ثالثًا: "لا يوجد بديل على المدى القصير"، عبارة خاطئة:

من أهم الأقوال المغلوطة التي تم تسييدها في الخطاب الدارج للسياسة الاقتصادية، هي أن التعويم ضرورة لا غني عنها، لأنها هي البديل الوحيد على المدى القصير.

إلا أن التعويم يعتبر خيارًا سيئًا1. حيث لا يؤدي التعويم إلى القضاء على ندرة الدولار، لأنه لا يعالج السبب في تلك الندرة، وهو هروب الأموال إلى الخارج.

وهكذا، سوف تقترض الحكومة من أجل توفير العملة الصعبة لسد احتياجات الاقتصاد.

ولكن في نفس الوقت سوف يستمر هروب الأموال إلى الخارج، طالما بقيت أسباب عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وطالما بقي التجنب الضريبي مزدهرًا عبر الملاذات الضريبية. ويبقى الدولار شحيحًا، ومن ثم يرتفع ثمنه.

كان من الأجدى أن تتخذ الدولة ـ حكومة وبنكًا مركزيًّا- حزمة من السياسات التي من شأنها القضاء على تسرب الدولارات إلى خارج البلاد.

السياسات البديلة:

هناك سياسات بديلة مؤقتة، كان وما زال هناك ضرورة لتبنيها، وهي فرض قيود مؤقتة وفعالة على أكثر الأشكال ضررًا لخروج رؤوس المال، (تجربة ماليزيا 1997، الأرجنتين 2001، قبرص 2013، آيسلندة، 2014).

في المجمل هناك 37 دولة فرضت قيدًا أو أكثر على خروج رؤوس الأموال خلال الفترة 1995-2010 (Bloomberg, 2015).

وقد فرض البنك المركزي وهيئة سوق المال عددًا من القيود على خروج رؤوس الأموال، خلال السنوات الخمس الماضية، ولكنها كانت قيودًا غير فعالة. لأنها سياسات مجتزأة وغير مكتملة، مثل الحد الأقصى للسحب من كروت الائتمان واستبدال العملات الأجنبية بغرض السفر، والتي فرضها البنك المركزي هذا العام. وكان هذا الإجراء متأخرًا، كما لا يغلق الباب الأكبر من خروج الأموال، أي الفساد، والحد من ضغوط الشركات الدولية.

وقد يرتبط فشل تلك القيود بانتشار الفساد والمحاباة. وهذا يتسق مع بعض التجارب في عدد من الدول النامية. لأن ما قد يحدث عند فرض القيود على خروج رأس المال في بلد نامٍ هو أن بعض النافذين تصبح لديهم قدرة أكبر على الحصول على امتيازات لا يحصل عليها غيرهم من غير النافذين سياسيًّا. مما يزيد الوضع سوءًا (Frankel, J. 2005).

وقد يقال إن هروب الأموال بشكل غير شرعي يحدث في الدول التي تفرض قيودًا كبيرة على خروج الأموال. إلا أن ذلك لا ينطبق على مصر. وفقًا لموقع صندوق النقد الدولي، تتمتع مصر بأكبر قدر من حرية حركة رءوس الأموال الدولية، بل تتفوق على معظم الدول التي تسبقها على سلم التنمية مثل جنوب إفريقيا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك وتشيلي وطبعًا الصين والهند، بل وتسبق عددًا من الدول المتقدمة مثل روسيا وأستراليا، ولا يماثلها حرية سوى عدد من الدول المتقدمة صناعيًّا، مثل كندا والولايات المتحدة وعدد من دول أوربا الغربية.

 

الخلاصة: كان وما زال هناك فرصة لوقف انهيار الجنيه عن طريق فرض قيود مؤقتة على حركة رؤوس الأموال. وهناك بعض التجارب الناجحة التي اتخذت هذا المنهج، بغرض الحد من انخفاض قيمة عملاتها.

هي سياسات الملاذ الأخير. ولكنها تكون ضرورة في حالة اقتصاد هش، يعاني الركود والتضخم.

كما أن تحرير سعر الصرف يسمح بنجاح هذه الخطوة، بعد أن تخلصت السياسة النقدية المصرية من الثالوث المستحيل: التحكم في حركة رأس المال، والتحكم في سعر الفائدة والتحكم في سعر الصرف. يجب أن يكون أحدهم حر الحركة.

إلا أن الأهم والأكثر استدامة وفعالية هو العمل على محاربة خروج رؤوس الأموال بأشكال ولأسباب غير مشروعة، سواء بغرض التجنب الضريبي أو غسيل أموال الفساد. هذا هو جوهر السياسات البديلة.

في غياب سياسات محاربة للفساد لن تنجح القيود على خروج رؤوس الأموال.

 

وفيما يلي بعض أشكال ضوابط خروج رأس المال ووسائل محاربة تهريب الأموال:

فرض ضرائب باهظة على خروج ما يسمى برؤوس الأموال الساخنة.

وضع قيود على خروج الاستثمارات (رفع التكلفة، التفاوض حول البقاء).

وضع حوافز ضريبية للشركات التي تحتفظ بما لا يقل عن نصف أرباحها لإعادة استثمارها داخل مصر (أو فرض إعادة استثمار نصف الأرباح في قانون الاستثمار، مثال الجزائر).

فرض ضرائب على الشركات التي تملك فروعًا في ملاذات ضريبية، أو يتخذ مؤسسوها من الملاذات الضريبية مقرًّا لهم (على غرار الضريبة في إنجلترا، والولايات المتحدة الأمريكية).

الانضمام إلى قاعدة بيانات الدول التي تتبادل آليًّا المعلومات البنكية عن عن انتقال الأموال (96 دولة انضمت حتى الآن). وهي آلية، تبنتها مجموعة العشرين ونادي الدول الغنية (OECD)، خاصة بتتبع تهريب الأموال إلى الملاذات الضريبية. وفي نفس الإطار تقترح منظمة النزاهة المالية الدولية أن تُلزم كل دولة الشركات العالمية المستثمرة لديها بأن تعلن أرباح الشركة عن كل دولة على حدة وبشكل مفصل لتفادي تحويل الأرباح إلى الفروع المقامة في البلدان التي لا تفرض ضرائب (Global Financial Integrity، 2015). (بحيث يتم تفادي أن يظهر كل عام أن فرع الشركة في دولة مثل مصر يحقق خسائر أو أرباحًا ضئيلة، حتى لا يدفع ضرائب في مصر).

محاربة تحويل الأرباح إلى الخارج عن طريق المبالغة في تقدير قيمة فواتير الاستيراد والتقليل من قيمة فواتير التصدير، وهو الشكل الأكثر انتشارًا لهروب الأموال بطريقة غير مشروعة في مصر وفي العالم، إذ يمثل في المتوسط 83.4% من إجمالي الأموال المهربة عبر العالم (Global Financial Integrity، 2015). وهذا عن طريق تدعيم دور الجمارك وتدريب كوادرها. وأبسط أداة لتمكينهم هي إمدادهم بالحواسيب اللازمة لاطلاعهم المستمر أولًا بأول على أسعار السلع في الأسواق العالمية. ثم يأتي بعد ذلك التحقيق عند اكتشاف تباينات كبيرة في الأسعار (Global Financial Integrity، 2015).

وأخيرًا وليس آخرًا، تأسيس لدولة القانون، ومحاسبة الفاسدين في كل من القطاع الحكومي والقطاع الخاص. دولة النزاهة لا دولة المحاباة هي ما تجذب المستثمرين المصريين والأجانب، وهذا ما يرفع قيمة الجنيه.

1 يتناول الملحق 1 عيوب التعويم في الحالة المصرية، وذلك لشرح لماذا يعتبر غير مناسب للمعطيات الاقتصادية والاجتماعية المصرية.