبر 2013، اتهام الرئيس السابق مرسي ومجموعة من مؤيديه بالمسؤولية عن مقتل ثلاثة من المتظاهرين المعارضين لمرسي في أحداث الاتحادية في ديسمبر 2012، وفي نفس الوقت قررت النيابة ترك التحقيق مفتوحاً دون إحالة أحد إلى المحاكمة في واقعة مقتل تسعة من مؤيدي مرسي في نفس الأحداث.
وكثيراً ما تستغل هذه السلطات التقديرية لإفلات المسؤولين العمومين من العقاب عند التقدم بشكاوى من انتهاكات ارتكبوها أو غير ذلك من أوجه إساءة استخدام السلطة. وتتفاقم المشكلة بفعل الحقيقة المتمثلة في أن قرار النيابة بأن ﻻ وجه ﻻقامة الدعوى في شكوى من هذا القبيل، وعدم توجيه أي اتهام، هو قرار غير قابل للاستئناف أو الطعن من جانب الضحايا أو ممثليهم ـ وهو الخيار المتاح في القضايا التي لا تشمل مسؤولين عمومين.
وتتطرق الدراسة بالنقد أيضاً إلى نظام تعيين أعضاء النيابة العامة وترقيتهم وانتدابهم كمعوق إضافي في وجه استقلال القضاء، ولا سيما في ضوء السلطة التي يمارسها النائب العام على الجزء الباقي من هرم القضاء، فعملية الاختيار تؤثر عليها أعراف غير مدونة تشمل الوضع الاجتماعي والاقتصادي والانتماء السياسي، ضمن معايير اختيار أعضاء النيابة، على الرغم من الضمانات القانونية بتكافؤ الفرص. كما تفتقر العملية إلى الشفافية وتحرم المرأة من التعيين في النيابة العامة رغم الضمانات الدستورية التي تنص على تمثيل المرأة في الهيئات القضائية.
ويعمل النفوذ الذي تمارسه السلطة التنفيذية على سلطة النيابة العامة كمعوق إضافي أمام استقلال القضاء أيضاً، بحسب الدراسة. فحتى تبني دستور 2012، كان رئيس الجمهورية يتمتع بسلطات لا حدود لها تقريباً في تعيين النائب العام مدى الحياة. ثم جاءت التعديلات الدستورية الأخيرة في 2014 لتقصر سلطة الرئيس على الموافقة على اختيار المجلس الأعلى للقضاء ـ وهو الهيئة المسؤولة عن تعيين وترقية القضاة وأعضاء النيابة ـ في تعيين نائب عام لمدة أربعة أعوام كحد أقصى. ومع ذلك فإن رئيس الجمهورية ما زال بالممارسة يستحوذ على نفوذ كبير في تعيين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء نفسه. كما تمارس وزارة العدل سلطات لا يستهان بها على النيابة العامة، بما فيها سلطة الإشراف الإداري.
وتتناول الدراسة الآلية القائمة لمحاسبة أفراد النيابة العامة هي التفتيش القضائي الذي تمارسه وزارة العدل، إضافة إلى إجراءات تأديبية قد تصل إلى عزل أعضاء النيابة. ولا تكفي هذه الإجراءات لضمان التزام أعضاء النيابة بسيادة القانون وميثاق شرف المهنة، وفقاً للدراسة. ويزيد من تعقيد الأمر غياب الشفافية والمعلومات المتاحة للجمهور بشأن محاسبة أعضاء النيابة. ولذا فهناك انطباع قائم ان هناك انتقائية في معاقبة أعضاء النيابة، وان بعض هذه الاجراءات العقابية ليست بسبب ارتكاب أخطاء مهنية جسيمة، وإنما بسبب مخالفة رغبات النخبة الحاكمة. والمثال الدال هنا هو قرار النائب العام السابق بإنهاء ندب مصطفى خاطر من منصب المحامي العام لشرق القاهرة وندبه للعمل بنيابات بني سويف، في أعقاب قراره بالإفراج عن مشتبه بهم في الاعتداء على مؤيدي مرسي أثناء أحداث قصر الاتحادية في ديسمبر 2012. وبعد عزل مرسي تم نقل عدد من القضاة المشتبه في انتمائهم إلى الإخوان المسلمين إلى مناصب إدارية.
وأثناء الحلقة النقاشية، اختلف القضاة الحاضرون مع دعوة المبادرة المصرية إلى المزيد من الشفافية في اجراءات معاقبة أعضاء السلك القضائي، بدعوى أن إتاحة تلك المعلومات من شأنها تقويض ثقة الجمهور في القضاء. لكن المبادرة ترى أن العكس هو الصحيح: فمن شأن محاسبة القضاة أن تساهم في زيادة ثقة الجمهور في استقلال القضاء ونزاهته، بإرسال رسالة مفادها أنه لا أحد ـ حتى القضاة وأعضاء النيابة ـ فوق القانون. وترى المبادرة المصرية أن غياب آلية فعالة للإشراف، والعقبات الموضوعة أمام الانتقاد العلني للنيابة، يعني أن المواطنين المتضررين من قرارات النيابة العامة لا يجدون سبيلاً يذكر لالتماس الجبر والانتصاف أو حتى مجرد التعبير عن مظالمهم. فمجرد انتقاد النيابة يوصم في كثير من الأحيان بأنه "إهانة للقضاء" ـ وهي جريمة عقوبتها السجن في القانون المصري.
ويبدأ معظم القضاة في مصر عملهم كأعضاء بالنيابة العامة، ومن ثم فإن إصلاح سلطة النيابة العامة هو الخطوة الأولى نحو تحقيق استقلال القضاء ومنح المواطنين حقوقهم الدستورية في سلامة الإجراءات والمحاكمة العادلة.
وتختتم الدراسة بسلسلة من التوصيات التي أيدها المشاركون في الحلقة النقاشية، لضمان استقلال النيابة العامة وحيدتها ـ وهي خطوة عاجلة وضرورية لضمان حسن سير العدالة.
للاطلاع علي الدراسة: اضغط هنا
g