عن «عنبر المخصوص»: كيف اعتدنا صراخ الذاهبات للمشنقة؟

10 أكتوبر 2017

بحاول أتذكر مشاهد الإعدام اللي في الأفلام اللي ممكن أكون شفتها، لكن مش قادرة.

أكيد محدش صوّر مشهد ما قبل الإعدام. يمكن البدلة الحمرا اتصورت، بس الجلابية الحمراء وهي ماشية وسط الجلابيات البيضا ليها وقع مختلف على القلب، بتقبضه. إحنا ما شفناش الستات بتتعدم بس سمعناهم وهما بيتاخدوا.

قبل كدا، ما كنتش بافكر في موقفي من عقوبة الإعدام.

أظن إني لما اتفرجت على فيلم «The Life of David Gale» بدأت أسأل نفسي إزاي ممكن نشتغل على حاجة صعبة كدا؟ مش متذكرة لو كنت اتفرجت على الفيلم قبل ما أدخل السجن ولا بعده. فيه حاجات توقيتها دخل في بعضه، زي ما أنا مش فاكرة إمتى بالظبط بدأنا نتعود على صويت الستات في عنبر «المخصوص» (عنبر الإعدام).

الصورة من كراسة يارا التي كانت تدوّن فيها يوميات «المخصوص» أثناء حبسها.

عنبر «العسكري» اللي كنا فيه، كانت بينه وبين عنبر «المخصوص» أوضة التأديب. كل مرة كانوا بياخدوا واحدة يعدموها، كنا بنسمعهم وهما بينادوا على اسمها وبيصوتوا.
الستات اللي في المخصوص هما اللي علموني إن كل حاجة في الدنيا دي بتعدي، حتى لما زميلتك، اللي بتاكلي معاها كل يوم، تتاخد علشان تتعدم.

تاني يوم القرآن يشتغل، وبعد شوية، لما باقي المسجونات يعزوا زميلات الست اللي اتاخدت، الحال بيرجع زي ما هو؛ هزار وضحك وكلام. قالولنا إن «المخصوص» كان مليان، وإن من أول ما الثورة بدأت، مفيش حد بيتاخد منه علشان يتعدم، بس يوم 23 يونيو 2014 (قبل ما ندخل القناطر)، كان فيه واحدة اتاخدت من يوم أو اتنين.

أظن على بال ما طلعنا، بعد 15 شهر، كل الستات كانت اتاخدت واتعدمت، أو على الأقل عشر ستات، وبعدها العنبر رجع يتملي تاني. الرئيس الحالي لا يحب الحياة.

فاكرة أول مرة نسمع فيها صويت الستات على واحدة بتتاخد، كان يوم 25 يونيو 2014. الموت كان غريب ومرفوض. قفلنا الراديو وسكتنا وعيطنا. على آخر الحبسة فضل الموضوع مؤلم بس كنا اتعودنا عليه؛ اتعودنا على الجلابية الحمرا لما بنشوفها بالصدفة، اتعودنا على إن صريخ الستات على صاحباتهم بقى جزء من الحبسة، واتعودنا على الموت.

أنا حتى بطلت أكتب إمتى بياخدوا كام واحدة زي ما كنت باعمل في أول الحبسة.

فاكرة مرة كنا بنحكي فيها مع واحدة من السجّانات، وقالت لنا إن مش كل الظباط قلبهم جامد، مش كلهم بيقدروا يحضروا الإعدام. ما فهمتش وقتها التضاد ما بين اقتناعهم بشرعية عملهم وعدم قدرتهم على رؤية نتيجته. هل يعني ذلك أن مهمًا كان القتل بيُنفذ باسم القانون، وتحت مسمى «عقوبة على جريمة»، ففي نهاية الأمر هو أمر صعب تقبله عند رؤيته يحدث بشكل فعلي؟

تمثيلية: دخلوا فتشوا «المخصوص» وأخدوا منه حاجات. بعتوا سجّانة تجيب اتنين من المسجونات فيه بحجة إنهم بحجة انهم عاوزين يرجّعولهم حاجاتهم اللي اتصادرت وقت التفتيش. عدت شوية وقت. الكل بدأ يقلق. طلع إنهم أخدوا اتنين المرة دي يعدموهم، بس ما قدروش ياخدوهم مع بعض من العنبر زي كل مرة. يمكن خافوا زمايلهم يعملوا مشكلة.

بحاول استدعي التفاصيل، بس ذاكرتي مش مساعداني، أو يمكن مش عايزة افتكر.

«المخصوص» عنبر مقفول فيه عشر زنازين، كل زنزانة المفروض تكفّي شخص واحد، بس علشان العدد كبير بيحطوا فيها اتنين. كل عنبر قدامه اسم المسجونتين اللي فيه. بتيجي إشارة للسجن من مصلحة السجون بتقول مين اللي هتتعدم، وإمتى.

السجن بيقفل بدري، ظباط وسجانات بيدخلوا العنبر، عارفين هيفتحوا أنهي زنزانة. بياخدوا المسجونة اللي هتتعدم ويخرجوا. الستات تبتدي تصوّت وإحنا نبتدي نحاول نسمع الاسم اللي بينادوه علشان نعرف مين اللي هتموت.

تاهت مني حكاياتهم. مش فاكرة غير الأختين اللي قتلوا سواقين تكاتك علشان ياخدوا التوكتوك يبيعوه. الأختين قتلوا كذا واحد واتمسكوا، واحدة منهم كانت بتقول إنهم فعلًا عملوا كدا وكانت بتدعي ربنا يتقبل توبتها ويغفر لها، والتانية كانت بتقول إنها ما عملتش حاجة وإنها مظلومة.

جوا السجن، الواحد ما يقدرش يعرف مين فعلًا عمل الجريمة اللي متهم بيها، ومين مظلوم. إزاي قاضي يقدر يتأكد ١٠٠٪ إن الشخص اللي هيقتله يستحق الموت فعلًا؟

ضرسي اتكسر وأنا في السجن، ورحت عيادة الأسنان في المستشفى هناك. سمعت الدكتورة بتقول للسجّانة: «مش عايزة حد تاني يجيلي من المخصوص. أنا هاجي، ولو لقيت إن واحدة محتاجة علاج هخليها تيجي العيادة، لكن كل شوية حد يجيلي وهي مفيهاش حاجة، دا ما ينفعش!»

فكرت إن المسجونات غالبًا بيعملوا كدا علشان يخرجوا من العنبر، ويتمشّوا في الشمس ويشوفوا السما والناس. المحكوم عليهم بالإعدام مش بيتمّشوا زي باقي المساجين. بيبقى مسموح لهم بالتريض برا الزنازين، لكن جوا العنبر. والوقت الوحيد اللي الستات دي بتخرج فيه برا العنبر هو لما بيروحوا المستشفى أو بيخرجوا زيارة (زيارتهم مرة واحدة في الشهر بس، مش زي الباقيين؛ مرة كل ١٥ يوم).

بكرة «اليوم العالمي لمناهضة عقوبة الإعدام»، أو اليوم العالمي للدفاع عن الحياة، ودلوقتي فيه أهالي كتير في أي لحظة ممكن يجيلهم خبر إن عيالهم اتقتلوا، أو «اتعدموا».

أوقفوا الجريمة، لا الحياة.
_______________|

الصورة من كراسة يارا التي كانت تدوّن فيها يوميات «المخصوص» أثناء حبسها.

تم نشر هذه التدوينة عبر موقع مدى مصر بتاريخ 9 أكتوبر 2017