مجلس أعلى للصحة: بداية لإصلاح شامل للمنظومة الصحية في مصر

19 يناير 2014

هل نريد حقًا إصلاحًا جذريًّا للمنظومة الصحية، يستديم بصورة تحقق وتضمن حق المصريين في الرعاية الصحية؟ هل نود بمسئولية وجدية أن نجد مسارًا مختلفًا يُحِدُّ من هدر الاستثمارات العامة، ويقي من تناقض السياسات، ويحقق تكاملها، ويوفر سبلًا أكثر فاعلية في توفير الخدمة الصحية بجودة مناسبة لمختلف المواطنين في ربوع هذا البلد؟

لقد حان وقت الاعتراف بأنه لا سبيل إلى هذا، ما لم نمتلك رؤية إستراتيجية تنبع منها خطط محكمة، يصيغها المجتمع، وفق مشاركة حقيقية، وتمثيل واقعي متوازن بين أصحاب الحق والمكلَّفين بتحقيقه، رؤية تلتزم الدولة وأجهزتها بتنفيذها، وخطط نلمس لها واقعًا فعليًّا، وجداول زمنية متفق عليها، لا تُعَوَّق بسبب تغير القيادات أو اتجاهات منظومة الحكم.

لابد من قيادة تضع هذه الرؤية الإستراتيجية، أو بالأحرى تجمع مدخلاتها من المعنِيين، وتصيغها على صورة سياسة دولة، وتوجه عام. هذه القيادة مهمتها أن توجه مجمل المنظومة الصحية إلى تحقيق هذه الرؤية التي يتفق عليها المجتمع، وتوضع بمشاركة واسعة من مختلف أطيافه. من هنا يجئ طرحنا لعملية إحياء المجلس الأعلى للصحة، وتصحيح مساره، وتعديل أدواره ليكون هو هذه القيادة، المسؤولة عن التوجيه الإستراتيجي للمنظومة.

المجلس الحالي: دور غائب ومشاكل بنيوية

أنشئ المجلس الأعلى للخدمات الصحية، برئاسة وزير الصحة بمقتضى القرار الجمهوري، رقم 61 لسنة 1966 (الذي تم تعديله بقرار جمهوري آخر، هو القرار رقم 81 لسنة 1978 )، بهدف تحقيق التنسيق والتكامل بين الأنشطة المتعددة في مجال الخدمات الصحية، وتحقيق الاستخدام الرشيد للموارد المتاحة، مع رفع المستوى الصحي للمواطنين، في نطاق الخطة العامة للدولة. ومنذ هذا التاريخ انحسر دور المجلس في التنسيق بين الجهات المختلفة داخل الوزارة، ومع بعض ممثلي الجهات التنفيذية الأخرى، واقتصرت وظيفته على تقديم توصيات غير مُلزِمة، دون أي دورٍ في متابعة وتقييم سياسات الصحة.

ظل المجلس كيانًا هامشيًّا، يفتقد أي رؤيةٍ أو دورٍ قيادي، في عملية إصلاح المنظومة الصحية، وغاب عنه التمثيل الجيد لفئات المعنيين بالصحة، بتركيزه فقط على ممثلي الجهات الحكومية، وإهمال الجهات الأهلية وغير الحكومية، وهي كثيرة ومؤثرة في تحقيق أهداف المنظومة الصحية. وانزوى المجلس في هامش بيروقراطي، ولم يعد يهتم لوجوده أحد، وصار انعقاده محدودًا للغاية، ودوره صوريًّا، إلى حد بعيد.

تُمثِّل إعادة تأسيس المجلس وهيكلته من جديد، ضرورة ملحة، ذلك إذا أردنا تفعيل رؤى الإصلاح، وترجمتها إلى  إستراتيجية شاملة للصحة، ومتابعة وتقييم تنفيذها. لنستعيده مجلسًا لحوكمة القطاع الصحي، يضمن تحقيق العدالة في الرعاية الصحية لكل المصريين، دون تمييز، وفق نهج مشاركة واسع، في صنع وتصميم السياسات العامة الصحية. من هذا المنطلق تقدمت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بمقترحٍ لتعديل القرار الجمهوري المنشئ للمجلس، لإعادة تأسيسه تحقيقًا لهذا الهدف وتتويجًا لعمل دؤوب، بُدئ منذ أعوام عدة، بمجموعة متنوعة من الخبراء والمتخصصين، وممثلي المجتمع المدني والتنفيذيين من قيادات القطاع الصحي. أسفرت نقاشاتهم ومداولاتهم، عن المناداة بإعادة تأسيس المجلس الأعلى للصحة، مع إعادة هيكلته، وتفعيل الأهداف من وراء تأسيسه، وتوسيع نطاق عضويته، ليضم كافة الأطراف الفاعلة في المنظومة الصحية، داخل وخارج وزارة الصحة استنادًا إلى الدروس المستفادة، من تجاربَ مشابهةٍ في قطاعات أخرى، مثل المجلس الأعلى للتعليم والمجلس الأعلى للثقافة وغيرها، إضافة إلى تجارب عالمية أخرى من أهمها المجلس الأعلى للصحة، في فرنسا والبرازيل والمملكة المتحدة، وخلافه من الدول، للوصول إلى تركيبة يستطيع من خلالها أن يحدد المدخل للإصلاح، والأولويات، ويرسم الخطط، ويُقيِّم ويتابع تنفيذها ويضمن مشاركة مجتمعية واسعة وحقيقية، ويتمتع بصلاحيات مناسبة تضمن تحقيق أهداف العدالة والكفاءة، في الصحة بصورة ملموسة وشفافة.

دور جديد لمجلس جديد

يمثل المجلس الأعلى للصحة المقترح، بيتًا للخبرة وهيئة التمثيل للمعنيين بالشأن الصحي في مصر، وينعكس هذا على عضوية المجلس الذي يتشكل من مجموعة متنوعة من الشخصيات بصفاتهم المهنية، يمثلون بها مختلف المعنيين والمؤثرين والمنتفعين، من الخدمات الصحية في مصر، وذلك بقصد توفير أعلى المستويات الصحية للمواطنين. والمجلس يصير كيانًا مستقلًا، يتم انتخاب رئيسه من الأعضاء غير العاملين بالجهاز التنفيذي للدولة، ويتمتع بسلطة ومسئولية جيدة، وأهدافه بتفصيل أكثر هي:

 

  1. وضع الأطر الإستراتيجية لمنظومة الصحة في مصر، التي تحدد الرؤية والتوجهات، وترسم الأهداف والأولويات وتبين مناهج العمل، التي تكشف التحديات التي تواجه المنظومة، وتطرح البدائل  لسبل التغلب عليها.
  2. القيام بالدور التوجيهي لأعمال التخطيط الإستراتيجي الخمسي، ومخططات التنفيذ السنوية، وكذلك الخطط القطاعية.
  3. تحديد طبيعة المشكلات، التي تواجه المنظمات الصحية المختلفة، وأولويات حلها والتحديات التي قد تعرقل الحل، وتحديد نقاط البدء لإصلاح المنظومة الصحية وتحديد الأهداف، المطلوب تحقيقها والإطار الزمني لذلك.
  4.  متابعة وتقييم تنفيذ الإستراتيجيات الصحية، من خلال متابعة وتقييم تنفيذ خطط الهيئات العاملة في القطاع الصحي. وللمجلس في ذلك أن يشكل من اللجان الفنية ما يرتئيه، بما يغطي مجالات إتاحة الخدمة، وضمان جودتها، وتوافر النظم  ذات الكفاءة لإنجازها.
  5.  فتح المجال لحوار مجتمعي متسع وفعال، حول قضايا الصحة المختلفة، بما يتيح الفرصة لتبادل الرأي والمشورة، حول خدمات الرعاية الصحية المختلفة، وكيفية تطويرها، بحيث يضم الحوار مختلف أطياف المجتمع، والجهات المعنية بالشأن الصحي.
  6.  تفعيل آليات التنسيق بين القطاعات المختلفة، المعنية بالصحة، بناءً على مفهوم الحق في الصحة، وضمان كفاءة المنظومة كليًّا، بكافة الجوانب المالية والتنظيمية والقانونية والتشريعية المختلفة.
  7. تطوير منظومة حوكمة القطاع الصحي، مع وضع الضمانات التي تكفل الشفافية والمساءلة. وكذلك وضع آليات فاعلة للمشاركة المجتمعية في عمليات صنع القرار وصياغة وتنفيذ الخطط، ومتابعتها، ووضع المبادرات التي تعكس الشراكة بين الدولة والمجتمع.
  8. يقود عمليات رسم مبادرات الإصلاح المؤسسي، وطرح المداخل الفنية المستحدثة لتطويرها مستعينًا بالكفاءات الوطنية، ومراكز البحوث المحلية ومؤسسات الخبرة والتعاون الفني الدُّوَلية.

وتلتزم وزارة الصحة والجهات التنفيذية الأخرى، بتقديم الخطط التنفيذية التي تحقق الإستراتيجيات التي يضعها المجلس، وفقًا للجداول الزمنية المتفق عليها، وتقدم تقارير عن تنفيذ تلك الخطط، وتيسر أي معلومات أو بيانات يطلبها المجلس لأداء عمله. وبهذا تتمتع تلك الإستراتيجية وما يلحق بها من سياسات وخطط بالاستدامة، ولا تكون عرضة للتقلبات السياسية وتغيير القيادات، وتخرج المنظومة الصحية من حالة تشتت الرؤى، وهدر الجهود والموارد والخبرات.

وبسببِ ما أوضحناه من تهميشٍ للمجلس وضعف دوره، فإنه ـ في صورته الحالية ـ نادرًا ما ينعقد، ونادرًا ما تخرج عنه قرارات مُلزمة أو مقترحات تلقى العناية.

في المقترح الجديد ينعقد المجلس بكامل هيئته بصورة دورية، لا تقل عن أربع مرات سنويًّا، هذا بخلاف الحالات الاستثنائية، وذلك بدعوة من الرئيس أو بطلبٍ من أغلبية الأعضاء. وتحكم أعمال المجلس لائحة نظام داخلية، يعدها المجلس نفسه بعد تشكيله، ويقوم بتشكيل لجان فرعية تختص بملفات ومسائل متخصصة، على أن يقوم المجلس ـ بتشكيله الكامل ـ باعتماد ما تقوم به اللجان المتخصصة. ولا يمنح المجلس امتيازات مالية لأعضائه، ولا يتكلف مخصصات مالية ضخمة من ميزانية الدولة. يقوم بإدارته أمانة فنية مكونة من أربع وحدات إدارية يلتحق بها العاملون الأكْفَاء، بطريق الندب أو الإعارة، ويرأس هذه الأمانة الفنية أمين عام، يعينه المجلس.

استعادة المجتمع إلى صدارة عملية صنع القرار الصحي

آخرًا، فإن تكوين هذا المجلس بما لديه من صلاحيات، تمكنه من التفاعل مع المواطنين، وإقامة علاقات التعاون والشراكة مع مختلف المعنيين بالملفات الصحية على اختلافها، ومن تداول الآراء على تعددها بمساحة واسعة ومنظمة ـ ستتاح له دراسة مختلف جوانب المشكلات، ورصد التحديات الحقيقية، ليبحث عن البدائل ويسعى إلى إيجاد حلول فعالة للمشكلات، مستعينًا بكافة الطاقات والخبرات، كما أنه سيكفل آليات للرقابة المجتمعية على الجهات التنفيذية، ويُعِينُ البرلمان ومختلف الجهات النيابية،  في أداء أدوارها بفاعلية، وبناءً على خطط واضحة المعالم، وتوقعات ومؤشرات لقياس الأداء، منضبطة، بما يحقق منظومة أكثر فاعلية.

وقد اختارت المجموعة التي اقترحت التعديلات، وضع هذا المشروع أمام صاحب القرار في هذا التوقيت بالذات، إدراكًا منها بأن اللحظة المناسبة للبدء في التغيير الشامل، هي لحظة الأزمة، وأن الخروج من هذه الأزمة ينبني على إيجاد إطار مغاير لحوكمة القطاع الصحي. وهذا تغيير كبير ربما لا تظهر آثاره مباشرة، ولكنه أساس حاكم في تخليق محاور إستراتيجية ومداخل جذرية لإصلاح المنظومة الصحية. ودون هذا، فلن نرى أي تأثير فعال ومستدام في المنظومة، بل استمرار الجهود المشتتة، والحلول الجزئية، واستمرار تدهور المنظومة الصحية.