التشريعات المنظِّمة لبناء وترميم الكنائس في مصر: نظرة تاريخية نقدية

يعد بناء وترميم الكنائس أحد الأسباب الرئيسية ﻷحداث العنف الطائفي، في ظل اﻹطار القانوني الغامض والمقيد، والتي تجعل من عملية بناء كنيسة جديدة مهمة صعبة تكاد تكون مستحيلة، وهو ما كان مثار نقد ومعارضة قوى مجتمعية وسياسية متنوعة لم تقتصر على الكنيسة أو المواطنين الأقباط، باعتبار أن استمرار هذه القيود يهدر حقوق المواطنة، ويرسخ للممارسات التمييزية.

لذلك، تعالت الأصوات التي تطالب بوضع قانون جديد لتنظيم بناء دور العبادة خلال السنوات الأخيرة لحكم الرئيس اﻷسبق محمد حسني مبارك، ثم تزايدت عقب ثورة 25 يناير 2011، وما اقترن بها من فتح المجال العام جزئياً أمام مشاركة جميع المصريين ومن بينهم الأقباط بالطبع. ومع تكرار الاعتداءات الطائفية، بدأت حكومة الدكتور عصام شرف في مناقشة القانون، إلا أن رفض المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية و بعض القوى السياسية اﻹسلامية لوجود قانون يضم المساجد والكنائس معا، سد الطريق على صياغة هذا التشريع، وخفت الأصوات المطالبة بهذا القانون خصوصا مع وصول جماعة الإخوان لرئاسة الجمهورية.

وقد ألقت التوازنات السياسية عقب إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم، بظلالها على عملية صياغة الدستور الجديد في 2013، حيث رفعت مطالب كنسية ومدنية بضرورة وضع قانون منصف وعادل لبناء الكنائس يعالج الخلل التشريعي القائم. ووافق أعضاء لجنة الخمسين على مادة في باب اﻷحكام العامة واﻻنتقالية توجب على البرلمان الحالي أن يصدر في أول دور انعقاد قانون لبناء وترميم الكنائس يتيح ممارسة الشعائر الدينية.

إشكالية بناء الكنائس هي إشكالية قديمة. وربما تعود أصولها مع دخول الإسلام مصر العام 641، حيث سمح عمرو بن العاص للأنبا بنيامين بطريرك كنيسة الإسكندرية ببناء ما هدم من كنائس وأديرة وقت هرقل الحاكم الروماني الخلقدوني المختلف مذهبياً عن الأقباط. فيما بعد لم يكن هناك قواعد أو سياسة واضحة وثابتة للخلفاء المسلمين على اختلافهم أو الولاة على مصر فيما يخص تنظيم بناء الكنائس وتجديدها، أو حتى سياسة ثابتة لحاكم واحد.1

كان التعامل مع المسيحيين وتنظيم ممارساتهم للشعائر الدينية أحد الأدوات المهمة التي استخدمها الحكام للتأثير في المحكومين المسلمين. فقد قسم المحكومون المصريون إلى درجات، منهم الموالي والعامة والرعايا وأهل الذمة، وكانت هناك فروق بين المسلمين العرب وبين المسلمين المصريين الذين تحولوا إلى الإسلام، ومن أجل ترسيخ هذا التقسيم وضع المسلمون المصريون في مستوى أعلى من المسيحيين المصريين، ولجأ الحكام في الكثير من اﻷحيان إلى تدعيم شرعيتهم أو استرضاء المسلمين من خلال اضطهاد الأقباط، والذي وصل إلى هدم الكنائس المحدثة سواء بفعل مباشر من السلطة أو بالتغاضي عما يقوم به العامة.2

وقد شهد الواقع صراعًا مريرًا، حيث كان الأقباط يقاومون هذه الممارسات عبر مخاطبة الولاة والخلفاء للشكوى من الممارسات التي يتعرضون لها. وهذا، ما جعل البعض يحيل غياب سياسة ثابتة فيما يخص بناء الكنائس إلى الظرف الاجتماعي والسياسي وليس إلى النص الديني. فمثلًا أثناء حكم الخليفة هارون الرشيد، قام علي بن سليمان بهدم الكنائس المحدثة بمصر، ثم جاء بعده الوالي موسى بن عيسى في نفس خلافة هارون الرشيد وأذن للأقباط ببناء الكنائس التي هدمت من قبل لأسباب غير دينية بل واعتبرها جزءًا من عمارة الأرض.

استمر الحال على حسب طبيعة الحاكم وعلاقته بكبار الأقباط وبابا الكنيسة الأرثوذكسية، حتى وقع متغير جديد، عندما أصدر الخليفة العثماني السلطان عبد المجيد الأول في 18 فبراير عام 1856 ما يعرف بالخط الهمايوني، وذلك بغرض الإصلاحات الدينية في الولايات العثمانية، وفي إطار الصراع بين الدولة العثمانية والقوى الأوربية. ويعني "الخط الهمايوني" الخطاب أو التوجيه أو البيان الموجه من الباب العالي. وتعهد الخليفة العثماني في الخط الهمايوني المذكور بالإبقاء على الحقوق الدينية للطوائف والملل الخاضعة لسلطان الدولة العثمانية، والتي سمَّاها "بالامتيازات والمعافات الروحانية"، ومن هذه الامتيازات بناء الكنائس وتجديدها، أو أي دار ذات طبيعة دينية أو مختصة بطائفة دينية أو ترميم القديم منها.

يقسم الخط الهمايوني طريقة التعامل مع ممارسة الشعائر الدينية إلى نوعين: الأول الأماكن التي لا يوجد فيها اختلاط طوائف، وسكانها من نفس الطائفة، وهنا لا توجد مشكلة للطائفة أو صعوبة في ممارسة الشعائر الدينية علنًا، أما النوع الثاني الخاصة ببناء دور عبادة لغير المسلمين في الأماكن التي تحتوي على سكان متنوعي الأديان فيكون الترميم بحسب ما هو قائم من إجراءات. أما بناء الكنائس الجديدة فيكون بحسب ترخيص من الباب العالي.

ويذهب بعض الخبراء إلى أن الخط الهمايوني هو نص ليس له صفة التشريع الملزم، معللين ذلك بأن الخط الهمايوني مثله مثل أي خطاب يصدر عن رئيس الدولة ليس له صفة التشريع الملزم خلافًا للفرمان، كما أن جريدة الوقائع المصرية الجريدة الرسمية المخصصة لنشر القوانين والتشريعات، والتي تصدر منذ عام 1830 لم ينشر فيها هذا الخط الهمايوني ومن ثم لا يكون قد اكتسب صفة التشريع الملزم. وكانت مصر وقت صدور الخط الهمايوني تتمتع باستقلال تشريعي معتبر بحسب إجماع المؤرخين والقانونيين. وبالتالي فهذا الخط، وفقًا لوجهة النظر تلك، كان موجهًا إلى الجماعات المسيحية التي قبلت بنظام الملل في الشام وهو النظام الذي لم تعرفه مصر.3

لكن هذا الرأي يواجه بما يحدث على أرض الواقع من حيث جريان العادة على صدور قرارات بناء الكنائس الجديد من قبل رأس الدولة سواء كان الخديوي أو الملك أو رئيس الجمهورية. هذا إضافة إلى ما أقره مجلس الدولة في عدد من الأحكام القضائية بسريان الخط الهمايوني، وأنه حتى الآن ما زال جزءًا من التشريع المصري، وما يترتب عليه من ضرورة صدور ترخيص بالكنائس من رأس الدولة حتى يصدر تشريع بديل لهذا الخط.

وفي الواقع فحين صدر دستور 1923 فقد تضمن في المادة 167 استمرار نفاذ القوانين والمراسيم السابقة على صدور الدستور بشرط عدم تعارضها مع مبادئ الحرية والمساواة، وهي مادة استمرت في الدساتير التالية وإن اختلفت صياغتها بعض الشيء. كما تضمن دستور 1923 في المادة 153 الإحالة إلى قانون ينظم طريقة مباشرة الملك لسلطته فيما يختص بالأديان المسموح بها في البلاد. وفي هذا اﻹطار صدر قانون 1927 لتنظيم عمل المعاهد الدينية وطريقة اختيار الرؤساء الدينيين، وهو القانون الذي كان يستخدم حتى وقت قريب في ديباجة القرارات الجمهورية الصادرة ببناء الكنائس، بالرغم من عدم تناوله لموضوع إنشاء دور العبادة للمسيحيين.

بغض النظر عن القوة القانونية للخط الهمايوني ودستوريته وأسباب صموده طوال العقود الماضية، لكنه لم يتضمن إجراءات محددة وواضحة لبناء الكنائس بخلاف موافقة الباب العالي. أما أول إجراءات إدارية تفصيلية متعارف عليها لتنظيم بناء الكنائس فكانت تلك التي وضعها وكيل وزارة الداخلية العزبي باشا عام 1934 والمعروفة بشروط العزبي باشا العشرة، والتي وضعت بعد الانقلاب على دستور 1923 والحكم الديمقراطي إبان رئاسة إسماعيل صدقي للحكومة وإقرار دستور 1930 المقيِّد للحريات. وجاءت الشروط العشرة انعكاسًا لهذه المرحلة، فكانت أقرب إلى منع بناء الكنائس منها إلى إتاحة البناء.

ويمكن تقسيم شروط العزبي باشا والتي تعيق بناء الكنائس إلى أربعة أنواع من الشروط، كالتالي:

أولًا: شروط خاصة بالمسيحيين، منها عدد أفراد الطائفة التي تريد بناء الكنيسة، وهل توجد للطائفة المذكورة كنيسة أخرى بالبلدة بخلاف المطلوب بناؤها، وإذا لم يكن هناك كنيسة فما المسافة بين البلدة وأقرب كنيسة لهذه الطائفة.

ثانيًا: شروط لها علاقة بالمسلمين في المنطقة، منها مقدار المسافة بين الكنيسة وبين المساجد والأضرحة في الناحية، واذا كانت الأرض فضاء، فهل هي وسط أماكن المسلمين أو المسيحيين، وإذا كانت وسط أماكن المسلمين فهل يوجد مانع من بنائها.

ثالثًا: شروط خاصة بالأرض المراد بناء كنيسة عليها، وهل هي من الأراضي الفضاء أو أراضٍ زراعية، وهل هي قريبة من الجسور والترع، وضرورة أخذ رأي الهيئات المختصة في هذا الشأن.

رابعًا: شروط خاصة بالإجراءات، كأن يقدم رئيس الطائفة والمهندس طلبًا بالرسم الهندسي، وأن يحرر محضرًا رسميًّا بالتحريات.

تغير خلال العقود التي تلت العزبي باشا نظام الحكم في مصر من النظام الملكي إلى الجمهوري، وتعاقب رؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات عدة، لكن أيًّا منهم لم يقم بوضع قانون منصف لبناء الكنائس أو حتى بإلغاء شروط العزبي باشا، والتي تستخدم حتى اليوم في تعقيد عملية بناء الكنائس.


أما فيما يخص ترميم الكنائس والهدم وإعادة البناء فقد صدرت عدة قرارات جمهورية للتسهيل على المواطنين نظريًّا أهمها:

1- القرار الجمهوري رقم 13 لسنة 1998، وذلك لتفويض المحافظين كل في نطاق محافظته بمباشرة اختصاصات رئيس الجمهورية الخاصة بالترخيص للطوائف الدينية بتدعيم الكنائس وترميمها.

2- القرار الجمهوري رقم 453 لسنة 1999، وهو يمنح الجهة الإدارية المختصة بشئون تنظيم كل محافظة حق إصدار التراخيص لترميم دور العبادة.

3- القرار الجمهوري رقم 291 لسنة 2005 بتفويض المحافظين بإصدار تراخيص البناء أو إجراء توسعات في الكنيسة.

أما فيما يخص الأحكام القضائية الخاصة ببناء وترميم الكنائس، فبعضها جاء مؤيدًا لحق ممارسة الشعائر الدينية للمسيحيين، وانتقد ممارسة وزارة الداخلية المقيدة للبناء، وبعضها أيد ممارسات الوزارة مستندًا إلى الخط الهمايوني وشروط العزبي باشا. نعرض لعدد من هذه الأحكام والفتاوى الصادرة عن مجلس الدولة في هذا الخصوص:

فتوى رقم 145-3-23 بتاريخ 20 إبريل 1949، بأن الاجتماعات التي يعقدها بعض أفراد الأقباط لدراسة الكتاب المقدس أو لإلقاء محاضرات دينية أو اجتماعات لا يختلف حالها عن حال الكنائس والمعابد التي تقام بها الشعائر الدينية من حيث وجوب استصدار أمر ملكي بها.

الحكم رقم 269 لسنة 4 قضائية بتاريخ 26 فبراير 1952 بإلغاء قرار وزير الداخلية برفض الترخيص بإنشاء كنيسة بمدينة بور فؤاد بمحافظة بور سعيد على أساس قلة عدد أفراد الطائفة، وأكد الحكم أنه لا يوجد حد أدنى لعدد الأفراد الذين يحق لهم إقامة كنيسة. وكانت الوزارة قد امتنعت عن مواصلة إجراءات استصدار مرسوم ملكي بالترخيص بالكنيسة وفق الخط الهمايوني. وقال الحكم إن إقامة الشعائر الدينية لكل الطوائف قد كفلها الدستور في حدود القوانين والعادات المرعية، ولم يشر الحكم إلى الخط الهمايوني.
 

الحكم في القضية 615 لسنة 5 قضائية بتاريخ 16 ديسمبر 1952، أكد أن الترخيص مطلوب لتغيير صفة المبنى إلى معبد ديني، ولكنه ليس ذريعة لوقف النشاط الديني والاجتماعات الدينية المكفولة وفق الدستور حتى ولو لم يصدر الترخيص، حيث قضى بإلغاء قرار لوزارة الداخلية بوقف الاجتماعات الدينية في كنيسة لم تحصل على ترخيص ملكي. 4

وقال نص الحكم:

"اشتراط ترخيص في إنشاء دور العبادة على نحو ما جاء في الخط الهمايوني لا يجوز أن يتخذ ذريعة لإقامة عقبات في إقامة دور العبادة لا مبرر لها دون إنشاء هذه الدور مما لا يتفق مع حرية إقامة الشعائر الدينية إذ أن الترخيص المنصوص عليه لم يقصد عرقلة إقامة الشعائر الدينية، بل أُريد به أن يرُاعى في إنشاء دور العبادة، الشروط اللازمة التي تكمل بأن تكون هذه الدور قائمة في بيئة محترمة تتفق مع وقار إقامة الشعائر الدينية وطهارتها وألَّا تكون سببًا في الاحتكاك ما بين الطوائف الدينية المختلف". وأكد أن حرية الاجتماع الديني ضمن الحريات التي يحميها الدستور ومن ثم يكون الأمر بتعطيل الاجتماع الديني قد وقع باطلًا مما يتعين على القضاء بإلغاء الامر المطعون فيه فيما تضمنه من منع الاجتماعات الدينية.

فتوى رقم 524 بتاريخ 27 أكتوبر 1952 الصادرة عن قسم الرأي بمجلس الدولة، وخالفت الحكمين السابقين، وأكدت الاحتكام إلى التعليمات التي وضعتها الوزارة (الداخلية) للسير بمقتضاها عند النظر في طلبات إنشاء الكنائس، وأن ذلك لا يتعارض مع حرية إقامة الشعائر الدينية إنما على إخضاع دور العبادة إلى إذن من الإدارة وفقًا للخط الهمايوني.

رفضت محكمة القضاء الإداري عام 1959 طعنًا على قرار الداخلية معتبرة أن "لها حق التقدير في ضوء الصالح العام توقيًّا من حصول الفتن والاحتكاكات بين المسلمين والأقباط".

وفي حكم آخر في القضية 1416 لسنة 7 القضائية، جلسة 30 مايو 1964، قبلت المحكمة الطعن على قرار الوزارة، واعتبرت تقديرها غير سليم لأن المكان الذي رفضت إقامة كنيسة به توجد به كنائس لطوائف مسيحية أخرى ولم يحدث أي إخلال بالأمن.
ونص الحكم في الطعن رقم 8364 لسنة 48 قضائية عليا، جلسة 2 إبر يل 2008 الصادر عن المحكمة الإدارية العليا على أن موافقة وزارة الداخلية أو عدم موافقتها ليس قرارًا إداريًّا مستقلًّا يمكن الطعن عليه بل هو مجرد إبداء رأي للسلطة المختصة بالترخيص للكنائس وهي رئاسة الجمهورية.

حكم الدائرة الأولى للقضاء الإداري في الدعوى رقم 7635 لسنة 10 قضائية بتاريخ 26 فبراير 2013، يخص سلطة إصدار تراخيص هدم الكنائس القائمة وإعادة بنائها، وألغى الحكم قرارًا جمهوريًّا بتفويض المحافظين في إصدار تراخيص هدم الكنائس القائمة وإعادة بنائها، وقال الحكم إنها ليست من صلاحيات رئيس الجمهورية لكي يفوِّض المحافظين، وقال الحكم إن الكنيسة تخضع لنوعين من الترخيص، الأول هو ترخيص بالنشاط الديني، والثاني خاص بقواعد البناء مثل أي مبنى عادي. وأكد الحكم أنه بحصول الكنيسة على ترخيص رئيس الجمهورية بالنشاط فلا تحتاج إليه مرة ثانية عند إعادة البناء أو الترميم أو التوسيع ومن ثم يصبح تفويض رئيس الجمهورية للمحافظين ليس له سند قانوني، وأن الترميم يخضع فقط للقواعد المعمول بها للبناء بشكل عام وترخيص الإدارة المحلية في هذا الصدد، ويستوي في ذلك أن يكون المبنى مسجدًا أو كنيسة أو سيخصص لأي نشاط آخر.

الهوامش

1-القوانين المتعلقة بحرية العبادة ( بناء الكنائس نموذجًا)، سمير مرقس، منتدى البدائل العربي للدراسات2012 .

2-المواطنة المصرية حركة المحكومين نحو المساواة والمشاركة، وليم سليمان قلادة، الهيئة المصرية العامة للكتاب2015.

3-مصدر سابق.

4-ترخيص بالصلاة، أزمة حرية اتخاذ دور العبادة في مصر، عمرو عزت، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ديسمبر 2014